ماذا كان بالضبط المعنى التاريخى ليوم التاسع من نوفمبر 1989؟ لما كنت قد أمضيت الجزء الأكبر من صيف ذلك العام فى برلين، شعرت بالأسى والمرارة كثيرا لأننى لم أكن موجودا هناك للمشاركة فى الحفل ليلة سقوط الجدار. أقصد، أى نوع من المؤرخين الطموحين يفوت التاريخ عندما يُصنَع؟ لكن صديقتين من برلين جعلتانى أشعر بتحسن أخيرا عندما اعترفتا لى أنهما فوتتا أيضا سقوط الجدار على الرغم من وجودهما فى المدينة المناسبة فى الزمان المناسب. كانت إحداهما تغط فى النوم بكل بساطة خلال الأحداث العاصفة التى وقعت بعدما أعلن مسئول فى ألمانياالشرقية بصورة عرضية فتح الحدود. حاول شقيقها أن يوقظها، لكنها ظنت أنه يمزح عندما صرخ عبر باب غرفتها: «الجدار يسقط!» أما صديقتى الأخرى فقد تعمدت أن تخلد للنوم باكرا كى تكون فى كامل نشاطها لأخذ دروس فى اليوجا فى الصباح. وقد استغرقت وقتا فى الصباح التالى لتدرك سبب عدم قدوم أحد غيرها إلى الصف. هذا محرج، أليس كذلك؟ دفعنى ذلك إلى التفكير. أيعقل أننى لم أفوت وصديقتاى حدثا ذا أهمية تاريخية عالمية؟ هل يمكن القول إن سقوط جدار برلين لم يكن حدثا تاريخيا بكل معنى الكلمة بل مجرد خبر عادى، قصة رائعة للصحفيين إنما ليست بالأمر المهم بعد 20 عاما؟ أيعقل أن ما حصل قبل 10 أعوام من سقوط الجدار فى السنة المصيرية 1979 هو نقطة التحول التاريخية الحقيقية؟ لا شك فى أنه كان أمرا جميلا للألمان الشرقيين والتشيكيين والمجريين والبولنديين فضلا عن شعوب البلطيق والبلقان وأوكرانيا والقوقاز أنهم تخلصوا من الشيوعية الموحشة واكتشفوا ملذات الأسواق الحرة والانتخابات الحرة (ومشقاتها العرضية). سماه المؤرخ وشاهد العيان البريطانى، تيموثى جارتون، إصلاحا وثورة معا، وهو الذى اكتسح أوروبا الوسطى والشرقية، وكان أمرا رائعا لاسيما أن الأنظمة الشيوعية أطيحت من دون إراقة كثير من الدماء. فقط فى يوغسلافيا حيث تمسك الشيوعيون بالسلطة متنكرين فى زى القوميين الصرب، وقعت مجزرة من النوع الذى يرافق عادة نهاية الإمبراطوريات، والمفارقة هى أن يوغسلافيا كانت أول بلد فى أوروبا الشرقية ينفصل عن موسكو ويطبق إصلاحات السوق. وبالنسبة إلى نصير الحركة التعديلية فى جامعة برنستون، ستيفن كوتكين، فإن القصة الحقيقية لعام 1989 هى قصة ثورة زائفة وتهكمية من عل. فقد اعتبر كوتكين فى كتابه Armageddon Averted (تفادى أرماجيدون) أن أسعار النفط المرتفعة هى الوحيدة التى سمحت للإمبراطورية السوفييتية المفلسة بالبقاء على قيد الحياة فى السبعينيات من القرن الماضى. والآن، فى كتابه التعقيبى الذى يهاجم فيه المعتقدات التقليدية بعنوان Uncivil Society: 1989 and the Implosion of the Communist Establishment (مجتمع غير متمدن: 1989 وانفجار المؤسسة الشيوعية من الداخل)، يعتبر كوتكين أنه لم يكن للمعارضين فى أوروبا الشرقية، وبدرجة أقل بكثير القادة الغربيين، أى دور فى الانهيار السوفييتى. لا، لقد حطم ميخائيل جورباتشوف وإصلاحيون شيوعيون آخرون نظامهم الخاص، جزئيا بسبب السذاجة، إنما أيضا بسبب رغبة تهكمية فى الإمساك بالأصول القيمة القليلة التى يملكها النظام فيما أصبح احتيال القرن: خصخصة صناعة الطاقة الروسية. بالنسبة إلى الأشخاص الأكثر مكرا فى المناصب القيادية الأعلى، كان الطريق من جهاز الاستخبارات الروسية (كى. جى. بى) إلى رجال أعمال فى شركة «غازبروم» قصيرا جدا، ولو كان ملتويا. إلى جانب استمرار النوع نفسه من الأشخاص الذين حكموا روسيا قبل 1989 فى حكمها بعد ذلك التاريخ مع تقدم فلاديمير بوتين