فى نفس اليوم تصدّرت أخبار من الهند وباكستان نشرات الأنباء العالمية. فقد حصل فيلم هندى على ثمانى جوائز أوسكار، سبع منها ذهبت لمواطنين هنود مُسلمين. وعاش مسلمو الهند ليلة فرحة وبهجة غير مسبوقة، منذ عام 1947. وفى نفس اليوم وقّعت حكومة باكستان صاغرة اتفاقاً مع الجناح الباكستانى لحركة طالبان المتطرفة، لوقف إطلاق النار فى أحد أقاليمها الغربية مُقابل السماح بتطبيق «الشريعة»!. أما قصة إبداع المسلمين فى الهند، فقد روتها حقائق ووقائع فيلم هندى عن ولد من أولاد الشوارع، اسمه جمال، ولد وترعرع مثل «شوك برى» فى إحدى عشوائيات مدينة «مومباى». وقد فعل جمال كل ما يفعله أولاد الشوارع. كما فُعل بجمال كل يُفعل بأولاد الشوارع. فقد تعلم ومارس السرقة والفسق والفجور لكى يعيش، ويكسب قوت يومه.. ثم إنه أحد أبناء الأقلية المسلمة فى مدينة ومجتمع أغلبيتهما من «الهندوس». فتعرض إلى جانب فقره إلى ما يتعرض له أبناء الأقليات من تمييز، رغم حرص الدولة الهندية العلمانية على احترام حقوق المواطنة. ورغم هذه النشأة البائسة، إلا أن الطفل، ثم الفتى جمال، كان يتمتع طبقاً لقصة الفيلم بذكاء حاد. كما كان له قلب قادر على الحب والتعاطف والعطاء مع أهله والبنات من عُمره. ومع أحداث القصة، ومع شخصية هذا الفتى وقدراته وأساليبه «الشرعية» و»غير الشرعية»، يُصبح جمال «مليونيراً». ومن هنا اسم الفيلم الذى لا أعلم كيف ستتم ترجمته إلى العربية. ولكن العنوان الذى حصد به أكبر عدد من جوائز الأوسكار لعالم 2009، هو «كلب العشوائيات المليونير». وكان كل نجوم الفيلم من أبناء وبنات تلك العشوائية فى أكبر المدن الهندية مومباى (بومباى سابقاً). وهى نفس المدينة التى كانت مسرحاً لأبشع حادث إرهابى يقع فى الهند والعالم قبل ثلاثة شهور، وراح ضحيته أكثر من مائة وسبعين قتيلاً، وأضعافهم من الجرحى، من نزلاء أفخم فنادق المدينة. وكشفت تحقيقات السُلطات الهندية والباكستانية، أن الإرهابيين الذين ارتكبوا الحادث، لم يأتوا من أى من مناطق مومباى العشوائية، ولكن من إحدى الجماعات الإسلامية المتطرفة، المتحالفة مع تنظيم القاعدة وحركة طالبان. وهو ما ينقلنا إلى الشق الثانى من المقال. لقد سهر أبناء مومباى لمُشاهدة احتفالات الأوسكار فى هوليوود، على بعد آلاف الأميال، بسبب فروق التوقيت، وسمعوا جميعاً ورأوا على الفضائيات، أن حصول فيلم «كلب العشوائيات المليونير» على كل هذه الجوائز يُعتبر «انتصاراً للهند» (A victory for India) ولأن الاحتفال كان مليئاً بمشاهير نجوم هوليوود، فإن أطفال مومباى الذين مثلوا فى الفيلم، كانوا أكثر اهتماماً بالتقاط صور تذكارية مع هؤلاء النجوم (من أمثال ماريل ستريب وكيت دينست) غير مُدركين أنهم هم أنفسهم قد أصبحوا نجوماً أتتهم الشهرة فجأة وبشكل لم يتوقعوه ولم يتوقعه مُخرجه البريطانى، دانى دويل، أو الموسيقار الهندى أحمد عبد الرحمن الذى حصد وحده جائزتين على إبداعه فى التأليف والتلحين والتوزيع، وكذلك