أذكر أننا بعد نجاح مجلة فصول فى خلق تيار نقدى عربى محدث ومتجانس، شرعنا منتصف الثمانينيات فى تأسيس الجمعية المصرية للنقد الأدبى، وكنت أسعى كى تضم جميع الاتجاهات الفاعلة فى الحياة الفكرية، ففاتحت الدكتور لويس عوض فى الأمر. وكانت تربطنى به علاقة ود حميمة، تعمقت إثر استقبالى له فى إسبانيا خلال عملى بها، فتوجس كثيرا من إقامة تجمع للنقاد قائلا: إنهم يمثلون سلطة عاتية، ولو اتفقوا ضد كاتب أو أديب فسوف «يخربون بيته»، وعلى الرغم من أننى شرحت له استحالة ذلك عمليا، لأن تجمعهم لن يكون حول مبادئ نقدية موحدة، أو مواقف تضامنية تلغى اختلافاتهم الضرورية. بل سيكون الهدف هو تشكيل حركة منظمة فعالة، قادرة على تحريك الحياة الإبداعية نحو الازدهار، لكننى شعرت بأنه لم يقتنع، وبالفعل لم يحضر الاجتماعات، وأدركت حساسية موقفه حينئذ، فهو قطب كبير، قاد أهم تيار نقدى يسارى معتدل من موقعه فى الأهرام قرابة عقدين من الزمان قبل أن يتعرض للتهميش بضغط اليمين المنتصر منذ فترة، ولا يريد أن يزاحم نجوم المرحلة الجديدة من ناحية، كما أنه لا يتوافق مع نزعاتهم الحداثية التى كشفوا عنها فى مجلة فصول من ناحية أخرى. وأهم من ذلك أن ما صرح به من تصوره لسلطة النقد كان ينتمى إلى الفترة الأيديولوجية السابقة، فالاتجاهات العلمية الجديدة تعلن انتهاء عصر أحكام القيمة وسيادة أحكام الواقع، ومعنى هذا تقلص هيمنة الواقعية الاشتراكية والوجودية، وتحرر الأدباء نسبيا من سطوة فكرة الالتزام، وإن كان الكثيرون منهم لايزالون يتخذون مواقف سياسية واجتماعية حادة تتوافق مع تكوينهم الفكرى وانتمائهم الأيديولوجى. كانت منظومة المناهج البنيوية وما بعدها قد بدأت تستقطب اهتمام الجيل الجديد من النقاد، وهى مناهج علمية تدرس النصوص الإبداعية دون أحكام قيمة مسبقة، تختبر كفاءتها التعبيرية ونضجها الشعرى والتقنى، دون أن تبحث فيها عن نسق مفضل من القضايا الفكرية، فالأدباء أحرار فيما يعتقدون، لكن قدراتهم تقاس بمدى ما يبتكرونه من تقنيات وأساليب فنية. وبقدر ما يطورون من رؤاهم حتى تستجيب لتوقعات القراء الجمالية وتنمى وعيهم بالفن والحياة معا، وليس من حق الناقد أن يرفض عملا إبداعيا عظيما لأنه لا يتسق مع مبادئه الشخصية، فالنصوص هى التى تفرض القيمة فى الواقع بما تؤسسه من قواعد جديدة للإبداع، يتعين على النقد أن يبحث فى أدبيتها أو شعريتها كما أصبحت تسمى بعد ذلك. بهذا المنظور أخذ الدور التوجيهى للنقد يتوارى تدريجيا، وإن لم يستطع النقاد أن يتخلوا عنه تماما، بل ظل حكم القيمة مضمرا يتراءى عبر تجليات عديدة، أبرزها عمليات الاختيار ذاتها، فالناقد مهما اتسع مجال رؤيته، يتعين عليه أن يؤثر نصوصا محددة باهتمامه، وهو حر فى هذا الاختيار التمييزى الذى يشكل أول حكم قيمة مضمر، كما أن لغته فى التعبير. مهما حاول أن تكون علمية محايدة، لابد لها أن تتضمن إشارات لافتة من الإعجاب أو التباعد توحى بالتقييم المتوقع، غاية ما هناك أنه أصبح مجبرا على هجر موقع الأستاذ الذى يملى أحكامه أو يوزع درجاته، وأصبح مطالبا بأن يقدم من خلال التحليل العلمى الدقيق للنصوص وتقنياتها الفنية وكشوفها الجمالية رؤيته الموضوعية لمستوى شعرية هذه النصوص، وقدرتها فى التأثير على المتلقين وتطوير الأساليب الإبداعية المنجزة فيها. وحيث إن لكل ثقافة أولوياتها ومنظوماتها القيمة الكامنة فإن جهد الناقد يتركز أيضا على مراعاة الانسجام بين هذه المنظومات وما يستقر فى الوعى الإنسانى بإيقاعه الصحيح. سلطة الإعلام: لكن المشكلة لدينا فى الثقافة العربية أن هذا الفهم الصحيح لإيقاع العصر الحديث، بما يتطلبه من الوعى بالمناهج