لمدة أسبوع ظل يتلقى دعوة إثر أخرى من أصدقائه على الفيس بوك للانضمام إلى إحدى المجموعات. المجموعة تدعو كل عضو فيها للتبرع بمتر قماش لصناعة علم مصرى يحطم الرقم القياسى ويصبح الأكبر فى العالم. فاروق سلامة، طالب السنة الأولى فى كلية الإعلام، لم يكن محبذا للفكرة ولكنه ملّ من استمرار اضطراره للدخول على حسابه، ورفض الدعوة التى يبدو أن دائرة أصدقائه على الفيس بوك أصبحت مغرمة بها بسبب فورة الحماسة الوطنية التى أعقبت أحداث «المعركة الكروية» بين مصر والجزائر، لذا وجد أن الحل الوحيد الذى يمنع أوتوماتيكيا وصول أى دعوة جديدة هو أن يقبل بالفعل الانضمام إلى المجموعة. يقول فاروق سلامة إنه لن يتبرع بمتر قماش وغير مهتم بالفكرة، ولكن عضويته فى المجموعة هى جزء من الرقم الذى سينقله الإعلام للدلالة على تحمس الشباب للمشاركة فى هذه الحملة. لا أحد يعلم بدقة كم مشاركا متحمسا بالفعل ومهتما، ولكن فاروق سلامة مثل كل شاب مستخدم للفيس بوك يعلم أن دوافع ضغط زر الاشتراك قد تعنى أيضا مجرد الفضول، الرغبة فى متابعة أخبار الحدث لا المشاركة فعليا، مجاراة الأصدقاء والمعارف فى الاهتمام بشىء جديد ومثير، وربما المشاغبة والاعتراض على الفكرة أو السخرية منها فى ساحات حوار المجموعة. العلم الذى سيدخل موسوعة جينيس ليس الأهم، ولكن هناك موضوعات أخرى أثيرت على الشبكات الاجتماعية المختلفة ونالت ما نالت من الجدل، مثل الحفاوة الضخمة بحركة 6 إبريل ودعوتها للإضراب العام وحشدها ما يقرب من 80 ألف عضو على الفيس بوك، واعتبار ذلك انتصارا مظفرا على كل الحركات والأحزاب والجماعات السياسية القديمة، السيل الجارف من الصور والفيديوهات التى تحمل كراهية وعنصرية بين مجموعات من المصريين والجزائريين والتى جعلت بالتعاون مع الإعلام التقليدى مباراة فى كرة القدم سببا فى تراشق شعبى وشبه رسمى أحيانا بين دولتين «شقيقتين»، وأخيرا ظاهرة تأييد ترشح الدكتور محمد البرادعى رئيسا للجمهورية بكثافة من خلال مجموعات الفيس بوك. من المألوف أن نتحدث عن الفاعلية التى أتاحها انتشار استخدام تطبيقات الشبكات الاجتماعية Social Networks على الإنترنت، مثل الفيس بوك Facebook وتويتر Twitter ويوتيوب Youtube، والصوت الحر الذى منحته للشباب والحركات الجديدة، ولكن قد يكون مفيدا أن نتحدث عن هذه التقنيات وتصميمها وطريقتنا فى استخدامها، مما يؤدى إلى التضخيم المبالغ فيه لأحجام مجموعات أو فاعلية رموز، بشكل قد يكون محبطا فيما بعد لهذه المجموعات أو هذه الرموز أو مسيئا ومؤذيا لأطراف الأزمات. عالم جديد واتصالات جديدة التطبيقات الاجتماعية على الإنترنت، هى أهم خصائص ثورة الويب 2.0 أو web 2.0، والذى أصبح مصطلحا يشير إلى الخصائص التى تتيح فاعلية أكبر للمستخدمين وتفاعلية بينهم، كالتصميمات الخاضعة لاختيارات المستخدمين، والتى تتيح لهم الإرسال لا مجرد الاستقبال، وتكوين شبكات من الأصدقاء والمعارف والتواصل معهم. ولم يكن التطور التقنى مجرد ابتكار منفصل عن التطورات الاجتماعية فى العالم، فكما يرى مانويل كاستلز عالم الاجتماع الأمريكى، الذى يعد الأكثر شهرة الآن فى ربط البحث الاجتماعى بعلوم الاتصال والإعلام أن انتقال المجتمعات من النمط الصناعى التقليدى إلى «مجتمع الشبكة» الذى يفتقد المركز الواحد فى الاجتماع والاقتصاد والسياسة، حدث بشكل متزامن مع التحول فى عالم الاتصال من نمط وسائل الإعلام Mass media (الذى تنتقل فيه المعلومة من مركز أو مراكز إلى الجموع) إلى نمط الاتصال الشخصى الجماهيرى Mass self-communication، شخصى لأن كل شخص هو مرسل ومستقبل، وجماهيرى لأن الرسالة تصل إلى الجمهور الذى يختار بشكل