لا يخفى على أى مراقب أن الواقع السياسى المصرى بات أسيرا لثنائية خطيرة هى ثنائية الاستبعاد، والاحتجاج. هناك تراجع مطرد على مدار العقدين الماضيين للقاعدة الاجتماعية للدولة المصرية، التى كاد أن ينفرد بها تحالف الشريحة العليا من البيروقراطية مع كبار رجال الأعمال (التحالف الذى بات يرى فى كل مكان، من لجنة السياسات الشهيرة فى الحزب الوطنى، إلى رئاسة القسم الأكبر من اللجان البرلمانية فى مجلس الشعب، إلى تركيبة الحكومة ذاتها منذ تشكيل حكومة الدكتور نظيف الأولى فى صيف 2004). لم يعد العمال جزءا أساسيا من الشرائح المستفيدة من الدولة بعد التهميش الذى لحقهم جراء عقدين من برنامج الخصخصة توجهما قانون العمل الموحد فى 2003. أما الفلاحون ومستأجرو الأراضى فقد تكفل بتهميشهم قانون الإيجارات الزراعية (القانون 92 لعام 1996). وقد ردت هذه الشرائح المستبعدة بالاحتجاج. وهكذا، تشهد مصر منذ عام 2006 أطول موجة احتجاج عمالى منذ نشأة العمالة الصناعية فى مصر، كما كان السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين مسرحا لأعنف موجة احتجاج فى الريف المصرى (خاصة فى الدلتا). ومع ذلك، فإن المراقب للمشهد السياسى المصرى لا يملك إلا أن يلاحظ هيمنة معارك الطبقة الوسطى المصرية دون غيرها من الشرائح التى تتعرض للتهميش. يكفى مثلا أن نتابع السجال الحامى حول الضريبة العقارية (التى تمس أساسا الطبقة الوسطى فى المدن، ممن وضعوا مدخراتهم خلال العقدين الماضيين فى السوق العقارية سواء بغرض السكن، كما فى حال الأغلبية العظمى، أو بغرض الاستثمار). فقد أدى احتجاج الطبقة الوسطى على الضريبة إلى تصريح الرئيس مبارك الشهير بأنه بصدد إعادة دراسة الموضوع (بعد أن كان القانون الخاص بالضريبة قد صدر فعلا عن مجلس الشعب). يمكن أيضا ضرب أمثلة أخرى على فعالية وكفاءة الطبقة الوسطى فى الاحتجاج، بدءا من أزمة العلاج على نفقة الدولة التى تدور رحاها فى الأسابيع الماضية داخل مجلس الشعب وعلى صفحات الجرائد وسائر وسائل الإعلام، مرورا بالعراقيل التى وضعتها الطبقة الوسطى بنجاح حتى الآن أمام تحويل الدعم العينى إلى دعم نقدى يقتصر على ذوى الدخل الأدنى فقط، دون الطبقة الوسطى، ووصولا إلى نجاحها فى فرض قضية التعديل الدستورى مجددا على النقاش السياسى فى مصر. الطبقة الوسطى إذن هى الأقدر على إيصال صوتها، وهى الأكفأ فى فرض أجندتها وطرح همومها. لماذا؟ الإجابة ببساطة لا يمكن أن تكون مجرد الحجم الكبير لهذه الطبقة (تتراوح التقديرات بين 20 و35 مليون مواطن)، فهى ليست أكبر مثلا من حجم العمال والفلاحين. واحتجاجاتها لا تقارن بقوة احتجاجات العمال والفلاحين. رغم ذلك، فإن أهمية احتجاج الطبقة الوسطى تنبع بالأساس من أنها ظلت على مدار القرنين الماضيين اللاعب السياسى الأول فى مصر. فمنها كان تحالف الأفندية والضباط الذى قاد الثورة العرابية، ومنها كانت طبقة الأفندية والحقوقيين التى كانت واجهة ثورة 1919 التى دشنت الحقبة الليبرالية التى يعتبرها بعض المراقبين العصر الذهبى للطبقة الوسطى المصرية. وكان التراجع المطرد فى دور الطبقة الوسطى داخل حزب الوفد منذ منتصف الثلاثينيات، إيذانا ببدء أزمة النظام الليبرالى برمته. ومع اتجاه عناصر الطبقة الوسطى لأحزاب أكثر راديكالية وأقل إيمانا بالليبرالية (الإخوان، مصر الفتاة، الحركة الشيوعية) وبالأخص مع دخولها الجيش المصرى بعد معاهدة 1936 التى أتاحت لأبناء الطبقة الوسطى الريفية بشكل خاص دخول الجيش لأول