حين وصف الأستاذ البنا جماعة الإخوان بأنها (دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية ورابطة علمية).. قصد فى وصفه هذا أن يضفى على الجماعة الطابع المدنى الخالص فى كل مجالات وجودها ونشاطها. فى المجال الدعوى كان حريصا على دقة التوصيف بأن الجماعة طريقة سنية وحقيقة صوفية ودعوة سلفية.. وهى الخطوط التى يتحرك فيها المسلم الملتزم والأخ العامل الذى يرجو الله واليوم الآخر فى إقامته للفروض واتباعه للسنن. وفى المجال المجتمعى وصف الجماعة بالأوصاف السابقة التى تشير كلها إلى الطبيعة المدنية الكاملة لجماعة الإخوان سواء فى ممارسة السياسة والتى هى جزء أساسى من الفهم الشامل للدين الخاتم (وأريد أن أفرق بين الممارسة السياسية والممارسة الحزبية). أو العمل الاجتماعى بمكوناته الاقتصادية والعلمية التربوية.. وأيضا النشاط الرياضى والأنشطة الكشفية والجوالة.. فى منتصف الثلاثينيات كانت البلاد العربية والإسلامية ترزح تحت الاحتلال الإنجليزى والفرنسى وكانت حركات المقاومة السلمية والمسلحة ضد هذا الاحتلال نشطة فى كل مكان.. وكانت مصر مليئة بالقوى الوطنية المخلصة التى تناهض الاحتلال الانجليزى وتقاومه بالسلاح.. ولم تكن هناك قوة وطنية أو سياسية إلا ولها نشاط فى الأعمال الفدائية وأعمال المقاومة.. وكلنا نذكر نشاط مصر الفتاة وحزب الوفد أصحاب القمصان الزرقاء والخضراء.. ولما كانت جماعة الإخوان من أكبر القوى الوطنية وأكثرها حضورا فى الحياة السياسية.. فكان طبيعيا أن يكون لها نصيبها أيضا من العمل الفدائى ضد الاحتلال ومن يعاونه.. بل وزاد الأمر خطورة الهجرات المنتظمة للجماعات الصهيونية لاغتصاب وطن بأكمله من الأوطان الإسلامية والذى يمثل فى نفس الوقت قيمة دفاعية وإستراتيجية عظيمة لمصر، فكان لابد من تشكيل جهاز عسكرى فدائى لطرد الاحتلال البريطانى وللمساعدة فى إنقاذ فلسطين من الاغتصاب. وكان الأستاذ البنا حريصا حرصا كاملا على أن يجعل هذا الجهاز (حالة) خاصة منفصلة عن الجماعة الأم فى كل شىء.. إلى حد أنه سماه (الجهاز الخاص) فى إشارة إلى أنه حالة استثنائية خاصة عن الخط العام للجماعة الذى هو مدنى بطبيعته، سلمى فى أدواته وأهدافه وفى كل تشكيلاته وتكويناته وفى ثقافته وآليات عمله التى تختلف عن ثقافة وآليات التنظيم الخاص (العسكرى) والسرى بطبيعته بينما الجماعة مدنية علنية بطبيعتها. وقد حرص البنا رحمه الله على أن يكتب فى مقدمة رسالة التعاليم «إن هذه الرسالة هى لفئة محدودة من الإخوان وليست لكل الإخوان».. وقد اطلعت بنفسى على هذه المقدمة التى كتبها لهذه الرسالة والتى يذكر فيها بوضوح أنها لفئة خاصة وليست لكل الإخوان (هذه رسالتى إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين.. ثم يستطرد.. أما غير هؤلاء فلهم دروس ومحاضرات وكتب ومقالات ومظاهر وإداريات ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات).. ويحكى المؤرخون أن هذا الجهاز كان يتلقى تدريباته فى صحراء القاهرة بمعرفة ضباط الجيش المصرى الوطنيين