إلى الواجهة استطاع هؤلاء أن يحولوا دون حصول انهيار كامل للاتحاد الروسى الشاسع. ولت الإمبراطورية السوفييتية، لكن الإمبراطورية الروسية بقيت إلى حد كبير، وتمتد من فولغوجراد إلى فلاديفوستوك: وهى لا تزال الإمبراطورية الأوروبية الأخيرة فى آسيا التى تملك امتدادا من الأراضى كان سيبهج بطرس الأكبر. من هذا المنظار، كان 1989 عام انكشاف لا ثورة: فقد كشف الطبيعة الحقيقية للسلطة الروسية عبر تجريدها من الزخارف المضللة التى كانت ترفعها إلى مقام القوة العظمى. بعد تجريد روسيا من منطقة نفوذها فى أوروبا الوسطى وتعريض اقتصادها لقوى السوق لأول مرة منذ عام 1914، تبين أنها تقع فى مكان ما بين مجموعة «بريك» (إلى جانب البرازيل والهند والصين، الأكبر بين الأسواق الناشئة فى العالم) و«فولتا العليا مع صواريخ» (بحسب التعبير الشهير للمستشار الألمانى الأسبق هلموت شميدت)، أو ربما نيجيريا مع ثلوج. **** لنتوقف عند النقطة الآتية. يتجه الاقتصاد الروسى ليكون بين الأسوأ أداء فى العالم لهذه السنة، مع تسجيل توقعات إجمالى الناتج المحلى نسبة انخفاض حقيقية تصل إلى 7.5 ٪. يأتى هذا فى الواقع بعد انقضاء عقد بلغ فيه معدل النمو السنوى 7٪، لكن الجزء الأكبر من هذا النمو كان مجرد تجسيد للمعافاة من الركود المدمر الذى أعقب المرحلة الشيوعية فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى. لم يستعد إجمالى الناتج المحلى الروسى المستوى الذى كان عليه عام 1989 إلا فى عام 2006. ولدى احتسابه بالدولار، يتبين أنه يمثل 9٪ فقط من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى (فى حين يمثل إجمالى الناتج المحلى الصينى 23 بالمائة من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى). خلافا للعملة الصينية، كانت العملة الروسية فى حال تشوش تام العام الماضى، فقد ارتفع سعر الدولار إلى أكثر من 36 روبلا عام 2008 ليعود الآن إلى 29 روبلا. ويصل التضخم من جديد إلى مستوى الرقم المزدوج، مع نحو 13٪. وكانت الأسهم الروسية الأسوأ أداء بين اقتصادات مجموعة بريك فى الأعوام الثلاثة الماضية، فبلغت عوائدها أقل من 12٪ فى السنة، مقارنة ب16٪ للأسهم الصينية. إذا أضفنا إلى هذه الصورة الاقتصادية السيئة التوقعات الديموجرافية التى تشير إلى أن عدد سكان مصر سيتجاوز عدد سكان روسيا بحلول عام 2045، يصبح واضحا أن الدب الروسى الذى كان يقال عنه إنه جبار هو فى الواقع دب عجوز وأجرب. وهذا ليس مفاجئا مع بلوغ معدل الإصابات بالسل نصف المعدل فى بنجلادش، إنما تجاوزه المعدل فى الولاياتالمتحدة ب27 مرة. الخطر الأكبر على الولاياتالمتحدة هو أنه بعد 20 عاما على هذا الانكشاف الروسى، نبالغ فى إعلاء شأن موسكو، سواء كشريكة محتملة أم كخصم لنا. أحيانا يبدو الرئيس أوباما وكأنه يصدق نظيره الروسى ديميترى ميدفيديف عندما يعرض التعاون مع الولاياتالمتحدة فى مسائل تتراوح من الإرهاب الإسلامى الراديكالى إلى البرنامج النووى الإيرانى، ومن هنا قرار أوباما إلغاء وضع أنظمة الدفاع الصاروخى فى بولندا والجمهورية التشيكية. لكن الواقع هو أن روسيا الآن هى مسببة للمتاعب أكثر منه حليفة قيد الصنع. فروسيا التى تغتال منتقديها فى العواصمالغربية أو تنكث باتفاقاتها مع الشركات النفطية الغربية أو تساعد إيران فى التكنولوجيا النووية هى الآن الأقل موثوقية تقريبا بين كل القوى الكبرى فى العالم المتعدد الأقطاب الجديد والشجاع. ليست المسألة أن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين يعتقد جديا أنه يستطيع أن