قبل أن يدخل القاعة تم التنبيه على غلق التليفونات المحمولة فسأل حضور الندوة: لماذا؟ وجاء الرد: الدكتور جلال أمين ينزعج من رنات الهواتف. وبعد 13 دقيقة من ميعاد لقائه المفتوح مع قراء دار الشروق فى الكوربة دخل المفكر الكبير جلال أمين القاعة متأسفا لتأخره، وقال إن الذنب ليس ذنبه بل ذنب المرور وإشاراته الكثيرة، ولكن على الرغم من هذا أكد أنه «مواطن متفائل» بمستقبل مصر فى الفترة المقبلة فى ظل تشاؤم المصريين المتزايد. « هناك أسباب لتفاؤلى تتمثل فى تزايد الشباب الذى أصبح مهتما بالقراءة، وأعداد المكتبات التى تم افتتاحها مؤخرا، وزيادة أرقام توزيع الكتب والروايات، وخصوصا روايات علاء الأسوانى». فكر لحظات وبدأ فى تأمل قاعة مكتبة الشروق ثم نظر إلى يساره لأحمد الزيادى مدير النشر بالشروق وقال: لابد أن أتحدث عن كرة القدم والأحداث الأخيرة التى شهدتها مباراة مصر الفاصلة مع الجزائر فى السوادن، طارحا سؤال: ماذا حدث للمصريين فى كرة القدم؟، وهل كان يمكن أن يحدث ما حدث قبل 60 سنة؟ أجاب أمين: بالطبع لا؛ لأن الرياضة فى هذا الزمان أى فى أربعينيات القرن الماضى لم تكن ضمن اهتمامات المصريين. «كرة القدم ظاهرة برجوازية مرتبطة بنمو الطبقة الوسطى لذلك لم يهتم بها المصريون قبل 60 عاما إذ كان أغلبية مصر من الفلاحين الذين لم يسمعوا أصلا عن هذه الرياضة. والطبقة العليا، وهى أقلية، لم تهتم بكرة القدم بل اهتمت برياضات أخرى مثل الصيد أو السباحة، أما الكرة اليوم فى عصر الجماهير الغفيرة فأصبحت هى سيدة الموقف فى ظل الاهتمام الزائد بالجسد ونمو هائل للطبقة الوسطى وبزوغ جهاز التليفزيون، ولذلك نجدها لعبة مثيرة بسبب ظهور ذلك العصر». وكعادته لا يكتفى جلال أمين بعرض الظواهر المجتمعية فقط بل يحاول البحث باعتباره مفكرا اقتصاديا عن من هو المستفيد من وراء كرة القدم فأكد أن المستفيد الحقيقى هو الحكومات الديكتاتورية والشركات التجارية. وبروح مصرية تلقائية ممزوجة بدم خفيف ظلت مستمرة خلال ساعتى اللقاء المفتوح أخرج الدكتور جلال ورقة من جيبه وقال إنه رصد أسماء الشركات المعلنة خلال نصف الساعة قبل بداية مباراة مصر والجزائر الأخيرة ليكتشف من هو المسيطر على اقتصاد مصر، وذكر عدة اسماء مؤكدا أن هذه الشركات هى التى تسيطر على مصر، موضحا أنه يختلف مع من ينادى أن المصرى فى تشجيعه لمنتخبه أثبت وطنيته وانتماءه. وأضاف أنه كتب عن هذه الفكرة فى مقاله بجريدة الشروق إذ قال إنه فى هذا المناخ الهستيرى لابد أن يحاول الجميع تحقيق نفع خاص له، «فالمتبطلون عن العمل يحملون الأعلام الملونة ليبيعوها لأصحاب السيارات، ولا شىء لدى أصحاب السيارات أفضل من السير فى الشوارع والضغط على زماراتهم، والوزراء الذين لم يفعلوا شيئا واحدا يجلب لهم حب الناس، ذهبوا للتهنئة والوقوف إلى جانب الفريق المنتصر ليظهروا فى نفس الصورة، بل وقيامهم بتهنئة رئيس الجمهورية نفسه باعتباره سببا من أسباب هذه النتيجة الباهرة». ورفض المفكر المصرى الحديث عن أن هذه صورة من صور الوطنية، ودليل على قوة شعور المصريين بالانتماء لبلدهم، وعلى الإجماع على حب الوطن: بدليل أن الرجل والمرأة، المسلم والقبطى، الكبير والصغير، الغنى والفقير، كلهم اجتمعت قلوبهم على شىء واحد، وهو أن تنتصر مصر على الجزائر. رفض أمين هذا الطرح، وقال بحسم: مثل هذا الحديث لا يجب أن يخدع أحدا، «فالحماس الشديد قبل المباراة وأثناءها وبعدها ليس سببه الحب الشديد للوطن، بل سببه هو نفس هذه الظاهرة أى ظاهرة الجماهير الغفيرة. الحماس يشتد لمجرد أنك أصبحت جزءا من جماعة كبيرة جدا، والصياح يعلو لأنك ترى وتسمع آلافا من الناس يقومون بالصياح مثلك، والزمامير تشتد لأنك تعرف أنك واحد من آلاف الزمارين والطبالين، أما حب الوطن فلا يمكن أن يشتد لأنك صوبت الكرة فى الاتجاه الصحيح مرتين بينما لم ينجح شقيقك الجزائرى فى ذلك مرة واحدة. ولكى يغلق هذه النقطة أكد أمين أننا دخلنا مع منافسة مع دولة عربية المفترض أنها عزيزة علينا، ولكن هم تجرأوا علينا ونحن فقدنا كبرياءنا». حوارات جلال أمين مع حضور الندوة امتدت إلى أمور أخرى كثيرة، مثل البطالة وقضية التوريث وحال التعليم والأزهر وظهور قوة الصين الاقتصادية فى مقابل الغرب وتأكيده أن العالم فسد وأصبح الاقتصاد «المادة» هو المسيطر على العالم، طرح جلال أمين نقطة مهمة، وهى أن «مصر تحتاج إلى زعامة روحية للخروج من مأزقها لا تغيير سياسات أو حكومات». بدأ الحضور بعد إطلاق هذه العبارة فى سؤاله عما يقصده بالزعامة الروحية فقال بحزم إنه لا يقصد أن تأتى جماعة الإخوان المسلمين؛ لأنها فى النهاية تتصرف باعتبارها حزبا سياسيا، وإنما يقصد ظهور قائد روحى مثل الإمام محمد عبده ينهض بهذا البلد ويكون إماما روحيا له وتكون مهمته وضع «أفكار خلاقة» للخروج من مأزقنا. وفى سبيل توضيح آرائه أشار أمين إلى أن التقدم لا يعنى زيادة الإنتاج وبالتالى الأموال، بل التقدم يعنى الاستفادة من الإنتاج لخدمة التراث الحضارى لكل بلد. وقبل أن يشكر الحضور ويغلق الحوار قال إن الفترة الليبرالية قبل الثورة لو استمرت لأصبحنا أفضل حالا، ولكنها لم تستمر ليس بسبب عبدالناصر، ولكن لأنه بعد الحرب العالمية الثانية ورثت أمريكا عرش إنجلترا وفرنسا ثم أرادت عدم النهضة لمصر. وسأله الحضور عما ينوى نشره قريبا فقال إنه أنهى كتابه الجديد «رحيق العمر» وهو جزء ثان من سيرته الذاتية، ويستعد لكتابة كتاب عن «مصر فى عالم جديد» يطرح فيه نظرته لمستقبل مصر.