نشر موقع 180 مقالا للكاتب وسام متى عرض فيه الاتفاق الأخير بين الصينوإيران والذى يعزز التعاون الاقتصادى والسياسى والصناعى والدفاعى بينهما... نعرض منه ما يلى: لم تكن مصادفة أن اختارت الصين شهر يناير عام 2016، موعدا لزيارة رئيسها تشى جين بينج إلى ايران، لتتزامن مع بدء تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران ومجموعة 5+1، المعروفة إعلاميا باسم «الاتفاق النووى الإيرانى». عشية تلك الزيارة، أصدرت الصين «الكتاب الأبيض» حول سياستها الشرق أوسطية ليست مصادفة أيضا أن تزامن الإعلان عن هذه الخطة حينها مع يوم تنفيذ الاتفاق النووى فى الثالث عشر من يناير 2016 والتى قامت وفق صيغة التعاون 1+2+3، المتمثلة فى (1) اتخاذ مجال الطاقة كمحور رئيسى و(2) مجالى البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار كجناحين، بجانب (3) مجالات ذات تقنية متقدمة وحديثة تشمل الطاقة النووية والفضاء والأقمار الاصطناعية والطاقات الجديدة كنقاط اختراق فى التعاون فى الطاقة الإنتاجية. خلال زيارته لإيران فى الثالث والعشرين من يناير عام 2016، وعد تشى جين بينج وحسن روحانى بزيادة التجارة الثنائية إلى 600 مليار دولار أمريكى خلال السنوات العشر التالية، بناء على حقيقة أن حجم التجارة بين البلدين بلغ نحو 52 مليار دولار فى عام 2014، وجرى حينها الاتفاق على سلسلة اتفاقات وبروتوكولات للشراكة الاستراتيجية، عكف الجانبان على دراستها منذ ذلك الوقت. كان من الطبيعى أن تتأثر جهود الشراكة الصينيةالإيرانية بمجمل التغيرات التى أربكت العلاقات الدولية بعد عشرة أشهر على الزيارة، والتى تمثلت فى انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وهو تحول كانت له انعكاسات مباشرة على كل من بكينوطهران، لا سيما بعدما مضى الرئيس الجمهورى قدما فى تأجيج الحرب التجارية مع الصين من جهة، والانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى من جهة ثانية. بداية هذا الأسبوع، وفى الوقت الذى تعيد فيه الولاياتالمتحدة صياغة سياستها الخارجية بما يشمل احتمال العودة إلى خطة العمل الشاملة مع إيران من جهة، التركيز على جبهة «الخطر الصينى» من جهة ثانية، جاء التوقيع الرسمى على مسودة الاتفاق الخاص بالشراكة الاستراتيجية، ليشكل حدثا مفصليا، من المؤكد أن تداعياته لن تقتصر على العلاقات الثنائية، بل يرجح أن تصبح إحدى الديناميات المحددة للعلاقات الدولية على المستوى الشرق أوسطى بشكل خاص، وعلى المستوى الأوراسى بشكل أكثر عمومية. بحسب نص برنامج التعاون الشامل الذى وقعه كل من وزير الخارجية الصينى وانج يى ونظيره الإيرانى محمد جواد ظريف فى طهران، يدور الاتفاق الاستراتيجى حول مجموعة من التفاهمات بشأن تعاون ثنائى يشمل العديد من المجالات الاقتصادية والصناعية والسياسية والدفاعية. النقطة الأكثر أهمية فى الاتفاق، هى أن الصين وافقت على استثمار 400 مليار دولار فى إيران على مدى 25 عاما، فى مقابل إمدادات ثابتة من النفط لتغذية اقتصادها المتنامى. ويفصل برنامج التعاون الاستثمارات الصينية فى عشرات المجالات، بما فى ذلك المصارف والاتصالات والموانئ والسكك الحديد والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات. مكاسب اقتصادية من الناحية الاقتصادية، يمثل الاتفاق نقطة التقاء بين الصينوإيران، التقطها الطرفان فى لحظة دولية مناسبة. فى ظل الظروف الحالية، يسمح الاتفاق للصين باستخدام موارد إيران الطبيعية فى دعم نموها الاقتصادى، وقد أبدت الصين اهتماما إيجابيا بهذا الأمر، بالنظر إلى احتياجاتها المتنامية للنفط الخام. يضاف إلى ما سبق أن إيران هى من الدول الأكثر اكتظاظا بالسكان فى غرب آسيا، ومن الطبيعى أن تسعى الصين لبناء شراكة تجارية طويلة الأمد معها، اخذا فى الحسبان حاجة إيران الماسة إلى الاستثمار الأجنبى فى مشاريع الطاقة والبنية التحتية، التى تقدر بنحو 250 و150 مليار دولار فى السنوات المقبلة، تتطلب مثل هذه المشاريع طويل الأمد. لا بد من التذكير بأن التجارة الثنائية بين البلدين تطورت من الصفر تقريبا فى أوائل التسعينيات إلى أكثر من 50 مليار دولار فى عام 2014، وقد زادت بشكل كبير من 400 مليون دولار فى عام 1990 إلى مليار دولار فى عام 1997، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى توسع تجارة الطاقة بين البلدين، حيث تشير الإحصائيات الاقتصادية إلى أن النفط الإيرانى كان يمثل بين و14 فى المائة من واردات الصين النفطية بين العامين 2000 و2012. بالنسبة لإيران، فإن الاتفاق الأخير ربما يمثل مخرجا للأزمة التى يعانى