الكثير من مثقفى الهند، مثلنا، ينزعجون من صورة أحشاء مدنهم علي الشاشة، خاصة إذا جاءت من خلال عين أجنبية، وهذه الحساسية ربما تفسر المقالات السلبية التى نشرت فى صحافة الهند، ووصفت الفيلم بالتجنى والافتراء. في ذات الوقت، حصد المليونير عددا لا يستهان به من جوائز الأوسكار، فمن نصدق؟ «مومباى» شأنها شأن معظم المدن الكبرى، جانب فيها ينبض بالفساد والسفالة، وبالتحديد فى المناطق الفقيرة، حيث يصبح سكانها، فى المناخ الفاسد، موردا بشريا لعصابات النصب والدعارة والتسول وترويج المخدرات والسرقة، فأحياء الصفيح والمناطق العشوائية لا يخرج منها الملائكة، وهذا ما رصدته عشرات الأفلام فى سينمات العالم، بما فى ذلك الأفلام الفرنسية والبريطانية والأمريكية، مع اختلاف مستوى تعاسة الشوارع الخلفية فى «العالم الأول»، عن عشوائيات العالم الثالث، لذا لا أظن أن المخرج البريطانى «دانى بوبل» تعمد الإساءة إلى الهند، وهذا لايعنى أن «المليونير المتشرد» من الأعمال العظيمة أو الكبيرة. تتوالى مشاهد الفيلم بطريقة «الفلاش باكات» أو العودة إلى الماضى، جمال مالك، الشاب النابه، القادم من قاع المدينة، يجيب عن أسئلة برنامج «من يربح المليون»، فى نسخته الهندية طبعا، التى تتطابق فى ديكوراتها وموسيقاها مع النسخة العربية، بل يذكرنا المذيع الهندى، فى تلاعبه بأعصاب المتسابق بمذيعنا المرموق، المحبوب، جورج قرداحى، ولكن ثمة اختلافا جوهرىا بينهما، فالمذيع الهندى هو نفسه منتج البرنامج، أى أن الأموال التى سيربحها المتسابق ستكون من جيبه، لذا يتعمد الإيحاء بالإجابة الخطأ، ويحاول إقناع جمال مالك بالانسحاب، مدعيا الخوف عليه من ضياع مكاسبه، وأخيرا تتولى الشرطة استجواب جمال مالك، بالطرق المعهودة، كى يقر بالطريقة الاحتيالية التي يعرف بها الإجابات، لكن المتسابق الذى تعود البطش به يتحمل، يواصل، يكسب فى النهاية. التقطيع أو «المونتاج» فى الفيلم علي درجة عالية من الإتقان، فعلى الرغم من كثرة النقلات، من الحاضر إلى الماضى، ومن مكان لآخر، فإن «المليونير..» يتدفق بنعومة، وينجح فى تقديم بانوراما أو لوحة جدارية لمدينة، بما فيها من بشر. يرتد أحد «الفلاشات» إلى طفولة «جمال مالك» وشقيقه «سليم»، يوم هاجم الهندوس المسلمين، وقتلت والدتهما، وأصبح الولدان من ساكنى الخرائب، ومعهما صبية اسمها «لاتيكا»، سيخفق قلبها بحب «جمال».. وفى «فلاش» تال، يقع الثلاثة فى قبضة عصابة تنظيم متسولين، وها هو «زيطة» صانع العاهات عند نجيب محفوظ، يطالعنا ،هنديا، يحذر الأطفال ويصب المواد الحارقة فى عيونهم، ويهيأهم للشحاذة، لكن الثلاثة يهربون فى اللحظة المناسبة يصعدون إلى سطح قطار، ولا يفوت المخرج أن يرصد المزيد من الأطفال الضائعين، الهائمين، فوق سطح القطار. ينخرط «سليم» فى تجارة المخدرات، وتعمل «لاتيكا» فى بيت للدعارة، وينتقل «جمال» من مهنة لأخرى، وتستوعب ذاكرته اليقظة مئات التفاصيل التى تسعفه أثناء إجابته فى برنامج «من سيربح المليون».. وبعد أن يربح يتمكن من استرداد حبيبته، ونفاجأ، مع النهاية، بمجموعة متوالية من الرقصات الاستعراضية فى محطة قطار، يشارك فيها أعداد ضخمة من الشباب، لماذا، ومن أين جاء كل هؤلاء، وما هى العلاقة بين الاستعراضات التى قد تكون جميلة فى حد ذاتها، لكنها تتنافر مع أسلوب الفيلم المتسم بالواقعية، هنا لابد أن يتساءل المرء، متشككا، فى المعايير المتبعة لمنح الأفلام جوائز الأوسكار. «المليونير المتشرد» قدم لوحة جدارية فعلا، لكن من السطح فقط، فيكاد يكون مجرد «عرض حال»، وبالتالى يندرج فى باب الواقعية المزيفة، التى تقدم الظاهرة دون الإشارة لأسبابها، متجاهلا دور بريطانيا فى تأجيج الصراعات الطائفية، ومتناسيا ممارسات الشركات الأمريكية الكبرى، بمصانعها العملاقة، المقامة فى العديد من دول العالم الثالث، ومنها الهند التى اختنق الآلاف من أبنائها بسبب الغاز السام الذى تسرب من مصنع كيماويات للعم سام، وتشتت الآلاف، ليقيموا فى مناطق عشوائية داخل بيوت من صفيح.. العمل الكبير هو العمل الذى يرى الواقع ولا يكتفى بتصويره، وهذا مالا يتوفر فى «المليونير..».