منذ أعوام قليلة مضت عادت مصر تحتفل بعيد الميلاد المجيد كأحد الأعياد الرسمية للدولة، تعطل فيها المصالح الحكومية والمدارس والجامعات، وأقول عادت لأن المصريين فى عصور مضت كانوا يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح، وكانوا يشتركون جميعا فى هذا الاحتفال، ولو عدنا إلى الوراء لكتب التاريخ سوف نكتشف أن مصر كلها كانت تحتفل بعيد الميلاد المجيد باعتباره واحدا من أهم الأعياد فى البلاد، والمصادر التاريخية تؤكد أن هذا الاحتفال كان احتفالا مصريا عاما منذ العصر الفاطمى على الأقل واستمر الحال كذلك إلى عصر المماليك، ولو اطلعنا على ما قاله شيخ المؤرخين المصريين وكبيرهم فى العصور الوسطى تقى الدين أحمد بن على المقريزى فى كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» المشهور بخطط المقريزى، الذى يعد سجلا لتاريخ مصر الاجتماعى فى العصور الوسطى، فسوف نجده يعد «ليلة الميلاد» ضمن الأعياد المسيحية الكبرى فى مصر حتى عصره (النصف الأول من القرن الخامس عشر)، فيقول عن هذا العيد: «ليلة الميلاد وسنتهم فيه كثرة الوقود بالكنائس وتزينها، ويعملونه بمصر فى التاسع والعشرين من كيهك. ولم يزل بمصر من المواسم المشهورة». وبالمناسبة فنحن نحتفل بعيد الميلاد فى مصر إلى الآن فى 29 كيهك وفقا لتقويمنا المصرى الذى يصادف 7 يناير فى التقويم الميلادى وكان يقابل قديما 25 ديسمبر حتى قام بابا روما جريجورى الثالث بتعديل التقويم الميلادى فى القرن السادس عشر، وهذا سبب الاختلاف بين الاحتفال بالعيد عندنا والاحتفال به فى الكنائس الغربية. ويتحدث المقريزى عن الاحتفال فى أيام الدولة الفاطمية، التى بلغ فى عصرها اهتمام الدولة بالاحتفالات الشعبية أقصى مداه، مؤكدا أن الدولة كانت تعتبر هذا العيد من بين الأعياد الرسمية التى كانت تفرق فيها الأطعمة من قصر الخليفة على أرباب الرسوم من الأمراء وكبار رجال الدولة من المدنيين والعسكريين وعلية القوم عموما، ويعدد الأطعمة التى كانت توزع فى ذلك اليوم ما بين أنواع الحلوى والأسماك، فيذكر من تلك الأطعمة «الجامات من الحلاوة القاهرية، والمثارد التى فيها السميذ، وقربات الجلاب، وطيافير الزلابية، والسمك المعروف بالبورى». ويبدو أن الدولة بعد زوال الخلافة الفاطمية وقيام دولة الأيوبيين قد توقفت عن الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، مع توقف كثير من مظاهر البهجة فى حياة المصريين، لكن العيد ظل عيدا لكل المصريين، مسلمين ومسيحيين، ويذكر المقريزى من أساليب احتفال المسيحيين فى عيد الميلاد «اللعب بالنار»، ويقول أيضا عن مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد التى كان المصريون جميعا مسلمين ومسيحيين يمارسونها، التى عاصرها بنفسه: «وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر موسما جليلا، يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشترى من ذلك لأولاده وأهله. وكانوا يسمونها الفوانيس، ويعلقون منها فى الأسواق بالحوانيت شيئا يخرج عن الحد فى الكثرة والملاحة. ويتنافس الناس فى المغالاة فى أثمانها، حتى لقد أدركت شمعة عملت فبلغ مصروفها ألف درهم وخمس مائة درهم فضة، عنها يومئذ ما ينيف على سبعين مثقالا من الذهب». كما يذكر أنه شاهد المتسولين فى الطرقات أيام هذه المواسم «وهم يسألون الله أن يُتصدق عليهم بفانوس، فيُشترى لهم من صغار الفوانيس ما يبلغ ثمنه الدرهم وما حوله». ويبدو أن الاحتفال بدأ يتراجع مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى ضربت مصر فى القرن الخامس عشر، ويقول المقريزى فى ذلك: «ثم لما اختلت أمور مصر، كان من جملة ما بطل من عوائد الترف عمل الفوانيس فى الميلاد إلا قليلا».