الطفلان روبينا على وأزهر الدين إسماعيل. نقول فى نفس هذا اليوم الذى احتفت فيه الهند بإبداع أبنائها المسلمين من الممثلين والموسيقيين لحصولهم على هذا العدد غير المسبوق من جوائز الأوسكار، كانت حكومة جارتها باكستان، توقع اتفاقاً ذليلاً مع متمردى طالبان لوقف إطلاق النار، مقابل تلبية طلب هؤلاء المتمردين بتركهم يُطبقون «الحدود» فى أحد أقاليم باكستان المتاخمة لأفغانستان. وهو الأمر الذى كانت حكومة باكستان قد قاومته طويلاً، لأنه يخلق دولة داخل الدولة، فضلاً عن أنه يُجبر مُعظم سُكان ذلك الإقليم على العيش فى ظل قوانين لم يصوتوا عليها، أو يقرّها برلمان مُنتخب. وما حدث فى ذلك اليوم (23/2/2009) هو حلقة جديدة فى مسلسل تعاسة باكستان وشقاء أبنائها، وتمزق شعبها، وتجزئة أراضيها، منذ سعت مجموعة من قادة المسلمين الهنود ذوى الطموح السياسى إلى الانفصال عن الوطن الأم (الهند) وتأسيس دولتهم ذات الأغلبية المسلمة، والتى سموها «باكستان»، وتعنى أرض البنجاب وكشمير والسند والبنجال. وهو ما كان عشية وصبيحة خروج المُستعمرين البريطانيين من الهند. وكان لا بد من ترحيل عشرات الملايين من مواطنهم الأصلية فى شبه القارة الهندية إلى الدولة الجديدةباكستان. وقد انطوت عمليات الاقتلاع والترحيل هذه على موت عدة ملايين من المسلمين، ولكن القادة الذين أصروا على هذا الانفصال خدعوا إخوانهم بدعايات جوفاء، ولكن صدقّها كثيرون وقتئذ(1947)، وفحواها أنهم يقتفون سيرة المسلمين الأوائل، الذين هاجروا من مكة للمدينة. وبالفعل أطلقوا على من تم اقتلاعهم وترحيلهم تعبير «المُهاجرين»، وأطلقوا على من استقبلوهم تعبير «الأنصار». ولكن لعدم وجود «رسول» أو «صحابة» فى حينه، فإنه سرعان ما حل التوتر والشقاق بين مُهاجرين باكستان وأنصارها. وتجزأت باكستان إلى دولتين هما «بنجلاديش» (البنجال سابقاً) وباكستان. وها هى الأخيرة تتهددها الأخطار، ويظهر فيها دورياً حركات التمرّد أو العصيان. ويُجمع المراقبون على أن وراء هذا التوتر والبؤس الدائمين جهاز المُخابرات الباكستانى (ISI) الذى أصبح هو نفسه جيشاً داخل الجيش الباكستانى، وهذا الأخير هو نفسه دولة داخل الدولة. وقيادات المُخابرات والجيش تُحرك وتُدير هذه التوترات والصراعات، ولا تملك حكومة أو رئيس باكستان إخضاع المؤسستين للسُلطة المنتخبة. وهكذا تتدهور أحوال باكستان والباكستانيين سنة بعد أخرى، بينما جارتها الهند تحصد جوائز الأوسكار، وتغزو الفضاء، وتتبوأ مكانها فى نادى الدول الأعظم (أمريكا روسيا الصين اليابانألمانيا الهند)، وتفخر بأنها أكبر ديمقراطيات العالم. وربما صدق من قال «إن آفة المجتمعات هى خلط الدين بالسياسة، حيث يُفسد كل منهما الآخر». وفى نادى الكبار، لا يُخلط أى منهم الدين بالسياسة. وقد حافظت الهند على فصل الدين عن السياسة، وأخضعت مؤسساتها العسكرية والأمنية لسُلطات مدنية منتخبة، فازدهرت فى كل الميادين، وآخرها السينما.. والله أعلم. [email protected]