وكانت الأسلحة يتم الحصول عليها عن طريقهم فى أغلب الأحوال.. ويحفظ التاريخ لهذا الجهاز جهاده وبذله فى فلسطين وفى القناة رغم وقوع أخطاء من بعض أفراده.. ولما تولى المستشار حسن الهضيبى مسئولية الجماعة كان يعلم من الأستاذ البنا أن الحاجة إلى الجهاز الخاص قد انتفت بعد هزيمة 48.. كما أن وجود الاحتلال البريطانى فى الشرق الأوسط بات مسألة سنوات معدودة بعد جراح الحرب العالمية الثانية. وكانت بعض الأخطاء التى قد صدرت من الجهاز الخاص تسببت فى إزعاج الأستاذ البنا كثيرا، وأكدت له ضرورة الانتهاء التدريجى من وجوده.. وهو ما حفظه المستشار الهضيبى جيدا.. وكان من أوائل القرارات التى اتخذها نقل مسئولية الجهاز من شخص إلى آخر (السندى إلى طلعت) تمهيدا لإلغائه تماما استنادا إلى ما عرفة هو شخصيا من الأستاذ البنا، واستنادا ايضا لما عرفه من طبيعة الأمور بعد توليه مسئولية الجماعة. ثم حدث ما لم يكن يتمناه أحد من صدام بين الإخوان والثورة وانتهت الأمور إلى ما انتهت اليه من سجون وإعدامات طالت الكثير من جموع الإخوان على مدار عقدين كاملين. بمجىء السبعينيات تكون الجماعة قد فتحت صفحة جديدة فى تاريخها بعد التاريخ الأول الذى كان به بعض الاستثناءات والحالات الخاصة مما أملته الظروف التاريخية وقتها.. والتحمت الأجيال مكونة حالة فريدة من حالات التلاقى بين القديم والجديد على العهد الدائم بالوفاء للدعوة ورسالتها. لم تعرف جماعة الإخوان إذن فى تكوينها الأول وتأسيسها أى شكل من أشكال العسكرة أو العنف.. ولو شاء الأستاذ البنا لفعل وقد كانت الحالة الوطنية العامة تسمح بذلك وتبرره.. وما كان لأحد أن يلومه على ذلك فى بلد محتل ومهدد من حدوده الشرقية بعدو مغتصب والتاريخ يقول إن هذه البوابة هى بوابة الغزاة، ولو أراد الأستاذ البنا أن يشير إلى أن التكوين العسكرى جزء لا يتجزأ من الجماعة لقال فى توصيفها ضمن ما قال انها (كتيبة جهادية) كما هى رابطة علمية وحقيقة سنية.. إلى آخر التوصيفات السابقة. لذلك يجب أن يعلم الجميع أن جماعة الإخوان جماعة مدنية تتحرى العمل السلمى الاجتماعى فى كل مجالات أهدافا وغايات.. وتلتزم فى رؤيتها للعمل الإصلاحى بمنهج أهل السنة والجماعة الذى أقره وأثبته علماء الأمة ورجالاتها الكبار.. بدأ من إمام التابعين الحسن البصرى (وموقفه مع الحجاج الثقفى معروف) وانتهاء بإمامنا الشهيد حسن البنا.. رضى الله عنهم أجمعين وجمعنا وإياهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ورغم أنه لحق بالجماعة بعض ثقافات العمل لدى التنظيم العسكرى السرى وتسربت إلى مناهج التربية والتثقيف داخل الجماعة إلا أن الجماعة ومن خلال مرجعيتها الفكرية والحركية تسعى لوضوح الطابع المدنى الخالص فى هذه المناهج وآليات العمل.. ذلك لكون ثقافة آليات العمل العسكرى تختلف عن ثقافة وآليات العمل المدنى والخلط بينهما يؤدى إلى الإرباك وسوء الأداء وتفصيل ذلك يحتاج لمزيد شرح ولكنى أردت بهذه العجالة أن أرد على من يدعى على بعض منا رغبته فى عسكرة الجماعة.