السجال الدائر فى مصر بعد مقتلة الأقباط فى نجع حمادى تبنى فى البداية دعوة لمكافحة التعصب، وأطلق فى النهاية حملة لمكافحة التدين. (1) الفكرة ليست جديدة تماما، فالخطاب الذى يخلط بين التعصب والتطرف من ناحية وبين التدين من ناحية ثانية ليس وليد هذه الأيام، وإنما تردد بشكل مقتضب وغير مباشر خلال العقدين الماضيين. على الأقل فالنظام التونسى تبناه بصورة غير مباشرة حين رفع شعار «تجفيف الينابيع»، الذى انطلق من الادعاء بأن التدين هو البيئة الحاضنة للتطرف والتربية المنتجة له. وادعى أن التصدى للأصل كفيل بالخلاص من مختلف الشرور التى تفرعت عنه، هكذا فى خلط ساذج أو خبيث بين التديُن الصحيح الذى يرسى أساس النهوض بالمجتمع، وبين التدين المغلوط والمغشوش الذى يخاصم المجتمع ويعلن الحرب عليه. هذه الفكرة عبر عنها ذات مرة تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية الذى تصدره مؤسسة الأهرام، ثم ترددت بعد ذلك فى كتابات عدة، أشرت إلى بعضها فى الأسبوع الماضى، خصوصا من قال إن ظاهرة التدين فى مصر تصاعدت وبلغت مرحلة الخطر، واعتبر ذلك مما يعزز ثقافة التخلف. ومثله من صوبوا سهامهم نحو نفس الهدف بدعوى الاستسلام لغيبوبة الماضى، والغرق فى محيط الخرافة، والتصدى للظلامية الزاحفة... إلخ، إلى غير ذلك من الإشارات المبطنة والعبارات الغامضة. أما الجديد هذه المرة فهو الجرأة على طرح الفكرة، والتخلى عن الأقنعة التى تم التخفى وراءها، ومن ثم الجهر بالدعوة من خلال وسائل الإعلام المختلفة. إن أخطر ما فى هذه الدعوة أنها لا تستهدف فقط إقصاء الدين وعزله عن المجال العام، وإنما أنها تضرب فى مقتل هوية المجتمع الذى قام تاريخيا على الاعتزاز بالإسلام والعروبة. وإزاء الذى أصاب العروبة من تشوهات وتصدعات، فإن توجيه السهام إلى الانتماء الإسلامى يصبح فى حقيقة الأمر دعوة إلى الانتحار الحضارى والتخلى عن آخر حصون الهوية، إلى جانب كونه مفاصلة مع العالم الإسلامى وتفريطا فى محيط الأمة الاستراتيجى. إن دفاعنا الحقيقى هو عن القيمة والهوية، وليس عن أى ممارسات تصدر عن اتباع الدين، خصوصا إساءات المتعصبين أو حماقات الجاهلين أو أفعال المتطرفين والإرهابيين. ورغم أن تلك ملاحظة تبدو بديهية عند ذوى العقول الراجحة والحس السليم، إلا أنها غير ذلك تماما عند أولئك النفر من المتصيدين والمتحاملين. ذلك أنهم يعمدون إلى التقاط بعض تلك الممارسات ويتكئون عليها فى دعاواهم. وبدلا من المطالبة بتصويبها ووقفها أو محاسبة المسئولين عنها فإنهم يحاكمون التدين ذاته، ويدعون إلى نبذه وحصاره وطمس مظاهره فى المجتمع. بقيت عندى ملاحظة أكررها فى هذا التمهيد، وهى أن الذين يشنون تلك الحملة يمثلون قشرة معزولة ومحدودة ظهرت على سطح المجتمع، فى مناخ سلبى دأب على أن يستخلص من الناس أسوأ ما فيهم. ولولا المواقع التى مكنوا منها والتطور الحاصل فى وسائل الاتصال الذى أتاح لكل من هب ودب أن يصل إلى أسماع الناس، لظلوا مجرد أصوات نشاز لا حضور لها ولا صدى. (2) أشرت فى الأسبوع الماضى إلى مقترحات إلغاء تدريس الدين فى المدارس، ومنع الصلاة فى أماكن العمل ومنع أى نشاط اجتماعى أو خيرى تقوم به المؤسسات الدينية وحظر نشر فتاوى الفقهاء فى وسائل الإعلام الرسمية، إلى غير ذلك من مقترحات محو الدين وحصاره. وأضيف هذه المرة نصين يصوران مدى الحساسية التى تولدت لدى البعض من مجرد ذكر الدين أو الالتزام ببعض مظاهره. النص الأول نشره «الأهرام» فى 26/1 تحت عنوان «كرة القدم والدين: خلطة الكابتن شحاتة». وهو بمثابة تعليق احتجاجى على تصريح نقل على لسان مدرب المنتخب المصرى لكرة القدم قال فيه