لا يجب أن يكون انفضاح عملية الموساد التى أدت إلى اغتيال محمود المبحوح حدثا استثنائيا. إنما يندرج فى إطار أن الموساد يشكل الدليل القاطع على أن الغايات العدوانية للمشروع الصهيونى تبرر أى وسائل لإنجاز الأهداف التى تجعل من إسرائيل بمنأى عن أى مساءلة، ناهيك عن أى معاقبة. لذا عندما تعفى إسرائيل نفسها من أى مسئولية سياسية، معنوية أو أخلاقية تجاه القوانين الدولية والإنسانية، تحاول استباق أى نقد، أو معارضة أو حتى انتقاد يجعل كل أوجه المساءلة وكأنها بوعى أو بلا وعى دليل حاسم عن لا سامية بوجهيها المعلن والمبطن، وهذا الإرهاب الفكرى والسياسى الذى تمارسه إسرائيل هو بمثابة تجل لقناعة سائدة بأنها دائما على حق.. وبالتالى كل تشكيك من شأنه أن يعرض أمنها لمزيد من الأخطار. الحقيقة أن إسرائيل استخدمت كل وسيلة متاحة لإنجاز كل هدف لها، مما جعل بعض مواطنيها العاديين أنفسهم هم أيضا عرضة لاستهداف الإنتربول، كون عملاء الموساد فى هذه العملية سرقوا جوازات من دول أوروبية مما أدى إلى فضيحة قيل فى إسرائيل «إنها أى العملية نجحت تكتيكيا وفشلت استراتيجيا» مما صعد المطالبات بإقالة رئيس الموساد، كما كتبت جريدة هاآرتس عن أن جريمة اغتيال المبحوح فى دبى «حولت داجان رئيس الموساد بين ليلة وضحاها من بطل مجهول إلى قومى فاشل، ولم يعد فجأة العزيز على الأمة بل خزى للدولة» إلا أن هاآرتس نفسها لم تشر إلى أن الإخفاقات من هذا النوع لا تجعل «النجاحات» فى الاغتيالات التى حصلت مثلا لغسان كنفانى وكمال ناصر ومئات غيرهما التى قامت بها إسرائيل واعتبرتهم بمن قاموا بها بمثابة «أبطال» كما تم توصيفهم منذ قيام دولة إسرائيل. هنا أيضا علينا أن ننفذ إلى ما تنطوى عليه معادلة «الغاية تبرر أى وسيلة» كونها تتذرع بأى سبب للقيام بأى عدوان، وبأى إجرام وبأى خرق لحرية الإنسان والإنسانية. عندئذ إذا جوبهت إسرائيل بكونها تكذب، أو تشوه، أو تعتدى فتلجأ إلى حالة الإنكار ممزوجا بنزعة الاستنكار فتلجأ كما يفعل تونى بلير وأمثاله من المحافظين الجدد عادة، إن الارتكاب الذى حصل وفى دبى فهو «قرار!». يستتبع أن أى مجابهة أو معارضة تأتى من الخارج خاصة من الغرب دليل على اللا سامية فإن مجرد النقض يصبح بدوره مرشحا لمختلف أنواع القمع، كما حصل منذ أيام عندما زار وفد من الكونجرس الأمريكى إسرائيل بدعوى من(جى ستريت)..» والتى هى منظمة يهودية تنافس منظمة إيباك المعتمدة من إسرائيل وخاصة من اليمين الحاكم الآن»، وجاءت هذه المجموعة فلم يتم استقبالها رسميا، إلا أن وزارة الخارجية فيما بعد قبلت أن توفر اجتماعات لهم إذا جاءوا بدون مرافقين من «جى-ستريت». أعضاء الكونجرس الأمريكى رفضوا وقاموا بمؤتمر صحفى، وقالوا إن سلوك حكومة إسرائيل «معيب»، وكما قالت جريدة هاآرتس إن حكومة نتنياهو وليبرمان يعتبران أن مؤسسة جى-ستريت معادية بنفس الطريقة التى تندرج معها مجموعات يسارية ودعاة حقوق الإنسان التى تعتبر بنظر الحكومة «ضد إسرائيل». الجدير بالذكر أن سفير إسرائيل فى واشنطن مايكل أورن قاطع مؤتمر «جى ستريت» الذى انعقد فى العاصمة الأمريكية منذ بضعة أشهر. كل ذلك برغم أن منظمة جى ستريت تعتبر نفسها مؤيدة لإسرائيل وللسلام، وأنها تشكل عنصرا جاذبا ليهود معتدلين، وتدعى أن لها علاقات وثيقة مع البيت الأبيض. نشير إلى هذه الزيارة بأن إسرائيل التى تعتمد منظمة إيباك تعتبر أن كل عضو فى الكونجرس لا يلتزم بما تمليه إيباك عليه لا يعتبر حليفا يعتمد عليه. طبعا لا تستطيع إسرائيل قمع أى عضو من الكونجرس، ولكن هناك انطباعا سائدا أنها قد تتمكن من عقاب سياسى يتمثل فى تعبئة حشد ناخبين ضده. ولقد تم مثل هذا العقاب لكثير من أعضاء الكونجرس بأن نجحت حملة اللوبى الإسرائيلى عليهم أمثال السيناتور فولبرايت وبيرسى وفينلى وكثير غيرهم، مما أدى إلى فشلهم فى انتخابات سابقة. لذلك فإن اللوبى الإسرائيلى لا يكتفى بتأييد وتبنى ما تطلبه إسرائيل وتطالب به من أعضاء الكونجرس، بل يحرص على ألا يكون هناك أى اقتراح بتعديلات.. مما دفعنى مرة عندما كنت ممثل جامعة الدول العربية ودعانى أحد أصدقائى فى الكونجرس لمقابلة عدد منهم شيوخا ونوابا أن قلت لهم:«نحن نعرف درجة الاضطرار لتوقيعكم على الرسائل المتضمنة مطالبة بدعم مواقف إسرائيل، وطلبات المساعدة لها، لكن أرجو أن تعطونا الانطباع أنكم تقرأون ما توقعون عليه»..