في مقالة شهيرة استعار الفيلسوف والمنظر الاجتماعي اللاتفي المولد، البريطاني الجنسية "أشعيا برلين" عبارة من قصيدة الشاعر اليوناني القديم أرخيلوخس تقول "الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئا واحدا كبيرا". ويقول" أشعيا برلين" المولود عام 1909 إن هناك فجوة كبيرة بين من يربطون كل شيء بمبدأ واحد تنظيمي وشامل ويعتبرون كل ما دونه أقل أهمية، وهم القنافذ ومن يسعون وراء غايات عديدة ليس بينها رابط غالبا، وأحيانا متناقضة، وهؤلاء هم الثعالب. ورغم أن برلين كان يتحدث في مقالته تلك عن الكتاب والمفكرين، فإن المؤرخ والباحث الاسكتلندي نيال فيرجسون يرى أن فكرة القنفذ والثعلب تنطبق أيضا على عالم سياسات القوى العظمى. ويقول فيرجسون في تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء إن هناك قوتين عظميين في العالم حاليا، هما الولاياتالمتحدةوالصين. وفي حين تمثل الولاياتالمتحدة الثعلب، تمثل الصين القنفذ. فالسياسة الخارجية للأولى ووفق وصف برلين للثعالب، "مبعثرة أو متفرقة ، تتحرك على عدة مستويات". في المقابل فإن الصين ، وهي القنفذ، تربط كل شيء "برؤية داخلية موحدة لا تتغير ، وشاملة ، وأحيانًا متناقضة مع نفسها وغير كاملة ، وأحيانًا تكون رؤية متعصبة وداخلية موحدة". ومنذ حوالي 50 عاما، ذهب ثعلب الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر إلى بكين في زيارة سرية عام 1971، أدت إلى تغيير جذري في توازن القوى العالمي. جاءت هذه الزيارة في سياق استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للخروج من حرب فيتنام مع المحافظة على شرف ومصداقية الولاياتالمتحدة بأقصى درجة ممكنة. وأثناء لقاء كيسنجر برئيس وزراء الصين في ذلك الوقت شو ان لاي، كانت لدى مستشار الأمن القومي الأمريكي وباعتباره ثعلب أهداف متعددة. كان الهدف الرئيسي ضمان دعوة الصين لرئيسه نيسكون لزيارة بكين في العام التالي. كما كان يسعى إلى تأمين مساعدة الصينلأمريكا في الخروج من فيتنام، إلى جانب محاولة استغلال الخلاف بين القوتين الشيوعيتين الكبيرتين في ذلك الوقت الصين والاتحاد السوفيتي لتعزيز موقف واشنطن في مواجهة موسكو. وفي كلمته في بداية اللقاء مع رئيس وزراء الصين، حدد كيسنجر ستة موضوعات تبدأ من موضوع حرب فيتنام، وتصل إلى موضوع استقلال بنجلاديش عن باكستان. ورد شو ان لاي باعتباره قنفذ بأن هناك قضية واحدة تهم الصين وهي تايوان. وقال لكيسنجر "إذا لم تتم تسوية هذه القضية الحيوية، فسيكون من الصعب تسوية باقي قضايا العلاقات الصينيةالأمريكية". كان رئيس وزراء الصين يسعى إلى إقناع ضيفه الأمريكي بالاعتراف بحكومة جمهورية الصين الشعبية في بكين كحكومة شرعية وحيدة للصين واعتبار "إقليم تايوان جزءا لا يتجزأ من الأرض الصينية ويجب إعادته إلى الوطن الأم" وأن تسحب الولاياتالمتحدة "كل قواتها المسلحة وتفكك قواعدها العسكرية الموجودة في تايوان" منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية. وكان كيسنجر مستعدا لتقديم بعض التنازلات الأساسية للصين في هذا الملف بهدف الحصول على ما يريده منها في الملفات الأخرى فقال "نحن لن نؤيد حل يقوم عل أساس وجود دولتين صينيتين ولا حل صين وتايوان" وأضاف موجها حديثه إلى شو "كدارس للتاريخ ... يمكن للمرء أن يتوقع سير التطور السياسي في الاتجاه الذي أشار إليه رئيس وزراء الصين". وأضاف "يمكننا تسوية الجزء الأكبر من موضوع القواعد العسكرية خلال الولاية الحالية للرئيس نيكسون إذا انتهت الحرب في فيتنام". وردا على سؤال لشو ان لاي عن رؤيته لحركة استقلال تايوان، رفض كيسنجر هذه الحركة تماما. وأيا كان الموضوع الذي يتحدث عنه كيسنجر سواء فيتنام أو كوريا أو الاتحاد السوفيتي، كان شو ان لاي يعيد الحديث إلى موضوع تايوان باعتباره "القضية الوحيدة بيننا". وسأل شو ان لاي عما إذا كانت الولاياتالمتحدة ستعترف بحكومة جمهورية الصين الشعبية كحكومة وحيدة للصين وتطبع العلاقات الدبلوماسية معها، ورد كيسنجر: نعم بعد انتخابات الرئاسة عام 1972. وعما إذا كان سيتم طرد تايوان من الأممالمتحدة ومنح بكين مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن الدولي، قال كيسنجر مجددا: نعم. ويقول فيرجسون المحاضر في جامعة هارفارد الأمريكية إنه الآن وبعد مرور نصف قرن على لقاء كيسنجر وشو، مازالت تايوان هي قضية الصين الرئيسية. في الوقت نفسه سارت التطورات السياسية في الاتجاه الذي أشار إليه كيسنجر، فاعترفت الولاياتالمتحدةبالصين، وتم شطب عضوية تايوان في