أنه يسعى دائما لأن يكون اللاعبون الذين يرتدون «فانلة» مصر على علاقة طيبة بربهم، وهو كلام يمكن أن ينطبق على المسلمين وغير المسلمين، لأن الطرفين يمكن أن يكونا على علاقة طيبة بربهم. وحين وقعت عليه لأول مرة فهمت أن المقصود به حرصه على تحلى اللاعبين بالاستقامة وتحليهم بالأخلاق الطيبة وبعدهم عن الرذائل. إلا أن الكاتب استفزه كلام الكابتن شحاتة، ولم تعجبه الدعوة التى اعتبرها خلطا خطرا بين الدين والرياضة. (كاتب آخر ذكر فى تعليق له أن الفكرة أصابته بالفزع!). وبنى صاحبنا احتجاجه الغاضب على أساس توهمه أن الكابتن شحاتة قدم المعايير الدينية على المعايير الفنية الموضوعية، كأن الرجل شكل فريقه من مجموعة الدراويش، واعتبر ذلك «طامة كبرى» ودعوة إلى فتنة الشباب، لظنه أنه «يوجه إليهم رسالة خاطئة وخطيرة تفيد أن بإمكانهم الاستغناء بالطقوس الدينية الشكلية عن المقومات الحقيقية التى ينبغى أن يتحلوا بها فى حياتهم العلمية». وبعدما قلبت المسألة على هذا النحو قال الكاتب إن الرجل «ربما لا يقدر حجم الأذى الذى يمكن أن يترتب على خلط الرياضة بالدين، والاستهانة بالمعايير الفنية والموضوعية فى لحظة يتوقف فيها مستقبل أمتنا على استيفاء هذه المعايير فى كل مجال».! فى اليوم التالى مباشرة (27/1) نشر الأهرام تعليقا مدهشا لأحد محرريه تحت عنوان البى. بى. سى ترتدى الحجاب، وجاء النص تعقيبا على ظهور إحدى المذيعات المسلمات بالحجاب على شاشة تليفزيون ال«بى. بى. سي» الذى يبث باللغة العربية. وهو ما استفز الكاتب الذى عبر عن غضبه واحتجاجه فى قوله «لما كانت بريطانيا دولة مدنية علمانية ينص دستورها على حرية العقيدة والكلمة. فإن التوجه الجديد لا يتفق مع العلمانية. والأهم من ذلك أن ارتداء الفتاة للحجاب ليس انحيازا للإسلام ولا احتراما للمسلمين بل انحيازا لقوى التطرف والتشدد والإرهاب».(!!) وفى موضع آخر قال إن«القناة ارتدت الحجاب لتشارك فى الصراع بجانب القوى المتشددة والإرهابية». وختم التعليق بقوله إن النص القرآنى لا يفرض الحجاب على المسلمات. مضيفا ان هذا الفهم عبر عنه بوضوح الشيخ محمد عبده فى فتاواه المتعلقة بالحجاب. النصان من نماذج الكلام الغريب الذى يلوث الإدراك فى مصر هذه الأيام، من حيث إنه مسكون بالنفور من حضور التدين أو مظاهره. والنص الأخير تفوق فى بؤسه ليس فقط على مستوى الموقف وإنما على المستوى المعرفى أيضا. فصاحبنا لم يحتمل ظهور مذيعة واحدة بالحجاب واعتبر أن القناة كلها تحجبت، واتهمها بمساندة التشدد والإرهاب¡ هكذا مرة واحدة، وذكر أن الدستور البريطانى ينص على كذا وكذا، وهو لا يعلم أن بريطانيا ليس لها دستور مكتوب، وادعى أن الإمام محمد عبده له فتوى بخصوص الحجاب تدعم رأيه، وهذه كذبة أخرى، لأن كلام الإمام حجة عليه ينحاز إلى الرأى القائل بأن الوجه والكفين ليسوا عورة، بما يعنى أن كلامه انصب على النقاب وليس الحجاب. (3) إذا استطعت أن «تبلع» الكلام السابق، وجاز لنا أن ننتقل إلى الكلام الأكثر جدية فسوف نجد أن حملة إقصاء الدين ركزت على «تنقية» هوية الدولة والمجتمع فى مصر فى آثاره من خلال أمرين أساسيين هما: فك الارتباط بين الدين والدولة وإقامة الدولة المدنية. وفى الوقت ذاته إلغاء المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة هى المصدر الأساسى للتشريع. ولى عليها عدة ملاحظات ألخصها فيما يلى: * إن هذا التفكيك لهوية الدولة المصرية يتزامن مع السجال الحاصل فى فرنسا، وإن مضى فى اتجاه معاكس له. فمصر يتراجع دورها عربيا، ويعبأ الرأى العام فيها ضد الانتماء العربى، وفى ذات الوقت يجرى فك الارتباط بينهما وبين