كانت البداية مجرد ولع برواية مصرية ثم تحول إلى حدث ثقافى فريد سيكون محور الاهتمام فى أوروبا على مدى عام كامل. قرأ رجلا المسرح الفرنسيين «جان لوى مارتينللى» المخرج المسرحى ومدير مسرح نانتير بباريس و«دومينيك بلوزيه» مدير لثلاثة مسارح متميزة بجنوب فرنسا «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسوانى ثم قررا تحويلها إلى مسرحية تعرض فى احتفالات اختيار مارسيليا الفرنسية كعاصمة للثقافة الأوروبية فى 2013. جاء المسرحيان إلى القاهرة فى رحلة مكوكية لا لشىء إلا لكى يعرفا الكاتب عن قرب ويتعرفا على بيئته المحيطة. حالة من الانبهار والحماس الشديدين انتابت المخرج الفرنسى «جان لوى مارتينللى» والمنتج «دومينيك بلوزيه» عند زيارتهما لعلاء الأسوانى بعيادته فى جاردن سيتى، وهما اللذان أتيا من باريس ومارسيليا ليتعرفا عن قرب على الأسوانى وعالمه بعد أن وقعا فى أسر عالمه الأدبى، قطعا المسافة من فرنسا إلى مصر ليعيشا لحظات مع الكاتب ويتناقشان معه فى أعماله قبل تحويلها إلى أعمال مسرحية فى إطار الحدث الثقافى الفريد «مارسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية 2013». يعبر بلوزيه عن دهشته الشديدة من حالة الألفة بين الكاتب ومحيطه، حيث تبارى سكان الحى فى أن يدلوهما على المكان معربين عن إعجابهم بالكاتب الطبيب، أما سائق التاكسى الذى أقّلهما فقد راح يعبر لهما بلغته الإنجليزية البسيطة عن إعجابه بأعمال صاحب «عمارة يعقوبيان»، فيعلق بلوزيه قائلا: «هذا الحديث مع السائق لا يمكن أن يحدث فى مارسيليا، ويستحيل أن يحدث فى باريس». أما مارتينيللى فبمجرد دخوله البناية ثم العيادة، راح يرسم فى ذهنه الصور المختلفة متشابكة مع ما قرأه فى روايات الأسوانى، متخيلا فيلما توثيقيا عن الفنان أو صورا له تحت عنوان «لو لم أكن مصريا» وهو الاسم الذى ترجمت إليه بالفرنسية مجموعته القصصية «نيران صديقة». ثم سرعان ما يسخر المخرج المسكون بمشروعه الفنى من تصوراته الأولية عن العمل المسرحى الذى لم يدخل بعد فى حيز التنفيذ، لكنه يؤمن منذ البداية أن الأمر ليس مجرد تحويل نص أدبى إلى عرض مسرحى فى إطار تظاهرة شديدة الأهمية فى أوروبا حيث تسلط الأضواء على المدينة المختارة فى كل أنحاء أوروبا بل وخارجها يتم بعدها جدولة العروض للقيام بجولات فى مسارح أوروبا المختلفة. إذ يؤكد بلوزيه «لقد مستنا رواية عمارة يعقوبيان، وأردنا أن نذهب بالمشروع إلى أبعد من مسرحة النص المصرى إلى تناول أعمال علاء الأسوانى كاملة والتفاعل مع عالمه من أجل تقديمه للجمهور الأوروبى». إذ يذكر الفنان بلوزيه أن برنامج مارسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية يتضمن «ألبير كامو» بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الكاتب فى 2013، وبرنامج أعمال علاء الأسوانى ممسرحة. المسألة فى نظرهما تتجاوز مجرد عرض مسرحى، لكنها تعنى فى المقام الأول بالتجربة ذاتها بالعلاقة التى بدأت باثنين (مارتينيللى وبلوزيه اللذين عملا سويا فى العديد من العروض السابقة) ثم تتحول إلى ثلاثة (بتفاعل علاء الأسوانى معهما حتى وإن اعتذر عن القيام بالمعالجة المسرحية بنفسه) وربما تشمل آخرين فى إشارة مجازية فرنسية المذاق لفكرة الشراكة