الفوضى ضاربة أطنابها فى العلاقات الدولية. لا خلاف كبير بين المتخصصين حول صحة أو دقة هذا البيان أو أسباب الفوضى. يتهمون مثلا رجلا بعينه يدير هذه الفوضى من مكتبه بالبيت الأبيض فى واشنطون، اتهام فى رأيى يحوى على إطلاقه بعض الظلم. هناك من المؤشرات ما يدل على أن الفوضى كانت قد عمت قبل أن يصل الرجل إلى المكتب البيضاوى. وفى رأيى أيضا أن دونالد ترامب ثمرة هذه الفوضى وهو مدين لها بفوزه فى انتخابات الرئاسة لولايته الأولى. سمعت كذلك، أو لعلنى قرأت، أن مهنة الدبلوماسية تدهورت فتسببت فى هذه الفوضى. نذكر لها أنها كانت على مدى تاريخ العلاقات بين الأباطرة والملوك صاحبة فضل عظيم على مراحل استقرار هذه العلاقات ووسيلة ناجعة وقليلة التكلفة لحماية الأمن والسلم. عرفنا مدى إبداعها خلال مرحلة توازن القوى فى العلاقات الأوروبية فى القرن التاسع عشر، وعشنا بعد الحرب العالمية الثانية فى ظل ما انتجته الدبلوماسية من مؤسسات دولية وأحلاف ومنظمات إقليمية، جميعها كنظام دولى جديد ساهم فى منع نشوب حرب عالمية ثالثة. يدافع دبلوماسيون عن مهنتهم وأنفسهم بتحميل الطبقة السياسية التى وصلت خلال إرهاصات العولمة إلى الحكم فى كثير من دول العالم خلال النصف الثانى من القرن العشرين، تحميلها مسئولية تدهور مكانة الدبلوماسية فى جداول العمل الدولى استعدادا للسلم أو الحرب. قيل أيضا بين كثير مما قيل ويقال إن للدور المتزايد الذى صارت تلعبه أجهزة الإعلام والاستخبارات فى صنع السياسة الخارجية وبالأكثر فى تنفيذها نصيبا كبيرا من مسئولية الانحدار الذى أصاب هذه المهنة. *** أعتقد أن المرحلة الانتقالية الراهنة فى النظام الدولى جاءت أكثر تعقيدا مما خطط له أو تصور أهل الحل والعقد فى مضمار السباق بين الدول الكبرى. لم يتوقع المحافظون الجدد فى الولاياتالمتحدة أن تكون حربهم فى العراق نفير ونداء الانسحاب من موقع القيادة فى النظام الدولى ونهاية مبكرة لعهد القطبية الأحادية وهيمنة أمريكا. لم نتوقع، ونحن الباحثون المنغمسون فى الاستمتاع بمتابعة حالة لا تتكرر كثيرا فى العلاقات الدولية، وهى حالة الانتقال من نظام دولى إلى نظام آخر وفى هذه الحالة تحديدا من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية. استمتعنا ولو لفترة قصيرة بوضع سيناريوهات مستقبلية كان أحدها، وأهمها على الإطلاق، صعود الصين. لم يكن الصعود الصينى فى حد ذاته يمثل لنا من الناحية النظرية معضلة كبيرة، إذ كان مقدرا أن يحدث هذا الصعود أو الجزء الغالب منه متزامنا مع تراجع القوة الروسية وانسحابها من مساحات نفوذ هائلة. وبالتالى يمكن للصين أن تعد نفسها لتملأ مساحة تكاد تكون مقررة، مطمئنة إلى اطمئنان أمريكى ونوايا طيبة لدى الطرفين. كانت القيادة السياسية فى بكين واثقة من أن الصين إذا التزمت البطء والتدرج فى الصعود والتزمت أيضا قواعد العمل الدولى وفق ما أقرته مواثيق قائمة، وإذا استعدت لتطوير نفسها وحازت على أدوات القوة اللازمة فإنها سوف تصل إلى موقع مناسب فى القيادة فى وقت أيضا مناسب دون مشاكل كثيرة. *** أحيانا استعيد بالذاكرة تلك المرحلة الغنية بالسيناريوهات والنظريات وأطرح مقابلها واقع الحال على مسرح العلاقات الدولية الراهنة وبخاصة سباقات القمة. يفاجئنى على الفور تطوران جرى استبعادهما فى ذلك الحين من كثير من السيناريوهات المستقبلية. الأول، وهو فى حد ذاته تطور مركب، وأعنى به احتمال خروج الصين عن التزامها التدرج والبطء فى الصعود نحو موقع متميز فى القمة الدولية، وفى الوقت نفسه وربما بسببه، قد ينشأ فى الولاياتالمتحدة تيار قوى ومتشدد مناهض للصعود الصينى. المثير فى هذه