الأممالمتحدة، وألغى الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر معاهدة الدفاع المشترك مع تايوان الموقعة عام 1954. ولكن اللوبي الموالي لتايوان في الكونجرس الأمريكي استطاع مد شريان الحياة لتايوان بإصداره قانون تايوان عام 1979، والذي يقضي بأن تستخدم الولاياتالمتحدة "كل الجهد لضمان ألا يتحدد مستقبل تايوان بغير الوسائل السلمية بما في ذلك وسائل المقاطعة أو الحصار أو تهديد السلم والأمن في غرب المحيط الهادئ". في الوقت نفسه، فإنه من وجهة نظر القنفذ الصيني، ظل غموض الموقف الأمريكي الذي لا يعترف بتايوان كدولة مستقلة لكنه في الوقت نفسه يضمن أمنها واستقلالها الفعلي، موقفا لا يمكن قبوله. والآن تغيرت موازين القوة بشدة عما كانت عليه عام 1971، وتحولت الصين من دولة فقيرة لا يمثل اقتصادها شيئا يذكر بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، رغم ضخامة عدد سكانها إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ويقول صندوق النقد الدولي إن قيمة إجمالي الناتج المحلي للصين مقوما بالدولار يعادل ثلاثة أرباع إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة حاليا. في الوقت نفسه فإن تايوان ازدهرت بشدة وأصبحت واحدة من أكثر اقتصادات آسيا تقدما، مع وجود شركة "تايوان لتصنيع أشباه الموصلات "، أكبر شركة لإنتاج الرقائق الإلكترونية في العالم. كما أصبحت تايوان دليلا حيا على أن العرق الصيني يمكنه إقامة نظام حكم ديمقراطي رشيد. وخلال سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تركز اهتمام الإدارة الأمريكية على الحرب التجارية وتراجع الاهتمام بملفات حقوق الإنسان والحركة الديمقراطية في هونج كونج. في الوقت نفسه، تم إضافة تايوان إلى القائمة، لكن مبيعات الأسلحة والاتصالات الدبلوماسية بين واشنطن وتايبيه لم تحظ باهتمام كبير من جانب هذه الإدارة. وعندما تحدث الدبلوماسي الأمريكي السابق والخبير الاستراتيجي ريتشارد هاس في العام الماضي عند ضرورة التعهد بالمحافظة على الحكم الذاتي لتايوان لم يبد أحد في إدارة ترامب ترحيبه بالفكرة، على حد قول نيال فيرجسون. وتغير الموقف مع قدوم إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن الذي أعلن من البداية أن مواجهة التمدد الصيني الإقليمي وانتهاكات حقوق الإنسان في الصين ستكون على رأس أولويات سياستها الخارجية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. كما تعهد وزير خارجية أمريكا أنتوني بلينكن باستمرار العلاقات الأمريكية مع تايوان. وفي حين، تضيف الثعالب الأمريكية متعددة المهام المزيد إلى قائمة مظالمها ، يركز القنفذ الصيني على تعزيز قدرته على الاستيلاء على تايوان. ويقول تانير جرير الصحفي الخبير في الشأن التايواني إن الجيش الصيني لديه ما يعادل كل منظومة تسليح لدى تايوان حاليا او ستحصل عليها من الصين مستقبلا، وبالنسبة لبعض الأنظمة العسكرية لدى الصين ما يفوق كل أنظمة تايوان . والأهم من ذلك فإن الصين نجحت في إقامة ما تسمى "فقاعة منع الوصول أو المنطقة المحرمة" لمنع القوات الأمريكية من الوصول إلى تايوان عند حدوث أي مواجهة. أما ليوني هينلي الأستاذ في جامعة جورج واشنطن فقال خلال شهادة له أمام الكونجرس في الشهر الماضي "إذا تمكنا من تعطيل نظام الدفاع الجوي الصيني المتكامل، يمكننا الانتصار عسكريا" وإذا لم نتمكن من ذلك فقد لا نستطيع الانتصار". وقال الأدميرال فيل دافيدسون قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيط الهندي-الهادئ في فبراير الماضي، أمام الكونجرس إن الصين ستكون قادرة على غزو تايوان بحلول 2027. والآن تواجه الولاياتالمتحدة ثلاث مشكلات أساسية في التعامل مع الملف التايواني، الأولى هي أن أي محاولة أمريكية لتعزيز القدرات العسكرية لتايوان حاليا ستثير ردود فعل غاضبة وانتقامية من جانب الصين مما يزيد من احتمال تحول الحرب الباردة إلى حرب ساخنة، والثانية هي أن أي خطوات أمريكية لدعم تايوان، تتيح للصين فرصة للتحرك قبل أن تتمكن الولاياتالمتحدة من استكمال قدرتها على الردع. والمشكلة الثالثة هي تردد التايوانيين أنفسهم في التعامل مع أمنهم القومي بنفس الجدية التي اتبعها الإسرائيليون للحفاظ على بقاء دولتهم. وأخيرا يقول نيال فيرجسون إن سماح الولاياتالمتحدة للصين بالاستيلاء على تايوان سيكون بداية انهيار الإمبراطورية الأمريكية، كما كان تأميم مصر لقناة السويس عام 1956 بداية انهيار الإمبراطورية البريطانية؛ حيث تحول الأسد الإمبراطوري إلى مجرد نمر من ورق.