كان ذلك فى نوفمبر من عام 1999. كان الشتاء يقترب، وهبت رياح شديدة عبر شوارع كابول المهجورة، وكان صوت المطر الشديد البارد يقرع الأسقف الصاج. لم تكن هناك كهرباء تقريبا، وحفنة من خطوط التليفون، ومطعم واحد. وفى استاد المدينة المتهالك، شاهدت امرأة أدينت بقتل زوجها وهى تعدم، ولصين تقطع يديهما. وفى أحد المستشفيات كانت الأمهات راكعات فى يأس بجوار أطفالهن المرضى بأمراض مزمنة يتضورون جوعا. وكان تخلى الغرب عن الأفغان يفهم على أنه ظرف طبيعى. ولم يكن هناك من يرى أى سبب لضرورة تغيير هذا الوضع بسرعة. كان ذلك الرأى مفهوما. فقد كان الغرب سعيدا بمساعدة المقاومة الأفغانية فى قتالها الوحشى ضد المحتلين الروس فى ثمانينيات القرن العشرين، ولكنه لم يبذل بعد ذلك أى جهد جاد لاستقرار البلد أو إعادة إعماره أو تطويره عقب انتهاء الحرب فى عام 1989. ولم يبذل أى جهد حقيقى لوقف الحرب الأهلية فى التسعينيات أو مساعدة ضحاياها. وكان الأجانب الوحيدون الذين كان الأفغان يرونهم بحلول نهاية العقد هم أعضاء المنظمات غير الحكومية النادر تواجدها أو الصحفيون. ثم فجأة اهتم الغرب بأفغانستان من جديد. ليس من خلال أى نوبة مفاجئة من الإيثار، ولكن لأن أسامة بن لادن، السعودى، شن هجوما ناجحا على أمريكا. وفى عالم ما بعد الحرب الباردة، كانت أفغانستان ركنا ظليلا على المسرح الجيوبوليتيكى. وفى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر وجدت نفسها تتلألأ فى بؤرة الضوء. والآن، وبعد ثمانية أعوام من الحرب، يمل العالم من هذا البلد المولع بالقتال، ويبدو أن الوقت قد حان كى ينسحب الأفغان من على المسرح الدولى من جديد. كون أنه ينبغى علينا هنا فى بريطانيا مناقشة سحب قواتنا من أفغانستان أمر صحى وصحيح. فلا أحد يريد إبقاء جنودنا هناك أطول مما يجب. بل إن كونه ينبغى علينا التفكير فى رحيل سريع وأحادى الجانب، حتى لو اعتبر خيانة لكل الذين فى أفغانستان ممن صدقوا فى يوم من الأيام، وعودونا بالوقوف إلى جانبهم، لمرة واحدة حتى النهاية. وقد جعلت أحداث تلك الأيام المظلمة فى نهاية التسعينيات الكثير من الأفغان يشعرون بالأمل، وجعلت أكثرهم يشعرون بالخوف. فقد جلب الغرب بعض الأشياء الصحيحة، لكنه جلب الكثير من الأشياء بالغة الخطأ. واتسمت تصرفاتنا بالبخل، وسوء الفهم، والعناد الغبى. حتى فى عامى 2002 و2003، عندما كان الأفغان من كل الخلفيات متفائلين بالتواجد الغربى فى بلادهم، ظلت مستويات الموارد المخصصة لما اعتبر عملية «حفاظ على السلام/ بناء الأمة» أدنى من أى من التدخلات التى شهدتها السنوات الأخيرة. وبالتناسب مع عدد السكان، جرى نشر عشر عدد القوات الدولية الموجودة فى تيمور الشرقية، وواحد على عشرين من تلك التى نشرت فى كوسوفو. وكانت المساعدات التى تعهدوا بها، ولم يصل الجانب الأكبر منها، تعادل واحد على ستة عشر من تلك التى أنفقت خلال العامين الأولين من التدخل فى البوسنة. لقد أدركوا بقدر ما أن استعادت طالبان قوتها. وتقاطرت القوات تدريجيا خلال عامى 2006 و2007، برغم الحاجة الواضحة لتغيير أسلوب التعامل بصورة جذرية. وكان هناك سوء فهم تام لطبيعة القتال والعدو على حد سواء. ففى عام 2007، رأيت دورية بريطانية تدك منزلا بالمدفعية الثقيلة ومدافع الهاون والصواريخ المضادة للدبابات، وفى النهاية قامت طائرة نفاثة بقصفه بالقنابل زنة 500 رطل. وكانت النتيجة (غير المؤكدة) مقتل شخص واحد. وفى القرى، لجأ الأهالى هناك إلى طالبان بدلا من القضاة الفاسدين والعاجزين، وحمل المراهقون السلاح لمحاربة «الغازى»، لأن ما قاله لهم شيوخهم كان معقولا ومنطقيا. أما فى بريطانيا، فقد تذمر السياسيون