تشهد الموسيقي المصرية موجة واسعة من النشاط تثير الجدل، حيث تلتف فئات متنوعة وواسعة من الجمهور حول أغنيات "الراب" و"التراب" التي صنعها جيل جديد من "الرابرز" المصريين، كما لفتت حفلاتهم النظر بسبب عدد الجمهور الضخم والمتابعين لها. كما نجحت المهرجانات في جذب ملايين المستمعين وتحقيق مشاهدات عالية لكليباتهم عبر اليوتيوب وحدثت الكثير من الأزمات حول هذا النوع من الغناء ومدى تأثيره على المجتمع كما أثار نقيب المهن الموسيقية هاني شاكر التساؤلات حول النوعين الغنائيين عندما صرح بحبه لويجز –أحد مطربي الراب- في نفس الوقت الذي يمنع فيه آخرين من الغناء. لفهم هذه الموجة الموسيقية الجديدة يجب أن نعرف أولا حول أي شكل غنائي تدور وما تأثيرها على المجال الفني بشكل عام. - ماذا نعرف عن الراب؟ الراب هو جزء من مكونات "الهيب هوب"، والذي يتكون من " deejaying"، و" Break Dancing "، و"rhyming"/القافية، و"rap"، و"الهيب هوب" حركة ثقافية اكتسبت شعبية واسعة في الثمانينيات والتسعينيات. وكلمة راب هي اختصار ل "rhythmic african poetry" أي الشعر الإفريقي الإيقاعي، وهو أسلوب موسيقي يتم فيه ترديد الخطاب الإيقاعي، ونشأ في مجتمعات الأمريكيين من أصل إفريقي في مدينة نيويورك. تطور الراب داخل وخارج أمريكا، ووصل إلى أمريكا عن طريق الجامايكي كول هيرك وآخرون غيره، وبدايات الراب في أمريكا كانت في حي ذا برونكس بمدينة نيويورك خلال السبعينات، وفي البداية كان الراب يرتبط بوجود قاعة وبها خشبة مسرح ويوجد على المسرح (DJ) ويقوم أحد الرجال هو "الرابر"، بالصعود إلى المسرح والصراخ بعبارات تشجيعية للجمهور، هذه العبارات لم تكن ذات قافية أو غيره ولكن كانت مجرد عبارات تشجيعية. ومع مرور الوقت تطورت هذه الصرخات المشجعة من كلمات متناثرة إلى مجموعة من الجمل المقفاة، وفي الثمانينات اشتهرت بعض الجماعات التي تغني الراب، وقاد نجاح هذه الجماعات إلى اتنشار الراب التجاري، ومع التسعينات كان الراب قد حقق انتشارا كبيرا داخل وخارج أمريكا، ومع بداية الألفية الجديدة أصبح الراب هو الفن الأسرع انتشارا في العالم حيث انتشر في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان وهولندا والبرتغال والشرق الأوسط وأصبح لهذا النوع الموسيقي ملايين المعجبيين حول العالم. الراب عنصر أساسي في الهيب هوب، ولكن هذه الظاهرة كانت موجودة قبل ثقافة الهيب هوب بعقود، ويمكن إلقاء الراب بوجود الإيقاع أو بدونه ، بما يعرف بال free style، وبشكل عام فإن صوت المغني أو المغنية ليس هو المعيار إنما نبضات الموسيقى نفسها وكلمات الأغنية وطريقة الترديد. ولمغني الراب، وفق قاموس هذا النوع الغنائي، له مسمى خاص به وهو"mc" وهي اختصار ل"master of ceremonies"، ويمتلئ عالم الراب بكثير من المصطلحات المرتبطة به، خاصة في "السين المصري" وهو يعني مشهد الراب المصري وهو كل ما يتم إنتاجه من أغاني الراب في مصر. - الموسيقى جزء من ثقافة المجتمعات: عندما نتتبع العصور الموسيقية نجد بوضوح أن الموسيقى كوسيلة فكرية للتعبير تتجسد في مبادئ وقوالب موسيقية متعارف عليها وتكون جديدة في كل من هذه العصور ومميزة له، ولتحقيق أهم عناصر التذوق نربط بين الأسلوب الموسيقي الذي يميز العمل وبين الخلفية الثقافية للعصر الذي نبع منه وتفجر عنه، لأن مميزات المجتمع السائد وعلى وجه الخصوص المميزات الفكرية والثقافية تكون عادة هي نفس السمات التي تنطبع على العمل الموسيقي المنتمي إلى هذا العصر أو ذاك، وفق ما جاء في كتاب " التذوق الموسيقي" للدكتور يوسف السيسي. ومعنى ذلك أنه لا يمكن عزل الأسلوب الموسيقي عن المجتمع الذي