كان هذا فى أوائل الثمانينيات. الأهم أن الحملات التى تقوم بها المنظمات الصهيونية فى تعميم مصطلحات فى الغرب، والتى من خلالها تعمل إسرائيل وأنصارها على توظيف المحرقة، وكأن اللا سمية كامنة، وبالتالى فإنه لا مفر إلا أن تصبح إسرائيل لا «دولة يهودية» فحسب، كما تطالب إسرائيل السلطة الفلسطينية الراهنة الاعتراف بها، بل«دولة ليهود العالم». هذه العقيدة الصهيونية تعبر عن نفسها أحيانا بفظاظة فاقعة، كما هو حال وزير خارجية إسرائيل اليوم ليبرمان وبإخراج بنفس الفظاظة وبمفردات ملتبسة كما يعبر عنها بنيامين نتنياهو، وبمصطلحات أقل استفزازا كما فى أسلوب بيريز وباراك. هذه العقيدة الصهيونية هى التى بدورها تعتبر أن حقها فى فلسطين غير قابل للنقاش.. من هنا تتضح أن الغاية لترسيخ هذا الحق يبرر أى وسيلة لاستكمال صيرورته. يستتبع ذلك أنه لم يعد جائزا الفصل بين إسرائيل والمشروع الصهيونى، بل بالعكس، يجب أن تكون للفلسطينيين والعرب وأنصار السلام والعدالة فى العالم بديهية تشكل مناعة ضد محاولات اختراق المناعة الأخلاقية والسياسية لليهود، كون حقوقهم فى الانتماء إلى مختلف أوطانهم يجب أن تكون كما يدعو الكثير من مفكريهم وناشطى الحقوق المدنية داخل إسرائيل وفى العالم، أن وجودهم أينما كانوا هى بمثابة لا مجرد حق إثراء للتنوع فى دول ومجتمعات العالم. وأن اللا سامية التى تشكل شططا أخلاقيا ليس فى الحالة الطبيعية، وإذا كان من نتوءات تظهر بين الحين والآخر فهى تحريض للمجتمعات عليها.. ولشرائح المجتمع فى كل دولة التصدى لممارسات اليمين التى تمثلها اللا سامية ورواسب العنصرية التى لا تزال جيوبها موجودة، وأن تكون المجابهة مع جميع القوى الحريصة على حقوق الإنسان وعدالة المجتمع، وهذا ينطبق على التصدى لكل الجيوب العنصرية، وبالتالى نستولد حالة من التناغم ورغبة الحوار وإزالة العوائق التى تفرق بين الإنسان والآخر، ومن ثم نكتشف أن ما يجمع الإنسان مع الآخر أقوى بكثير مما يفرق بينهم. من هذا المنظور نجد أن إسرائيل فى مشروعها الصهيونى تعتبر الشعب الفلسطينى الراسخ فى وطنه دخيلا على ملكهم، والصهيونية لا تعتبر أن إسرائيل سلطة محتلة، وأن أى مقاومة مشروعة للاحتلال الإسرائيلى هى عملية تمرد على الدولة، وبالتالى مسموح قمعها رغم أن الإعلام الصهيونى يسوق هذا القمع كأنه متمم للإرهاب..بمعنى آخر، فإن التمرد يقنن «الاغتيال»، وهذا ما يفسر أن ليس الموساد هو المسئول وإنما هو آلية تنفيذ لقرار سياسى من السلطة التنفيذية استكمالا للمشروع الذى تمليه العقيدة الصهيونية بتجلياتها اليمينية والعنصرية، ناهيك عن حرمانه حق العودة للاجئين الفلسطينيين من جهة، واستمرار التمدد الاستيطانى فى الأراضى المحتلة، وعدم اعتبار أى حق فى القدس أو أى جزء منها لغير إسرائيل. من ثم ترسيخ قانون العودة الذى هو بمثابة الطعن بالقيم الديمقراطية والتقدمية والشرعية، والتشكيك بنجاعتها ومصداقيتها عند ممارسى هذه القيم فى أكثرية المجتمعات والدول التى تنتمى إليها مئات الآلاف والملايين من يهود العالم، وخاصة الأجيال الجديدة منهم الذين بحضورهم يعتبرون أن استمرار إسرائيل فى الدعوة لحق العودة لهم وضرورة إنجازه هو سبب للقلق، وبالتالى هم حريصون على انتمائهم اليهودى حيث هم،وبقناعة يجب أن تسود بأن اللا سامية طفرة معيبة للحضارة. من هنا يشكل النزاع العربى الإسرائيلى والفلسطينى الإسرائيلى على وجه التخصيص، من خلال تحرير فلسطين وتأمين حقوقها فى وطنها، إسهاما فى تحرير ملايين من المواطنين اليهود فى أنحاء العالم من أى قلق يساورهم. لقد حان الوقت أن نردع محاولات إسرائيل الدءوبة على التحريض على العرب وتصويرهم كأنهم حاضنون لبؤر الإرهاب، وبالتالى تشويه الصورة وقمع الحقوق، من خلال ربط أى مقاومة بالإرهاب واستعمال وسائل الاغتيال منهاجا سائدا. الأهم فى هذا المضمار أنه عندما توظف وسائل مثل الاغتيال، فهذا يعنى أن نبل الهدف مطعون فيه، لأنه فى نهاية الأمر الهدف الأسمى يحدد استقامة الوسيلة.