من كرزاى، ناسين أنه مدين بمنصبه لدعم الغرب المستمر. وبحلول 2008، تدهور الموقف، مع تثبيت طالبان لأوضاعها فى أحياء المدينة النائية، وهو ما دعا الأصدقاء فى كابول، الذين كانوا قد عادوا فى 2002، إلى التفكير فى الجهة التى يمكن أن يتجهوا إليها إذا اضطروا للفرار مرة ثانية. الآن، وأخيرا، وبفضل وجود باراك أوباما فى البيت الأبيض وجيش أمريكى أبدى بالرغم من كل أخطائه قدرة كبيرة على التعلم (أو إعادة التعلم)، لدينا الإستراتيجية التى كان يجب أن تكون لدينا منذ زمن بعيد. وهى تقوم على تقييد الضربات الجوية والنيران العشوائية، ونشر القوات لحماية السكان بدلا من التعامل معهم كأرض محايدة يجرى عليها اصطياد المتمردين، وتدريب القوات المحلية، وخلق مجال طبيعى آمن للتجارة، ومجال سياسى يتيح مسارا قد يؤدى إلى قيام بنية حكومية تحظى بالشرعية على نطاق واسع وترتبط بالمبادرات الإقليمية الأوسع. لكن هل ستفلح هذه الإستراتيجية؟ ربما لا. فحتى كبار المستشارين يصرحون بأن فرص النجاح محدودة. فالأخطاء التى ارتكبت فادحة، والمشكلات البنيوية المتأصلة فى المجهود متعدد الجنسيات كبيرة للغاية، وشكوك السكان المحليين بالغة. والجيش الوطنى الأفغانى مؤسسة غير متوازنة عرقيا ويهدد توسيعه بتفاقم الشقاق بدلا من إرساء تضامن جديد. والشرطة كارثة، والأفيون يحول البلاد إلى دولة لمهربى المخدرات، ودعم عناصر من المؤسسة الأمنية الأفغانية لطالبان متواصل. وما يزيد الأمر تعقيدا أن تلك الحرب أصبحت الآن حربا أمريكية. فثلثا القوات فى أفغانستان من الأمريكيين. ويضم مطار باجرام وحده عددا من احتياطى طائرات الهليكوبتر الأمريكية يزيد على إجمالى عدد هذا النوع من الطائرات البريطانية فى البلاد ككل. وسيؤدى رحيل المملكة المتحدة إلى موجة خروج عارمة للأطراف الأوروبية، لكنه لن يغير بالضرورة من الأوضاع كثيرا. والحقيقة أن الكثير من المقولات المؤيدة للبقاء فى أفغانستان ضعيفة. والتشدد الإسلامى العنيف يعود إلى منظومة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية المختلفة تعود إلى عقود، بل قرون، شهدها العالم الإسلامى وكذلك علاقات هذا العالم بالغرب. ولا تمثل القاعدة، المتمركزة فى باكستان، إلا عنصرا واحدا من عناصر التهديد، وإن كانت أكبرها فى الوقت الحالى. والصلة بين الدفاع عن قندهار وحماية حى كينجستون بلندن غير مباشرة فى أحسن الأحوال. وحجة حقوق الإنسان ضعيفة أيضا. ومن شبه المؤكد أن أى أفغانستان مستقرة ستكون أكثر محافظة، وأكثر عداء للغرب، وأكثر استبدادا مما نحب. ربما تكون أفضل من دولة تديرها طالبان لكنها ستكون أقرب إلى السعودية منها إلى السويد. ولن يضمن التزامنا المتواصل للبنات الحق فى الذهاب إلى المدارس فى البلاد ككل. لماذا إذن نقاتل؟ لماذا نرسل أعدادا متزايدة من الشباب إلى حتفهم؟ لماذا ننفق المزيد من الأموال التى كان يمكن استخدامها فى بناء المستشفيات والمدارس أو إنقاذ البنوك؟ لسبب بسيط، هو أننا مدينون بهذا للأفغان كى يحاولوا إنجاح الإستراتيجية الجديدة. إن كل وفاة مأساة، لكن الثمن من الأرواح والأموال ليس باهظا بالنظر إلى حجم وثروة المملكة المتحدة وتاريخها العسكرى. وبعد سنوات من الأخطاء، تتاح أمامنا الفرصة أخيرا لعمل شىء صحيح. وفى خلال عامين أو ثلاثة، سنعرف إن كانت هناك فرصة لنجاح الإستراتيجية أم لا. وإذا ما حدث هذا، سيكون من حقنا أن نفخر. أما إذا لم يحدث، فمن غير المرجح أننا سنجعل الأمور أكثر سوءا. والأهم، أننا نستطيع أن نقول للشعب الأفغانى بصدق إننا بذلنا كل ما فى وسعنا. وهو أكثر مما استطعنا قوله للأفغان من قبل. Copyright: Guardian News & Media 2009