شخصى، أيضا، استقبال هذه الرسالة أو تلك من بين بدائل لا حصر لها، وهو ما يعنى توازنا جديدا بين الفردية والجماعية. ربما يكون مصدر جاذبية الفيس بوك وشعبيته الجارفة هو أنه أكثر التطبيقات قربا لفكرة مجتمع الشبكة، فهو شبكة اجتماعية على الإنترنت تحاكى الشبكات الاجتماعية المنسوجة بين الأفراد فى الواقع، كما أنه يركز بشكل جيد على الذات أو«الفردية» ويتيح لها أن تعبر أو تستعرض نفسها بشكل جيد، بالإضافة إلى أنها توفر وسيطا سهلا ل«الجماعية» من خلال تطبيقات التواصل وتبادل التعبير والتعليق والنشر ضمن شبكة الأصدقاء. خارج نطاق الأصدقاء ولكن هل يظل فعلا ما نرسله من رسائل وتعليقات أو كتابات أو صور ضمن نطاق الأصدقاء؟ وإذا خرج فماذا يكون معناه خارج سياق علاقاتنا وفهم من يعرفوننا لطريقة تعبيرنا عن الهزل والجد؟ هذه إحدى مشكلات الشبكات الاجتماعية بشكل عام. علاء عبدالفتاح، مطور البرمجيات مفتوحة المصدر وأحد قدامى المدونين المصريين المهتمين بتقنيات الإنترنت وتأثيراتها الاجتماعية، يشير إلى مصطلح «انهيار السياق» الذى أطلقه ميشيل وتش الباحث فى الأنثروبولوجيا الثقافية بجامعة كانساس الأمريكية ضمن بحث كان بالأساس على اليوتيوب. يقول علاء عبدالفتاح: «المصطلح يشير إلى حالة مشهورة وهى الأشخاص الذين ينظرون إلى كاميرا الكمبيوتر ويتحدثون إلى العالم، ليصل ذلك إلى كل العالم بدون معرفة أى معلومات عن المتحدث وهويته ومكانه ومتى قال ذلك تحديدا وبماذا تأثر وعلى من كان يرد؟». هناك مشهد فيديو انتشر على الفيس بوك واليوتيوب الأسابيع الماضية، فيه رجل مصرى يقف هو وولداه يرتدون فانلات فرق كرة قدم مصرية ويسبون الجزائر وشعبها وفريقها الكروى، الفيديو صالح للاستخدام قبل كل مباراة مقبلة أو بعدها. وبالمثل فيديو الشاب الجزائرى الذى يحاول السيطرة على أعصابه وهو يتهم عمرو أديب بأنه تسبب فى شطب مصر من خارطة دماغه، هذا الفيديو أيضا قابل للتكرار إذا استمر عمرو أديب فى الحديث عن مشكلات مباريات كرة القدم بنفس الطريقة. وساعتها سيستقبل أحدهم الفيديو ولا يعلم إن كان ذلك الشاب الجزائرى فقد أعصابه هذه السنة أو من سنوات ماضية. يشير علاء عبدالفتاح كذلك إلى أن انتقال بعض مشاهد الفيديو الشعبية إلى الإعلام المؤسسى سبب مشكلات مصداقية، مثل فيديو المشجعين الجزائريين وهم يلوحون بالأسلحة البيضاء والذى تبين فيما بعد أنه حدث فى زمان ومكان آخرين. يضيف علاء: «المقلب فى الشبكات الاجتماعية هو أن السياق ينهار بدون أن تنتبه لذلك، فالتصميم الأصلى افترض أنك لن تتعامل إلا مع معارفك، ولذلك فأنت تظن أنك تتواصل مع عائلتك وأصدقائك بالأساس ولكن رسائلك تصل لمستقبلين آخرين. مثلا الكلام عن أننا سنزعج المنتخب الجزائرى فى القاهرة أو تلويح جزائرى بأنه سيذهب ليشترى سكاكين وسيفعل كذا وكذا، هى أشياء يقولها الشباب المتحمس على المقاهى والنواصى من باب «التهييس» العادى، ولكن استدعاء هذا الكلام بعد فترة ونقله عبر برنامج تليفزيونى يضعه خارج سياقه ويتسبب فى نوع المشكلات كالذى حدث بين الشعبين المصرى والجزائرى». ربما يكون التوعد بمثل هذه الأحداث قد حدث بالفعل ولكن لا أحد يعلم إن كان المتحدث الجزائرى إلى كاميرا كمبيوتره المحمول هو الذى حمل السكين فى الخرطوم أم أن رسالته ألهمت آخر حين تناقلتها المواقع والمجموعات، وبالمثل هل من هددوا بإزعاج المنتخب الجزائرى من وراء شاشاتهم هم من طاردوا الحافلة ورشقوها بالحجارة أم لا. ولكن المؤكد أن تداعيات الحدث، التى عادت لتتناقلها المواقع والمجموعات بمنتهى السرعة، قد ألهمت المزيد والمزيد من هنا وهناك للانخراط فى معركة التطاول والكراهية والعنصرية.