الإسلام، بحيث تنفك عراها واحدة تلو الأخرى. أما فى فرنسا فالسعى حثيث لتثبيت أقدام الجمهورية والعلمانية والتقاليد الفرنسية، والتخلص مع كل ما يظن أنه يعترض هذا الطريق، بمعنى أننا ننخلع من مقومات الانتماء فى حين أنهم يعززونه ويثبتونه بمختلف السبل. * إن المشكلة الحقيقية التى نواجهها ليست فى تدخل الدين فى شئون الدولة، ولكنها فى هيمنة الدولة على شئون الدين، واستخدام منابره وآلياته لخدمة سياساتها وتبريرها. ومن ثم فالمطلب الدقيق هو رفع يد الدولة عن الدين وليس العكس. وسجل الدولة مع المؤسسة الدينية معروف (فتوى تأييد إقامة الجدار العازل ليست بعيدة عن الأذهان) ثم إن تدخل الدولة فى تقييد الأوقاف حرم المجتمع من باب واسع للتنمية أسهم فى نهضة تركيا الحديثة. * ثمة سؤالان كبيران تطرحهما هذه الدعوة هما: ما هى الخطوات النهضوية أو الإنجازات السياسية والمجتمعية التى شرعت فيها السلطة المصرية وعطلتها المادة الثانية من الدستور؟ ثم هل هذه المادة هى التى تحول دون إقامة المجتمع المدنى، وهل من شأن حذفها أن يستعيد المجتمع حيويته؟ * لا توجد هناك صلة بين الأحداث الطائفية التى حدثت فى نجع حمادى وبين هوية الدولة أو المادة الثانية للدستور. ومخطئ من يظن أن الاحتقان سيزول تلقائيا بعد التأكيد فى الدستور على مدنية الدولة، وإلغاء المادة الثانية، والحاصل فى نيجريا الآن خير دليل على ذلك. إذ إن سقوط مئات القتلى من المسلمين فى الصراعات الطائفية الدائرة هناك، وهى فتنة اكبر، ليس لها علاقة لا بالدولة المدنية ولا بأى مادة فى الدستور. * إن وجود المادة الثانية فى الدستور يضمن الإسناد الشرعى الإسلامى لجميع الحقوق والمبادئ الواردة فيها، خصوصا ما تعلق منها بالمواطنة والمساواة. وهو المعنى الذى أكدته دراسة المستشار طارق البشرى حول الموضوع، علما بأن النص على دين الدولة فى الدستور كان موضع إجماع النخبة المصرية الممثلة لمختلف فئات المجتمع التى وضعت مشروع الدستور فى عام 1922، فى حين أن ثمة شكوكا قوية فى شرعية ودوافع الذين يتبنون دوافع إلغاء المادة الآن. * إن اعتبار إقصاء الهوية الدينية شرط لإقامة الدولة المدنية يعد خطأ معرفيا وسياسيا فى نفس الوقت. فالتنمية فى المجتمع الإسلامى على مدار تاريخه حمل عبأها الناس. وكانت الأوقاف هى الركيزة الأولى لها. واعتماد المرجعية الإسلامية لا يؤسس بالضرورة دولة دينية بالمفهوم السائد فى التجربة الغربية، ونفوذ المرشد فى إيران التى يقال إنها دولة دينية لا يقارن بنفوذ أى «بابا» فى تجربة الكنيسة الغربية، ومعارضوه أقوى وأكثر ثباتا من أى معارضين آخرين فى أى دولة «مدنية» فى العالم العربى. (4) إن تثبيت الهوية الدينية لأى مجتمع لا يقدح فى مدنيته، وهو ليس بدعة فى زماننا. فملكة إنجلترا رئيسة للكنيسة، والمادة الأولى من دستور اليونان تنص على أن المذهب الرسمى للأمة اليونانية هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وفى الدنمارك والسويد يشترط فى الملك أن يكون من أتباع المذهب الإنجيلى وملك إسبانيا يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. والكاثوليكية فى أمريكا اللاتينية والبوذية فى الشرق الأقصى، ديانتان معتمدتان لدول عدة، لكن ما هو حلال للآخرين حرام فى بلد كمصر عاش فيه الإسلام خمسة عشر قرنا، حتى أصبح يمثل جوهر ثقافته، وديانة 94٪ من سكانه. إن التعايش الآمن بين مكونات المجتمع له شروطه، التى باستيفائها يسود السلم الأهلى ويتحقق الأمن الوطنى، وتلك الدعوات غير المسئولة من جانب البعض ليست سوى ألغام يبثونها فى طريق السلم والأمن المنشودين لمصر كلها، وليس لفئة دون أخرى.