النقدية والتيارات العلمية فى دراسة الأدب، لم يتم تذويبه فى البرامج الدراسية فى مراحل التعليم المختلفة، فلم يتشربه الخريجون الذين سيتولون تحريك عجلة الإعلام والتعليم، مما ترتب عليه أخطر ظاهرة يعانى منها الفكر العربى وهى ضعف التكوين العلمى والمهنى للقائمين على المؤسسات الإعلامية المهيمنة على الحياة العامة فى الصحافة والتليفزيون، ونقص الحصيلة المعرفية عندهم، ناهيك عن خلل معايير اختيار الأكفاء فى قياداتهم. إذ لا يكاد أحد منهم يجهد فى قراءة كتاب متخصص فى مجاله، بلغته القومية، أو بإحدى اللغات الأجنبية، ليكون على علم بالتحولات المعرفية أو بالتغييرات الأساسية فى محددات الخطاب الذى يمارسه. معظم المشتغلين بالإعلام الثقافى عندنا هواة لا يكلفون أنفسهم مشقة تثقيف الذات حتى يصبحوا جديرين بتثثيف القراء. ويعرضون هذا النقص الفادح بشبكة من العلاقات والمصالح تغطى على عجزهم وتصورهم وهم يتصدون لأداء دور النقاد بغير منهج مدروس أو أدوات علمية محكمة، ثم يفاجئونك فى حواراتهم بسؤال غطى عن غيبة النقد، وهو بالطبع غائب لا محالة عن وعيهم، فلا خبرة لديهم بما يصدر مؤلفا أو مترجما من كتب، ولا صبر عندهم لحضور جلسات مؤتمر يعقد، ولا سماع محاضرة تلقى. ويتوارثون هذه السطحية حتى تصبح من تقاليد المهن الإعلامية، فى الوقت الذى ينشطون فيه لملء فراغ السلطة النقدية بطريقة عشوائية، تعتمد على مناورات الحجب والتنويه، والذكر والتجاهل، والكسل حتى عن متابعة التقريرات الدولية المعمقة التى تتضمن تحليلا لنبأ أو تعليقا على خبر مما أصبح يضعه الإعلام الدولى بين يدى محترفيه كل ساعة، وهو ما يكفى لمضاعفة المادة الثقافية الجيدة. إن خفة وزن المادة العلمية والفكرية، وعدم اتساقها مع الخارطة المعرفية المعاصرة فى الصحف المصرية، وغيبة الأقلام النقدية الشابة عن صفحاتها بتجاهل منتظم يجعل مستوى الاكتشاف فى الواعى للقدرات الإبداعية والفكرة محدودا للغاية، ولا يمثل القوة المذخورة فى العقل النقدى المصرى، ولأنه هو المنوط به تقييم غيره فإنه يظل خاضعا لوهم كبير، يخيل لأصحابه أنهم بما يتاح لهم من مساحات يشغلونها قد امتلكوا شرعية الكتابة النقدية مع عجزهم عن ملء فراغها الواضح، وهنا تكمن المفارقة اللافتة، فمن يكررون أسئلتهم عن غيبة النقد يكرسون هذه الغيبة بعملتهم الرديئة التى تطرد العملة الجيدة فى الكتابة الأدبية. ويظل هناك جانب موضوعى لا سبيل إلى تجاهله فى توهم غيبة النقد هو قلة عدد كبار النقاد فى كل عصر ومصر، فهم غالبا أفراد معدودون، كل منهم يعتبر مؤسسة فى حد ذاته، تتمخض عنهم الحياة الأكاديمية والسوق الثقافية بإنتاج مشترك، فمن يقتصر على الوسط الجامعى يظل سجينا لأسوار لا يتجاوز مقام الأستاذية إلى ما عداه، ومن يسبح فى تيار السوق الثقافى فحسب لا تلبث أن تغلبه أمواجه فلا يقوى على فرض بوصلته العلمية الرصينة. والناجون من ذلك هم القادرون على الجمع بين التيارين بمشقة فى التكوين والممارسة، وهم دائما قلة فعالة، تتزود برصيد ضخم من المعرفة النظرية قبل أن تغمر فى مياه الإبداع الساخنة بالدراسات التطبيقية، ويظل التحدى الذى يتربص بالحياة الثقافية عندنا فى هذا المجال كما هو فى السياسة يتمثل فى الحفاظ والتكافؤ بين السلطات الثلاث: «سلطة النقد العلمى المنهجى، وسلطة الإعلان الوسيط الذى ينقل المعرفة ويضمن التأثير، وسلطة المبدعين أصحاب النصوص التى تعد مصدر التشريع الأدبى. وحيض إحدى هذه السلطات أو تجاهل دورها يخل بالمعادلة الثقافية فى إيقاعها الصحيح، وتوازن العلاقة الجدلية بينها يجعلنا مجتمعا منتجا للمعرفة، مقدرا للإبداع، موزعا لثماره الطيبة بالعدل.