مرة.. كانت هذه التحولات إعلانا عن انتهاء الحقبة الليبرالية، ومقدمة موضوعية لثورة 1952، التى دشنت حقبة جديدة من حكم الطبقة الوسطى، وإن بأدوات وآليات مختلفة جذريا عن الحقبة الليبرالية. الخلاصة، هى أن هذه الطبقة اعتادت الوجود فى طليعة المشهد السياسى، ولها تراث فى لعبة الحكم بتجلياتها المختلفة يقترب عمره من قرنين (من هنا جاءت التسمية الشهيرة التى أطلقها عليها الراحل العظيم أحمد بهاء الدين باعتبارها «حاملة مشاعل النهضة»). لهذا، عندما وجهت هذه الطبقة بالتهميش منذ نهاية التسعينيات (نتيجة الصعود الصاروخى لنفوذ رجال الأعمال، وارتفاع معدلات التضخم التى أفقرت الطبقة الوسطى ذات الدخل الثابت غير المتناسب مع الأسعار التى ترتفع باطراد...الخ)، أقول إن هذه الطبقة عندما وجهت بالتهميش، لم تقتصر على الاحتجاج المطلبى والقضايا المعيشية المباشرة، كما فعلت الطبقة العاملة وشريحة الفلاحين وصغار مستأجرى الأراضى، وإنما قفزت فورا لطرح قضية الحكم، باعتبارها جوهر دورها السياسى، والقاعدة الأساسية لوضعها الاجتماعى المتميز (والمهدد بالتهميش إن خرجت من الحكم). وتعددت أشكال الحلول التى اقترحتها الطبقة الوسطى لقضية الحكم فى مصر (من المطالبة بتعديلات دستورية واسعة بدءا من عام 2005، إلى رفع شعار الدفاع عن «القلب الصلب للدولة» حسب التعبير الشهير الذى صكه الباحث اللامع ضياء رشوان عام 2007، إلى الالتفاف فى عام 2010 حول الدكتور محمد البرادعى، الذى بدا بهيئته وخطابه السياسى ونبرة تصريحاته، وكأنه الممثل التقليدى الطبقة الوسطى الليبرالية، وقد بعث مجددا فى القرن الحادى والعشرين بعد غيبة 50 أو 60 عاما). قضية مستقبل النظام السياسى المصرى هى إذن، على الأقل فى جزء كبير منها، قضية مستقبل الطبقة الوسطى المصرية حاملة مشاعل النهضة فى مصر. إذ يبدو جليا أن الطبقة الوسطى لاتزال تعتبر أن جعبتها السياسية لم تنفذ، وأنها قادرة على التصدى للمسألة المصرية فى مطلع القرن الحادى والعشرين، كما تصدت لها بأجنحتها المختلفة فى كل منعطف رئيسى خلال القرنين الماضيين. يبدو واضحا أيضا أن الطبقة الوسطى ترفض تهميشها لصالح كبار رجال الأعمال. لذا ليست مصادفة أن يشهد عام 2010 تزامن ارتفاع عقيرة هذه الطبقة بالاحتجاج، وبطرح مسألة الحكم، مع فتح ملف الفساد وممارسات تحالف «الثروة والسلطة» (اقرأ: تحالف كبار رجال الأعمال، والشريحة العليا من البيروقراطية على حساب الطبقة الوسطى) بشكل غير مسبوق. فعام 2010، هو عام الحسم فى مصر. فى أوله حسمت «ترتيبات الحكم» فى أكبر تنظيم معارض فى مصر (الإخوان المسلمين). وفى أوسطه تجرى الانتخابات النيابية التى تمهد لترتيب «الجانب التشريعى» من لعبة الحكم فى مصر. وفى نهايته يعقد المؤتمر السنوى للحزب الوطنى، الذى سيعلن مرشح الحزب فى الانتخابات الرئاسية، ويعلن عمليا شكل وترتيبات هذه الانتخابات أم المعارك فى النظام السياسى المصرى. وإذا قلنا إن «ترتيبات الحكم» ستحسم عمليا فى 2010، فقد قلنا إن «معركة الطبقة الوسطى» ستحسم فى 2010. الطبقة الوسطى، التى كانت فى قلب لعبة الحكم فى النظام السياسى المصرى بأشكاله المختلفة منذ القرن التاسع عشر، تخوض الآن «معركة العمر» فى مواجهة تحالف كبار رجال الأعمال وكبار البيروقراطيين. وما لم تحدث صفقات سياسية كبرى خلال العام (لا توجد مؤشرات عليها حتى الآن) بين الطرفين، فإن عام 2010 سيشهد معركة الحسم الأهم لدور الطبقة الوسطى العتيدة.. حاملة مشاعل النهضة المصرية!!