بين الكتب والروايات إلى الأفلام، ترددت مدن وأماكن تاريخية عديدة على مسامعنا وأعيننا، حتى علقت بأذهاننا ونُسجت بخيالنا، بعدما جسدها الكتاب والمؤلفون في أعمالهم، لكننا أصبحنا لا نعلم عنها شيئا، في الوقت الحالي، حتى كثرت التساؤلات عن أحوال هذه المدن التاريخية الشهيرة، كيف أضحت وأين باتت تقع؟. بعض هذه المدن تبدلت أحوالها وأضحت أخرى مختلفة، بزمانها ومكانها وساكنيها، فمنها التي تحولت لمدينة جديدة بمواصفات وملامح غير التي رُسمت في أذهاننا، لتجعل البعض منا يتفاجئ بهيئتها وشكلها الحالي، ومنها التي أصبح لا أثر ولا وجود لها على الخريطة، ما قد يدفع البعض للاعتقاد بأنها كانت مجرد أماكن أسطورية أو نسج خيال. لكن، ما اتفقت عليه تلك المدن البارزة أن لكل منها قصة وراءها، ترصدها لكم "الشروق"، في شهر رمضان الكريم وعلى مدار أيامه، من خلال الحلقات اليومية لسلسة "كيف أضحت!"، لتأخذكم معها في رحلة إلى المكان والزمان والعصور المختلفة، وتسرد لكم القصص التاريخية الشيقة وراء المدن والأماكن الشهيرة التي علقت بأذهاننا وتخبركم كيف أضحت تلك المدن حاليا. ….. مدينة البندقية، فينيسيا، المدينة العائمة في إيطاليا، جميعها مسميات لواحدة من أكثر المدن الاستثنائية في العالم، تلك المدينة الإيطالية العريقة التي تعرف بسحره وجمالها، وتتميز بطابعها المعماري الفريد من نوعه، ونظامها البيئي المميز، وتاريخها العريق. فقد كانت مدينة البندقية بمثابة حلقة الوصل الثقافية والتجارية بين قارتي أوروبا وآسيا في فترة القرون الوسطى، وشكلت أكبر ميناء بحريا منذ تلك الفترة، والذي ما زال يمتلك مكانة خاصة لليوم كميناء رئيسي في منطقة شمال البحر الأدرياتيكي. مدينة البندقية.. عاصمة فينيسيا العائمة وتُعد مدينة البندقية، المعروفة أيضا بمدينة فينيسيا، إحدى أشهر المدن العائمة على الماء بإيطاليا، التي بُنيت فوق حوالي مائة وعشرين جزيرة في منتصف بحيرة البندقية، على رأس البحر الأدرياتيكي، والتي ترتبط فيما بينها بالجسور والقنوات المائية، وتُستخدم القوارب والتاكسي المائية للتنقل فيها، والتي أصبحت عاصمة مقاطعة فينيسيا وإقليم فينيتو في شمال إيطاليا. وبُنيت المدينة على أساس خشبي كامل، عندما غرس بناة البندقية، الذين هربوا إليها، أعمدة الخشب كقاعدة لمبانيهم، حتى أصبحت بيوتها، اليوم، تقوم على أكثر من 100 ألف عمود خشبي ضخم، وضعت تحت هذه الجزر لتسهل عملية البناء فوقها، وفقا للقصة المنشورة بمجلة "أطلس أوبسكيورا" الوثائقية الإيطالية، في عام 2009. المدينة التي بناها الإيطاليان هربا من الغزاة في وقت ما بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، ومع غزو البرابرة لأوروبا، ونشرهم الخراب في ربوع إيطاليا، كان الإيطاليين يفرون من منازلهم في البر الرئيسي والشمال الإيطالي، هربا من الغزاة، وراحوا يلجأون إلى تلك الجزر الشمالية الموحلة التي تغمرها الماء وتحاصرها البحيرة المستنقعية للاحتماء بها، بعدما وجدوها ملجأ مناسبا للاختباء بين الصيادين الفقراء، الذين سبقوهم للاستيطان في البندقية. ومع استمرار الغزوات في جميع أنحاء إيطاليا، وجد الإيطاليون في الجزر مكانا استراتيجيا يحميهم من أي غزو خارجي، ويسهل عليهم