منها اقتصادها، الذى يقف على حافة الهاوية بفعل العقوبات الغربية. وأما بالنسبة للصين، فإن الاتفاق ينطوى على فائدة اقتصادية مزدوجة: ضمان الحصول على مصادر الطاقة الحيوية لنمو اقتصادها، كسب خطوط جديدة (طرق، موانئ، سكك حديد) لمشروع تطوير البنية التحتية العابر لبلدان أوراسيا. أبعد من مناورة جيوسياسية من الناحية السياسية، يمكن للاتفاق أن يعمق نفوذ الصين فى الشرق الأوسط من جهة، ويقوض الجهود الأمريكية لإبقاء إيران معزولة من جهة ثانية. لكن مفاعيل الصفقة الإيرانيةالصينية تتجاوز المكاسب الاقتصادية والمناورة الجيوسياسية التى تنضوى تحت سقفها الأهداف الصينيةوالإيرانية الآنفة الذكر، إذ ينبغى مقاربتها ضمن منظور أوسع، يتصل خصوصا بالتكامل الاقتصادى الآسيوى، الذى بات يشكل طموحا لكافة دول أوراسيا، ولا سيما روسيا، بجانب دول وازنة أخرى، من بينها الهند وباكستان وتركيا، ناهيك عن دول آسيا الوسطى. ومما لا شك فيه أن الصينوإيران تشكلان ركيزة أساسية لهذا التكامل، إذ غالبا ما تشير الأدبيات المتصلة بالعلاقات الصينيةالإيرانية إلى إرث يمتد إلى أكثر من ألفى عام وضع الأسس التاريخية للتواصل بين حضارتى الصين الداخلية وإيران العظمى، والتى تعود إلى القرن الثانى قبل الميلاد على أقل تقدير، حين امتلكت الإمبراطوريتين الفرثية والساسانية (اللتان احتلتا معظم ما هو اليوم إيران وآسيا الوسطى) صلاتٍ عديدة مع سلالات هان وتانغ وسونغ ويوان ومينغ. ولقرون من الزمن ارتبطت الحضارتان القديمتان فى آسيا اقتصاديا وثقافيا بشكل أكبر عبر طريق الحرير، لا بل إن الحضارتين اتحدتا لفترة وجيزة تحت حكم إمبراطورية المغول. اليوم، توفر مبادرة الصين «حزام واحد طريق واحد» أو ما يسمى ب«طريق الحرير الجديد» وسعى إيران للتكامل مع العالم من ناحية، وإمكانات الصين للاستثمار واحتياطيات إيران الهائلة من النفط من ناحية ثانية، سيناريو ممتازا ومفيدا للطرفين للتعاون. ومن المعروف أن إيران تمتلك رابع أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام فى العالم، وهى ثالث أكبر منتج فى منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، كما أنها تلعب دورا مؤثرا فى تحديد السعر الدولى للنفط من جانب العرض فى السوق. أما الصين فتعد ثانى أكبر مستهلك للنفط فى العالم وأكبر مستورد صاف للبترول والمشتقات النفطية الأخرى فى العالم. وهذا يجعلها دولة مهمة للغاية ولديها القدرة على التأثير فى أسعار النفط العالمية من جانب الطلب. على هذا الأساس، فإن مدى تعاون بكينوطهران عنصرا جوهريا فى ديناميكيات الطلب/العرض على النفط، بكل ما ينطوى ذلك من تأثيرات مباشرة على الاقتصاد العالمى، وامتدادا لذلك على الاستراتيجيات الدولية. يضاف إلى ما سبق أن التعاون العسكرى بين إيرانوالصين من شأنه أن يمنح الأخيرة موطئ قدم فى الشرق الأوسط وغرب آسيا من خلال التدريبات والتمارين المشتركة، والبحوث المشتركة وتطوير الأسلحة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وإذا ما أضيف إلى الجانب العسكرى البعد المتصل بمشاريع البنية التحتية، فسيكون بإمكان الصين الاستفادة من إيران كمفترق طرق اقتصادى حيوى بين الشرق والغرب، ما يجعل منطقة الخليج الخط التالى الذى يقسم المصالح الاستراتيجية للصين والولاياتالمتحدة. فى هذا الإطار، تسعى الصين لبناء عدة موانئ فى إيران، وبخاصة عند مضيق هرمز، ما يسمح لها بالحصول على موطئ قدم فى واحدة من أهم النقاط الحيوية لإمدادات النفط فى العالم، ما يعزز قلق الولاياتالمتحدة بشأن الطموحات الصينية، لا سيما بعدما نجحت بكين فى تكثيف حضورها طوال السنوات الماضية من خلال العديد من الموانئ على طول المحيط الهندى من بحر الصين الجنوبى إلى قناة السويس. بهذا المعنى يمكن توقع مروحة تداعيات للاتفاق الصينيالإيرانى على مجمل الصراعات القديمة والمتجددة على المسرح الجيوسياسى العالمى، أخذا فى الحسبان أن الأولويات الأميركية تعاد صياغتها بما يتناسب مع ضرورات مواجهة الخطر القادم من أقصى الشرق. صحيح أن الشراكة الصينيةالإيرانية تأتى فى مرحلة حاسمة بالنسبة للولايات المتحدة التى ما زالت تواجه تحديات داخلية، من بينها تداعيات جائحة «كورونا» وإرث دونالد ترامب؛ وصحيح أيضا أن الشرق الأوسط لم يعد يحتل مرتبة متقدمة فى سلم أولويات جو بايدن، إلا أنه من غير المرجح أن تخرج الولاياتالمتحدة من هذه المنطقة، كما يعتقد البعض، ولذلك فإن الشراكة الجديدة بين طهرانوبكين ستفرض حسابات جديدة لدى صناع القرار فى واشنطن، ما يعنى أننا سنشهد عاجلا أم آجلا «حربا باردة» جديدة. النص الأصلى