ليس فقط بين دول المتوسط، وإنما، بين مبدعين يلتقون فى مرحلة لاحقة بجمهور واع شديد الاتساع، فقد وصل جمهور تظاهرة مدينة «ليل» الفرنسية حينما كانت عاصمة الثقافة الأوروبية إلى 6 ملايين مشارك، ومن المتوقع أن يزيد هذا العدد فى مارسيليا نظرا لموقعها المتميز فى مفترق الطرق على المتوسط، بالإضافة إلى عنصر شديد الأهمية هو تولى بلوزيه كيان أطلق عليه «آكت» فى 2002 ويجمع برامج مسرحين فى مارسيليا ومن خلاله يتم عمل اشتراكات ثابتة للجمهور وصلت إلى 19 ألف اشتراك مما يضمن تمويل العروض وضمان قاعدة مهمة من الجمهور، بالإضافة إلى الترويج للأعمال وترتيب جولات فنية لها فى أنحاء أوروبا. فجان لوى مارتينيللى ودومينيك بلوزيه ليسا مجرد فنانين وقعا فى حب أحدى روايات كاتب مصرى، كما أنهما لا يحملان نظرة استشراقية فى تعاملهما مع النصوص، حيث أثنى علاء الأسوانى نفسه على فهم مارتينيللى العميق لمفاتيح «عمارة يعقوبيان» فى الوقت الذى عجز عن الوصول إليها العديد من متلقى الرواية خاصة حين تناقشوا فى إشكالية التطرف الدينى التى عبر عنها الأسوانى من خلال شخصية «طه» فى عمارة يعقوبيان، يقول مارتينيللى: «لقد مستنى كثيرا شخصية الشاب وتدخل البعد الاقتصادى فى تحول الشخصية»، ويضيف مؤكدا «لقد جعلونا نظن أن المشكلة دينية، لكنها اقتصادية فى المقام الأول، وقد جسدت شخصية الشيخ ببراعة كيف يتم استخدام الشباب وتوجيههم إلى طريق العنف». بدأ جان لوى مارتينيللى بفرقته المسرحية منذ السبعينات وتولى قيادة العديد من المسارح الفرنسية مثل مسرح ليون ومسرح ستراسبورج وأخيرا مسرح «نانتير» فى باريس، ويعتبر من كبار المخرجين الذين يقدمون المسرح المعاصر سواء فى تقديمه للكلاسيكيات أو فى اعتماده على نصوص كتاب معاصرين مثل سيلين وهاينر مولر. أما دومينيك بلوزيه، فهو مدير لمسرحى «جيمناز» بمارسيليا و«جو دو بوم» بإيكس أون بروفانس»، بالإضافة لإدارته للمسرح الكبير بمدينة بروفانس وكلها مسارح كبرى بمقاطعة بروفانس بالجنوب الفرنسى منذ 2007 الذى يقدم عروض الأوبرا والرقص المسرحى. بدأ المشروع مع التفكير فى البرنامج المسرحى لتظاهرة «مارسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية» وهى المدينة الفرنسية الجنوبية المطلة على المتوسط التى طالما شبهت بالإسكندرية وبطبيعتها الكوزموبوليتانية المنفتحة على الجنسيات والثقافات المختلفة فاتصل بلوزيه بالناشرة الفرنسية فرنسواز نيسان صاحبة دار «آكت سود» المتولية نشر أعمال الأسوانى إلى الفرنسية التى حرصت على اظهار رغبة المنتج والمخرج الفرنسيين على معالجة رواية «عمارة يعقوبيان» («التى تشهد نجاحا منقطع النظير فى فرنسا» على حد تعبير بلوزيه) للمسرح. ولكن بعد مجىء الفنانين إلى القاهرة وبداية مناقشاتهما مع الكاتب المصرى توصلوا سويا إلى أنهم لن يكتفوا بالمعالجة المسرحية لرواية عمارة يعقوبيان، بل سيقومان بمسرحة ثلاثة روايات «عمارة يعقوبيان» و«شيكاغو» و«نيران صديقة». ففى مارس 2013 ستعرض مسرحية «عمارة يعقوبيان» على مسارح مارسيليا، وسيكون العمل بالتوازى مع «لو لم أكن مصريا» التى يتصورها المخرج فى صورة مونولوج درامى أى عرضا معتمدا على الممثل الواحد، بالإضافة إلى شيكاغو. يسعد الأسوانى بهذه الشراكة خاصة حين يعلم ترحاب بل وتمسك الفنانان على أن تكون الشراكة كاملة عن طريق دعوة فنانين مصريين للمشاركة فى العمل وتنظيم ورش عمل لتنفيذ هذا التعاون الفنى. لماذا وقع الاختيار على نص مصرى خالص؟ يفسر بلوزيه مدير المسرح الكبير بمدينة بروفانس، بالإضافة لمسرح «جيمناز» بمارسيليا ومسرح «جو دو بوم» بإيكس أون بروفانس» وكلها مسارح كبرى بمقاطعة بروفانس بالجنوب الفرنسى التوجه إلى مصر فى إطار حدث ثقافى فنى بهذا الحجم يتخذ من حوار المتوسط محورا له قائلا: «عند التفكير فى موضوع يليق بمارسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية، كان التفكير مباشرة فى مصر البلد الأهم فى منطقة المتوسط الذى يمكن أن يكون الطرف الثانى فى الحوار مع مارسيليا، فلم يعد من الممكن تكرار تناول العلاقة مع الجزائر دون الوقوع فى علاقات معقدة وشديدة التركيب». ويشير بلوزيه أنه فيما عدا العدوان الثلاثى، اتسمت دائما العلاقة الفرنسية بمصر ببعدها عن الصراعات، بالإضافة إلى تقاسمنا العديد من القضايا فى ماضينا وحاضرنا مثل قضية الشباب الذين لا يجدون أى دعم فيتوجهون إلى أشكال مختلفة من التطرف. فليس صحيحا إذن أن النص الأدبى الذى يتخذ من تاريخ مصر السياسى خلفية له على حد قول بلوزيه يكون بعيدا عن الجمهور الغربى، لأن المجتمع الفرنسى شديد الحساسية للقضايا التى يطرحها الأسوانى وقد وقع فى غرام أعماله بالفعل، ويشير بلوزيه إلى أهمية أن يعرض أمام الجمهور هذا التلاقى والتحاور بين الثقافتين التى تجمعهما العديد من المشتركات. أما رواية «شيكاغو»، فيؤكد بلوزيه أن بتناولها لقضية الاغتراب، جعلها تتماس مع قضية المغربة فى فرنسا التى وجد العديد من القرّاء صدى لهم فى الرواية. أما مارتينيللى، فيتوافق مع بلوزيه لكنه يقدم الجانب المسرحى الشعرى عن الجانب السياسى عند تناوله للعمل، أى إنه يبحث عن البعد الإنسانى الذى يجعل العمل عالميا، خاصة فكرة «التعايش» التى يحرص على إبرازها فى أعماله «ما يهمنى فى المقام الأول هو طرح التساؤلات حول الجماعة البشرية نفسها التى تحولت فى عمارة يعقوبيان، ما قبل الثورة ثم كيف تأثرت بالانفتاح وصارت أكثر فقرا» كما يقول مارتينيللى متحمسا رغم تأكيده أنهم لم يستقروا بعد على كيفية معالجة النص المسرحى وهل سيتم التعامل مع الرواية بإجمالها أم تسليط الضوء على خطوط درامية بعينها. لكنه يبدو شديد الإعجاب بقصة «طه» و«وبثينة» وتتبع مصائرهما. أما علاء الأسوانى الذى تفاعل معها فى حوارات مستفيضة فقد أبدى تفهمه الكامل لرؤية الفنانين القائمة على فكرة النص الأدبى الذى يتم معالجته عبر نوع فنى مختلف مسرح كان أو سينما أو ما يسميه الفرنسيون اليد الثانية، هو فى غاية الأهمية لأن النص يزداد ثراء حين ينفتح على زوايا ورؤى مختلفة. فالرواية لها حياة تشبه حياتنا اليومية لكنها أكثر عمقا وأكثر جمالا». فيؤكد الكاتب المصرى أن العمل الأدبى يتخلى عن كاتبه ويعيش فى حيوات أخرى ليكون هذا هو نجاحه الحقيقى. بينما يؤيد مارتينيللى رأى الأسوانى فى بلاغة لغوية فرنسية تبدو صادمة: «فى العمل المسرحى ينبغى أن نتبع نفس الرحلة التى خاضها الروائى، ليست المسألة مسألة احترام النص، ولكن كما نقول فى فرنسا الكاتب الجيد هو الكاتب الميت».