عنوان الخبر الرئيسى للصفحة الأولى من جريدة «الحياة» اللندنية كان مثيرا للانتباه يومذاك (12/1). إذ تحدث عن أن «أردوغان اقترح على الأسد زيارة لبنان». نعم يعرف كثيرون أن العلاقة الشخصية بين رئيس الوزراء التركى والرئيس السورى توثقت خلال السنوات الخمس الأخيرة، الأمر الذى كان له أثره فى العلاقات الحميمة التى باتت تربط بين بلديهما. وهو ما أسهم فى إنجاح سياسة توسيع نطاق تبادل المصالح بينهما، وأدى إلى إلغاء تأشيرات الدخول وإلى تسيير خط حديدى بين حلب السورية وغازى عينتاب التركية، وأحدث طفرة فى علاقات البلدين. كان مفهوما ذلك التقارب بين دمشقوأنقرة، ولكن الجديد فى الأمر أن أنقرة دخلت على الخط مع لبنان، وأصبحت مهتمة بتحسين علاقاته مع سوريا، إلى الحد الذى دفع رئيس الوزراء التركى لان يقترح على الرئيس الأسد أن يزور بيروت، فى خطوة لا يشك فى أنها يمكن أن تحقق دفعة جديدة لعملية «تطبيع وتمتين» العلاقات السورية اللبنانية، وهى خطوة من شأنها أن تسهم فى «استقرار الجوار» الذى ما برحت الدبلوماسية التركية تتحدث عنه وتدعو إليه. هذا الموضوع أثير بمناسبة الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء التركى لبيروت هذا الأسبوع، التى يفترض أن تعقبها زيارة يقوم بها الرئيس التركى عبدالله جول إلى لبنان. وكان أهم ما أنجز فى لقاءات أردوغان ببيروت هو الاتفاق على إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين. وتلك خطوة جاءت تالية لقرارات مماثلة مع سوريا والأردن، الأمر الذى يعنى أن حركة الأشخاص والبضائع بين تلك الدول الأربع ستكون مفتوحة على مصاريعها. ويعنى فى ذات الوقت أن نواة لسوق مشتركة جديدة عربية وإسلامية سوف تبرز فى الأفق ليستفيد منها أكثر من مائة مليون شخص (تركيا 76 مليونا سوريا 20 مليونا الأردن ولبنان زهاء عشرة ملايين). وحسبما نقل على لسان وزير الخارجية التركى أحمد داود أوغلو، فإن أنقرة تأمل فى أن يطبق نظام تأشيرة «شنجن» بين هذه الدول، لكى يتحرك أى زائر فى ربوعها بتأشيرة دخول واحدة. كما تتطلع إلى انضمام العراق إلى تلك السوق الجديدة يوما ما. (لا تنس أن تأشيرات الدخول بين تركيا وليبيا ألغيت قبل شهرين). هذه ليست مصادفات ولا ضربات حظ، ولكنها خطوات هادئة اهتدت برؤية استراتيجية بلورها الدكتور أحمد داود أوغلو مهندس السياسة التركية الجديدة. التى ارتكزت على أمرين أولهما حل المشاكل القائمة مع كل الجيران، وثانيهما توسيع نطاق تبادل المصالح بين تركيا ومحيطها الاستراتيجى. وهى الرؤية التى التزمت بها حكومة حزب العدالة والتنمية منذ تولت السلطة فى عام 2002، وحققت نجاحات باهرة حتى الآن على الصعيدين السياسى والاقتصادى. وليس دقيقا تفسير ذلك التمدد بحسبانه مشروع تكتل سنى تقوده تركيا فى مقابل التطلعات الإيرانية التى تعبر عنها طهران. ذلك أن ثمة علاقات وثيقة بين تركيا وإيران، خصوصا على الصعيد الاقتصادى (تركيا تعتمد على إيران فى استيراد الغاز) وهناك أكثر من 40 اتفاقية تعاون بين البلدين وقعت فى العام الماضى (الأتراك وقعوا مائة اتفاقية مع العراق). لا يستطيع المرء وهو يتابع هذا التنامى المشهود للدور التركى أن يقاوم مقارنته بالتراجع المحزن فى الدور المصرى. إذ فى حين تتصالح تركيا مع محيطها فى هدوء، وتنسج شبكة مصالح قوية مع دول ذلك المحيط. فإن مصر تمضى فى اتجاه معاكس طول الوقت حتى أصبحت تدخل فى معارك صغيرة لا مبرر لها، مرة مع الجزائر بسبب مباراة لكرة القدم ومرة ثانية مع قطر لأسباب غير مفهومة. ذلك غير القطيعة مع سوريا، والعلاقات غير المستقرة مع السودان. وهو ما أدى إلى إصابة العمل العربى المشترك بالشلل (باستثناء مجال الأمن طبعا)، والحركة الإيجابية الوحيدة التى قامت بها كانت باتجاه إثيوبيا ودول حوض النيل، وقد اضطرت إليها مصر حين أدركت أن الخطر يتهدد حصتها من المياه. لا أكاد أجد تفسيرا للتقدم التركى والتراجع المصرى إلا فى أمرين أولهما الديمقراطية التى تفتح الباب لمحاسبة المسئول، وثانيهما وضوح الرؤية الاستراتيجية التى تهديه إلى سواء السبيل، ولا تستعبط وتسألنى أين يقع كل منهما!