«ظللنا نلقب بجيل الشباب وبالكتّاب الجدد حتى بلغنا الخمسين والستين من العمر». بإيقاع صوته الهادئ ذى النبرة التي لا يحدها زعيق أجوف أو انفعال محموم، انطلق حديث الكاتب بهاء طاهر مع جمهوره فى معرض القاهرة الدولي للكتاب فى أول اللقاءات التي يقدم فيها الحاصلون على جوائز الدولة 2009 شهاداتهم عن سنوات الخبرة والتكوين. هذه النبرة الصادقة ذات الأفق المفتوح التي صقلتها تجربة الكاتب كإذاعي فى البرنامج الثقافي لا تقنع بالتصريحات المجانية التي يرددها الجميع، بل تقرأ في عمق الظواهر وتكشف دائما عن مواطن الخلل. فقد حذر صاحب «أنا الملك جئت» (والذي يبلغ ال75 عاما) الشباب من الوقوع في فخ مسميات «الكاتب الشاب» أو «الكتاب الجدد»، لافتا إلى أنه في أي مجتمع صحي يكون نشر الكتابة الجديدة بنفس مقدار الكتابة الراسخة، بينما ما يتم ترديده من رواج وانتعاش النشر بالنسبة لأجيال جديدة من الكتاب لا يعكس الواقع بأى حال. واعترض طاهر على ما أكدته الصحفية الشابة مي أبو زيد من انفتاح الأفق للشباب سواء في النشر أو في الجوائز الأدبية مدللة على ذلك بما قيل عن جائزة ساويرس في الآداب هذا العام بأنها دورة مهداة للشباب، فأشار بهاء طاهر إلى أن الإجابة أتت بالفعل من أحد الحضور من الشعراء الشباب الذي أكد اضطرار الشاب إلى اللجوء إلى دور النشر الخاصة خاضعا لشروطها فى دفع مبالغ مالية مقابل نشر عمله. «لا أعتبر أن فرص النشر زادت الآن، بل أصبحت أقل مما كانت عليه فى فترة بدايات نشر جيل الستينيات. أما النشر الحكومي، فإذا كان الكاتب ينتظر أربعة وخمسة أعوام حتى يصدر كتابه، فهذا لا يدل على أن هناك نشرا، لقد كان جيلنا ينتظر شهورا قليلة وليس سنوات. أما الجوائز فمرحبا بها، لكن هذا لا يغنى عن النشر وعن حق الكاتب فى أن تحظى كتابته بالقراءة والتقييم». وعكست نسبة الشباب في قاعة 6 أكتوبر حيث كان اللقاء الشعبية التي يحظى بها الكاتب بين هذه الفئة، واستمع إلى مداخلات وأسئلة الحضور وأبدى رغبته فى التواصل كما يفعل دائما فى لقاءاته وعدم احتكار الكلمة. تناول صاحب (الحب فى المنفى) أهمية دراسة التاريخ بالنسبة لأي كاتب وتأثير سنوات التعليم الأولى عليه، وكان د. صابر عرب رئيس الهيئة قد أشار في تقديمه لطاهر إلى أهمية التعليم الذى أخرج نماذج مثل بهاء طاهر صاروا بنّائى الثقافة المصرية. شهدت سنوات طفولة بهاء طاهر وصباه والتعليم فى ظل الملكية حيث النظام التربوى الصارم والمصروفات العالية، وكان دخوله الجامعة مصاحبا لأولى سنوات ثورة 1952 التى سمحت له نتيجة لتفوقه أن ينتظم فيها مجانا. فيروى طاهر في شهادته عن ولعه بالتاريخ منذ طفولته والتحاقه حين كان تلميذا بالجمعية التاريخية بمدرسة السعيدية التي على حد تعبيره لم تعد موجودة بالمدارس رغم أهميتها وتصميمه منذ سن صغيرة على دراسة التاريخ بجامعة القاهرة في الوقت الذي كان مجايليه يتكالبون على دراسة الآداب الأجنبية «كنت أؤمن أن دراسة التاريخ هى الزاد الأساسي لأي من يريد أن يدرس الآداب». ويتذكر طاهر كيف كانت كلية الآداب فى ذلك الوقت ليست مجرد كلية لتخريج المدرسين ولكن بؤرة التجمع الثقافى والأدبى للشباب الذين كانوا يطمحون أن يكون لهم دور فى الحياة الثقافية. أما عن أهم تكريم حصل عليه بهاء طاهر، فيعود أيضا لسنوات الطفولة، فقد حكى الكاتب عن ذلك اليوم البعيد فى مدرسة الجيزة الابتدائية، حين وقف ناظر المدرسة يلقى فى الإذاعة المدرسية المهم من البيانات يحيط به «ضابطي المدرسة» المكلفان بالحرص على الضبط والربط وإنزال العقاب بالتلميذ المخطئ، فكان أن نادي الناظر اسم التلميذ بهاء طاهر، فارتعد الطفل فى صباح ذلك اليوم البارد وتوقع أن يكون هناك عقاب ما ولم يستجب مباشرة حتى اضطر للرضوخ وذهب لملاقاة الناظر فإذا به يستقبله بوجه بشوش وابتسامة عريضة ويعلن قائلا للتلاميذ: «زميلكم حصل على الدرجة النهائية فى امتحان الفترة الأولى عن القصة التى كتبها» وتوجه إلى التلميذ الكاتب قائلا إنه قرر أن يجعل قصته مقررة كإملاء على تلاميذ المدرسة كاملة. ووصف بهاء طاهر علاقته وأبناء جيله بالثورة بأنها كانت علاقة جدلية من الحب والكره، فرحوا بها هم أبناء الثورة لأنها أحدثت على حد تعبيره انقلابا فكريا خطيرا لأنها قامت ضد كل ما كنا نقاومه من فساد النظام الملكى وسيطرة رأس المال كما حققت جلاء الاستعمار الإنجليزي عن مصر، لكنه يذكر أولى انطباعاته وقت الثورة أنه لم يعد مباحا له كما كان فى مدرسة السعيدية أن يقوم مع صحبه بمظاهرات ضد الملك ونظامه، «فقد فقدنا نوع الحرية التى كنا نتمتع بها». ويحلل الكاتب بعد أكثر من نصف قرن على الثورة كيف انعكست هذه الحالة على الكتابة حيث لم يكن من الممكن التأييد الكامل للثورة وإغفال القمع والبطش، كما لم يكن فى المستطاع التعبير عن ذلك وإغفال إنجازاتها. ويرى طاهر أن هذا ما ميّز كتابة جيله عن الكتاب السابقين أصحاب المرحلة الواقعية الذين انعكست فى كتاباتهم صلابة الواقع ونموذج البطل الإيجابي الذى يتغلب على العقبات، بينما غلبت على كتابة جيل الستينيات حالة من السيولة لا مكان فيها لبطل إيجابي لا يشارك فى اتخاذ القرار ولا يتجاوز دوره سوى التلقي السلبي. وفى رده على أحد الحضور التى سألته عن سقف علاقة الحب والكره مع الثورة، أجاب طاهر أنه لم يكن هناك سقف، بل تذبذب دائم بين النقيضين. «نكره القمع ولكننا لا نلبث أن نتطوع فى الحرس الوطنى، نكتوى بنار النكسة ورغم المآخذ التى كانت لدينا ننزل الشارع لنطالب بعودة ناصر وعدم التنحى، ننزل جميعا كما لو كان علم الوطن قد سقط وتكاتفت الناس لرفعه من جديد».