يبنى من جديد الاتحاد السوفييتى السابق، على الرغم من أن البعض فسروا اجتياحه لجورجيا العام الماضى من هذا المنظار. بل يجب أن نفهم روسيا اليوم بأنها حالة قصوى مما كان اللينينيون الماركسيون يسمونه «رأسمالية الاحتكار من جانب الدولة»، وهو نظام سياسى تصبح فيه مصالح الشركات الاحتكارية (غازبروم وروزنيفت فى هذه الحالة) غير قابلة للتمييز عن مصالح الدولة والنخب التى تديرها. ليس السؤال الحقيقى عن السياسة الروسية اليوم إذا كانت روسيا ستجتاح أوكرانيا، بل إذا كانت استراتيجية الاستثمار فى أنابيب وحقول غاز جديدة التى تطبقها غازبروم سوف تؤتى ثمارها. هل يتعين على غازبروم التركيز على تطوير موقعها المسيطر فى سوق الغاز الطبيعى الأوروبى؟ أم هل يجب إعطاء الأولوية لحقول الغاز الروسية الشاسعة الواقعة شرق الأورال (يامال، القطب الشمالى، الشرق الأقصى) بهدف الاستحواذ على حصة فى السوق فى الصين؟ هل يستطيع الروس أن ينشئوا ذات يوم منظمة للبلدان المصدرة للغاز على طريقة الكارتل النفطى الذى تسيطر عليه السعودية؟ أم هل تقتضى الإستراتيجية الأبسط إذكاء الاضطرابات فى الشرق الأوسط بكل بساطة، عبر تشجيع الطموحات النووية الإيرانية سرا إلى أن يشن الإسرائيليون أخيرا هجمات جوية، فتحصد روسيا عندئذ ثمار ارتفاع جديد فى أسعار الطاقة؟ **** تشير هذه الأسئلة فى ذاتها إلى الأهمية المحدودة فى المدى الطويل للانهيار السوفييتى الذى حصل قبل عقدين. بالمقارنة، لا شك فى أن الأحداث التى وقعت قبل 10 أعوام من ذلك التاريخ أى عام 1979 لديها مقومات أفضل تخولها لأن تكون تاريخية بكل معنى الكلمة. فكروا فقط فيما حدث فى العالم قبل 30 عاما. بدأ السوفييت سياسة التدمير الذاتى عبر اجتياح أفغانستان. وأطلق البريطانيون عملية إنعاش اقتصاد السوق الحرة فى الغرب من خلال انتخاب مارغريت تاتشر. ووضع دنج هسياوبينج الصين على مسار اقتصادى جديد عندما زار الولاياتالمتحدة ورأى بأم عينيه ما تستطيع السوق الحرة تحقيقه. وبالتأكيد، بشر الإيرانيون بالحقبة الجديدة من صدام الحضارات عبر إطاحة الشاه وإعلان قيام جمهورية إسلامية. بعد 30 عاما، كانت لكل من هذه الأحداث الأربعة نتائج أعمق بكثير من أحداث 1989 بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة والعالم. اليوم الأمريكيون هم الذين يجدون أنفسهم فى أفغانستان يحاربون أبناء الأشخاص الذين سلحوهم فى السابق. ونموذج السوق الحرة الذى أرسته تاتشر وريجان هو الذى يبدو محطما عقب الأزمة المالية الكبرى منذ الركود الكبير. وفى هذه الأثناء، يَلحق ورثة دنج بسرعة بقوة أمريكية عظمى متباطئة، حيث يتوقع مصرف جولدمان ساكس أن يكون إجمالى الناتج المحلى الصينى الأكبر فى العالم بحلول سنة 2027. أخيرا، يبقى الإرث الأكثر هولا لعام 1979 هو الإسلاموية الراديكالية التى لا تلهم القادة الإيرانيين فحسب، إنما أيضا شبكة معقدة وغير منظورة سوى جزئيا من الإرهابيين والمتعاطفين معهم حول العالم. باختصار، لم يكن عام 1989 محطة فاصلة بقدر عام 1979. لقد تبين أن انعكاسات سقوط جدار برلين أصغر بكثير مما توقعنا فى ذلك الوقت. ما جرى فى الجوهر هو أننا تأخرنا فى كشف الزيف الكبير للقوة العظمى السوفييتية. لكن الاتجاهات الحقيقية فى زماننا صعود الصين، وظهور الإسلام الراديكالى، وصعود أصولية السوق وسقوطها كانت قد أُطلقت قبل عقد. بعد 30 عاما، لاتزال أمواج 1979 التاريخية تجرفنا. وليس جدار برلين سوى إحدى المخلفات الكثيرة للحرب الباردة التى اجتاحتها هذه الأمواج. Newsweek International