نشأ فيه أو يتقبله ويستمع إليه فهو جزء لا ينفصل عنه، ويٌعرف الأسلوب الموسيقي بأنه ما يشمل على نوعية القالب، الأفكار التي تميزه، الإيقاعات، الألحان ومقاماتها، وقد عرف يوهان سباستيان باخ الأسلوب بأنه ملامح روح العمل الفني. تنتج الموسيقى عن مجموعة من الأحاسيس المتجددة والتي تحدث نظرياً وتصبح متطورة في فترات وهي تنتقي من مجموعة من الأفكار المنبعثة من الأحداث، ويتنوع تعريف الموسيقى بالتالي وفقاً لتحيز المنظرين لها. فهي لدى أرسطو محاكاة لمشاعر البشر، وتؤكد النظرية السسيولوجية أن الفن مهما سار وراء الاتجاه الجمالي الخالص فإنه سيظل مشبعاً بالمشكلات الاجتماعية والأخلاقية. وأكدت باحثة الأنثربولوجية الأمريكية مارجريت ميد أن الثقافة تجريد وهو ما لا يعني أنها وهم فهي تقول إن ما هو موجود هم أفراد يخلقون ثقافتهم وينقلونها ويحولونها. وترى ميد أن كل ثقافة تؤثر في المجتمع أو تتميز من بين الأنماط الثقافية الأخرى تصبح عندها نمطاً اعتيادياً أي متمثلا في المعيار الثقافي ومعترفا به اجتماعيا على أنه اعتيادي وكل ذلك يشير إلى أن أي نوع موسيقي يلقى تقبل في مجتمع ما فهو نابع من رغبة هذا المجتمع وحاجته له وارتباطه بثقافته. - المهرجانات.. ما بين الخلاف على تسميتها وتأييد جوهرها: وكما تحدثنا عن الراب، نحاول في السطور التالية استكشاف طبيعة المهرجانات من خلال وجهات نظر مجموعة من المتخصصين. في البداية قال الدكتور إيهاب صبرى، أستاذ الموسيقى بالمعهد العالى للنقد الفني بأكاديمية الفنون: " إذا أردت أن تتعرف على مدى تقدم أمة ما، استمع إلى موسيقاهم، ونحن في فترة الارتقاء بالذوق العام ظهر لدينا أم كلثوم وعبدالوهاب وسبقهم سيد درويش وصولاً للموسيقى المصرية المتطورة مع ظهور رائد هذا الشكل يوسف جريس، من خلال توظيف الشكل العالمي للموسيقى مثل الكونشرتو وغيرها من خلال الموسيقى المحلية، وتطور الأمر مع ظهور السينما والفيلم الناطق، وبرزت أهمية الأغنية في السياق الدرامي للأفلام وتطور الموضوع بعد ذلك لاتجاه بعض الممثلين للأداء الغنائي، لكن ما وصلنا له حالياً. وأضاف ل"الشروق": أن تسمية هذا النوع ب"المهرجان" هو مسمى خاطئ، لأن المهرجان الموسيقي هو شكل احتفالي يغني فيه مجموعة من الأصوات الجيدة، ولكن ما لقب به الأداء العشوائي الذي سُمي مهرجان فهو شكل مشوه لا ينتمي للحن المنضبط أو الإيقاع المألوف، إذ هذه النوعيات شكل أدائي يستخدم الايقاعات مع كلمات مبتذلة، وتؤدي هذه الأشكال الموسيقية على الآلات الإلكترونية، وأما من يشير إلى أن هذا النوع خارج من الشارع، أجيب عليه بسؤال: هل كل ما ينمو في الشارع يمكن اعتباره نموذجا أو لغة سواء للعصر أو الغناء المصري؟! بالتأكيد لا لأننا دائماً يجب أن نحاول الارتقاء وليس الهبوط". فيما قال الناقد الموسيقي أمجد جمال: "الموسيقى في مصر تعيش في أكثر فتراتها ثراء وتنوعا، حيث تقودها أربعة تيارات رئيسية، تيار موسيقى البوب أو الأغنية التقليدية، وموسيقى الراب، والمهرجانات، وفرق الأندرجراوند، وهذه ظاهرة صحية، فجمهور تلك التيارات ليس جمهور حصري، بل يمكن للشخص الواحد أن يستمتع بكل هذه الأنواع بحسب حالته المزاجية". وأضاف: "موسيقى المهرجانات أكثر مصرية في جيناتها من موسيقى الراب التي تقلد فورمات أمريكي بالأساس، ولكن الملاحظ أنه بات هناك انصهار ما بين النوعين من حيث التوزيعات الموسيقية واستخدام تقنية الأوتو-تيون والإيقاعات، ومن حق المستمع أن يرفض أو يقبل أي نوعية منهما، فالفنون ليست محصنة أو فوق النقد، لكن المرفوض هو محاولات المنع والمصادرة دون معيار واضح. وشدد الناقد الموسيقى على ضرورة وجود ضوابط لكلمات الأغاني، على أن يحكم تلك الضوابط جهاز الرقابة على المصنفات الفنية وحده، لا النقابات، مشيرًا ألى أنه هناك الملايين من الناس تكره أغنيات المهرجانات وهناك حرب عنيفة ضدها، وملايين آخرين لا يسمعون سواها، وهذا يدل على تنوع واتساع الشريحة الجماهيرية داخل المجتمع المصري. - الفرق بين الراب والتراب؟ وعن الفرق بين أغنيات الراب والتراب قال الناقد الموسيقي محمد شميس إن التراب هو جملة موسيقية أي نوع موسيقي معين مثل موسيقى المقسوم أو الروك أو الجازي، فهو شكل من أشكال الايقاعات أو التوزيعات الموسيقية، أما الراب فهو أداء صوتي أي طريقة غناء، طريقة نطق للكلمات بإيقاع منتظم، وهذه المسميات انتشرت في مصر لأن الجيل الجديد حالياً من مطربي الراب يحاول تطوير الأشكال الموسيقية لمن سبقوه، مثل أسفلت وشاهين وغيرهما، لكن الأغلب يغني راب، عنبة وأوكة وأورتيجة يغنون راب ولكن على الدوم والتاك المصريين، وويجز ومروان موسى يغنون على موسيقى بها جانب غربي". ومن ناحية أخرى أوضح أن الأعمال الفنية يجب أن يتعامل معها النقاد والمتخصصين وليس الضبطيات القضائية والمنع، مشيرًا إلى أن نقيب الموسيقيين هاني شاكر هو السبب الأساسي في إثارة الأزمات لأنه يستمد منها ظهوره ويشعر بنجوميته، والنقابة نافذة يمارس من خلالها سلطته ونظرته للموسيقى". - الموسيقى والرفض.. لماذا يهاجم الكبار ذوق الآخرين؟ وتعد مشكلة قبول الجيل القديم للألوان الموسيقية الجديدة أمر متكرر، لأنهم اعتادوا سماع أنواع معينة لسنوات، وقد فسر علم النفس عدم قبول الكبار موسيقى الشباب بسهولة، إذ يقول فرانك تي ماكندرو أستاذ علم النفس في كلية نوكس، إن "الأذواق الموسيقية تبدأ في التبلور من سن 13 أو 14 عامًا، وبحلول الوقت الذي نكون فيه في أوائل العشرينات من العمر تقل الشهية تجاه الموسيقى". ووجدت بعض الأبحاث، أنه بحلول الوقت الذي نبلغ فيه من العمر 33 عامًا، يتوقف معظم الناس عن سماع الموسيقى الجديدة، وفي الوقت نفسه يميل الأشخاص إلى أنواع الموسيقى التي طالما استمعوا لها في مراهقتهم، وتظل محببة لديهم لما تحمله من حنين للماضي، وفقا لموقع "ذا كونفيرزيشن". وأضاف فرانك، أنه "قد يكون هناك تفسير بيولوجي لهذا، حيث وجدت بعض الأدلة على أن قدرة الدماغ الخاصة بالتعرف على الفروق الدقيقة بين الأوتار والايقاعات والأنغام المختلفة تقل مع تقدم العمر". وتتجه إحدى نظريات علم النفس الاجتماعي الأكثر بحثًا في "التأثير المطلق للتعرض"، إلى أنه كلما تعرضنا لشيء ما، زاد ميلنا إلى الإعجاب به أكثر. كما أن بالنسبة للعديد من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 30 عامًا، تزداد أعباء العمل والأسرة، لذلك لا يوجد وقت كافٍ لاستكشاف الموسيقى الجديدة والتفاعل معها. ويقول فرانك إن الأمر قد يرتبط بتوجه الموسيقى الجديدة للشباب واهتمامها بهم، على سبيل المثال قد بدأت موسيقى البانك والراب والهيب هوب والهيفي ميتال والموسيقى الشعبية المناهضة للحرب والعديد من أنواع الموسيقى الأخرى كتمرد شاب ضد أفكار او سلطات أو أشياء أخرى في المجتمعات. كما أن العديد من الأغاني الشعبية تحتوي على موضوعات ترتبط بالشباب أكثر من كبار السن، بحسب ما ذُكر في موقع "سيكولوجي توداي". وأجريت دراسة على بيانات أكثر من ربع مليون شخص خلال فترة 10 سنوات، لبحث الحالة الموسيقية وتفاعلاتها، بدعم من قسم علم النفس في جامعة كامبريدج، وفق موقع "سينس ديلي". وأظهرت أن الأذواق الموسيقية تتغير مع تقدم الإنسان في العمر بما يتماشى مع تحديات الحياة الرئيسية، وتم تعريف سنوات المراهقة بأنها سنوات الموسيقى "المكثفة".