الدفاع عن أنفسهم، فانضم المزيد والمزيد من اللاجئين إلى المستوطنين الأوائل للجزر، ونمت الحاجة إلى بناء مدينة جديدة، فبنوها في بداية القرن الخامس الميلادي، وتحديدا عام 421 ميلادية، وأطلقوا عليها اسم "فينيسيا"، نسبة إلى القبيلة الأولى التي انتقلت إليها. جمهورية البندقية.. سقوط المدينة واستقلالها وبعدها، وخلال القرن السابع الميلادي، سرعان ما دخلت مدينة البندقية تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية، قرابة قرن كامل، قبل أن يستغل تجار المدينة ضعف الحكم البيزنطي، وينشقوا عام 697 ميلادية، ويختاروا من بينهم شخصا ونصبوه دوقا حاكما، في حركة أعلنت استقلال المدينة، وبداية عهد جديد. ومع مرور الزمن، توسع حكم البندقية وامتدت سطوة أساطيلها البحرية لتشمل البحر الأدرياتيكي، وبحر إيجة، والبحر المتوسط، وأطراف المحيط الأطلسي صعودا حتى المملكة المتحدة، فمارست حكومة البندقية في هذه البحار الشاسعة تجارة الحرير والسمك والخشب والحديد المستخرج من جبال الألب القريبة، وتجارة الرقيق التي كانت تشتريهم من جنوبروسيا، وتبيعهم في أسواق شمال أفريقيا، حتى سيطرت على الطرق التجارية للعالم القديم. نظام الحكم في البندقية.. بين الماضي والتجديد ازدهار التجارة في المدينة، أدى لتطور الوعي القومي فيها، حتى أصبح اختيار الدوق يتم عبر الانتخابات العامة، بحلول القرن التاسع الميلادي، وبعدها خضعت البندقية خلال القرن الحادي عشر، لتغيير جذري في هيكلها السياسي، تماشيا مع احتياجاتها المتزايدة، ونموها الاقتصادي، وأعلنت نفسها كجمهورية، فتراجعت صلاحيات الدوق وأصبحت يتقاسم السلطة مع مجالس الحكم والبلدية. الدولة العثمانية وتراجع نجم البندقية لكن، مع مجيء الخلافة العثمانية وصعود نجمها العسكري -آنذاك- بدأت جمهورية البندقية في خسارة أراضيها، مثل جزيرة قبرص، وجزيرة كريت، لصالح جيوش وأساطيل العثمانيين، حتى وقعتا معاهدة سلام في نهايات القرن السادس عشر، ولعل ما حمى البندقية من السقوط في قبضة العثمانيين -حينها- كان السد المتحرك، الذي صممه وبناه ليوناردو دافنشي على بابها لحمايتها من الأساطيل العثمانية، بعد أن انتقل للعيش إليها من ميلانو هربا من الاحتلال الفرنسي، وفق ما ذكرته التقارير المنشورة بالصحف والمواقع الوثائقية الإيطالية. مع اكتشاف القارة الأمريكية وتحول طرق التجارة واستمرار معاركها مع العثمانيين بقيت جمهورية البندقية تتراجع مكانتها وقوتها حتى جاءت نهايتها كجمهورية وسقطت، بنهاية القرن الثامن عشر، تحت الاحتلال النمساوي، ومن ثم الفرنسي، قبل أن تتحرر وتقرر العودة إلى إيطاليا التي أصبحت مملكة، في منتصف القرن التاسع عشر، وتستمر تحت ظلها حتى الآن. أبرز الوجهات السياحية في إيطاليا واليوم، تُعد مدينة البندقية أحد أبرز الوجهات السياحية في دولة إيطاليا، بعدما أُدرجت ضمن قائمة مواقع التراث العالميّ التابعة لمنظمة اليونسكو، في عام 1987، يقصدها ملايين الزوار والسياح والعشاق من مختلف أرجاء العالم سنويا، بسبب أجواءها الفريدة وجمعها بين المعالم الأثرية والتاريخية والأماكن السياحية الحديثة، كقصر دوجي وقصر فونداكو دي تورتشي وكنيسة سانتا ماريا وميدان سان ماركو ومتحف كورير.