النشأة التى وقعت فعلا وانتشارها السريع داخل الكونجرس ومراكز البحث والعصف الفكرى وأجهزة الإعلام كان ولا يزال الميل الواضح لنسخ أساليب عديدة سبق استخدامها خلال الحرب الباردة التى نشبت بين أمريكا والاتحاد السوفييتى وتوسعت وقتها لتضم حلفاء فى أوروبا وخارجها. أؤكد هنا أن قليلا من سيناريوهات المستقبل التى تعاملنا معها توقعت أن تحقق الصين، لو أفلحت فى بناء قواعد تناسب ظروف دولة من العالم النامى صاعدة وبسرعة وجرأة، ما حققت. كتب جيفرى فيلتمان Jeffrey D. Feltman، بعد أن ترك منصبه فى جهاز الأممالمتحدة كمسئول أممى مهيمن على قطاع الشئون السياسية لمدة سبع سنوات أو أكثر، خضعت له وقتذاك قضايا حفظ السلام وتسوية النزاعات والعقوبات، كتب قبل أيام عن الصين يقول أن نفوذها ازداد داخل الأممالمتحدة وهو أمر كان، حسب رأيه، متوقعا إذا وضعنا فى الاعتبار أن الصين صارت فى سنوات قليلة الدولة التى تلى الولاياتالمتحدة مباشرة فى ترتيب الأنصبة فى موازنة المنظمة الدولية (بلغ نصيب كل من أمريكاوالصين فى موازنة الأمن والسلم 27% و15% على التوالي). لاحظ فلتمان فى الوقت نفسه أن أغلب اسهامات الصين المالية تذهب إلى القطاعات التنموية، وأخيرا راحت تنفق على مشروعات تخدم الأمن والسلم الدوليين. أضف أيضا أهمية الحلف المقدس الذى يربط بين مواقف كل من الصين وروسيا فى مجلس الأمن، مقابل الانقسامات المتزايدة داخل مجموعة الغرب. وفى النهاية يعترف فيلتمان بأن الولاياتالمتحدة منزعجة من تغلغل الصين فى الأممالمتحدة وبخاصة فى مواقع النفوذ فيها. يقول أن أربعة على الأقل من خمسة عشر منظمة متخصصة صار يديرها مواطنون صينيون. ألم يتوقع فيلتمان وأمريكا الرسمية أن تمارس الدولة الثانية بعد أمريكا حقها فى أن تتوسع دبلوماسيا لتمارس المستحق لها من نفوذ، أم هو حديث ينضوى تحت قائمة الإعداد لمرحلة حرب باردة؟ *** أما التطور الثانى الذى، كما أذكر، لم يحصل على اهتمام مهندسى سيناريوهات المرحلة الانتقالية من نظام القطبية الأحادية إلى نظام آخر، فكان «انحدار أمريكا». لم نناقش طويلا أو بما تستحق حقيقة وعواقب تزامن الزيادات المتتالية فى الانفاق على التسلح والحروب الخارجية مع إهمال مشاريع البنية التحتية. لم نناقش كثيرا أو بالعمق اللازم أثر العولمة على المجتمع الأمريكى وعلى تماسك أجزائه. أهملنا، على الصعيد النظرى كما التطبيقى، ملامح تطورات سلبية فى صور الولاياتالمتحدة وبعضها كان فى الماضى يشكل أساس القوة الرخوة الأمريكية. أمريكا كانت تئن تحت ضغوط تحولات وانشقاقات خطيرة فى قشرتها الصخرية، وأقصد العلاقات بين مكوناتها الاثنية والطائفية والجنسية «والتاريخية». ولكننا لم نصدق أو لم نهتم. *** كتبت روبين رايت Robin Wright، كبيرة الكتاب فى مجلة النيويوركر، مقالا هاما نشرته قبل أسبوعين. روبين ليست غريبة عنى. تعرفت عليها فى جولة صحفية بتونس ثم فى لبنان خلال الحرب الأهلية ولفتت اهتمامى بكفاءتها المهنية وقدراتها التحليلية ومعلوماتها عن الشرق الأوسط. تعترف روبين فى مقالها المنشور تحت عنوان هل أمريكا أسطورة؟، بأن أمريكا أمة يأكلها الغضب الذى يزداد مع كل يوم يمر فيقربها إلى يوم الانتخابات الرئاسية. روبين فى مقالها تنقل عن كولين وودارد Colin Woodard قوله «نحن أمريكات كثيرة ولسنا أمريكا واحدة. أمريكات متعددات لكل منها منظومة أخلاقية وقصة نشأة وأصول مختلفة وأحيانا متناقضة إلى حد الانجرار نحو حرب أهلية، هذه التناقضات الداخلية ما تزال متفجرة بما ينذر بأسوأ الاحتمالات». تضيف روبين أن جرائم العنف متزايدة، وتشير إلى تقرير لجنة فى الكونجرس سجلت أنه «مع صعود حالة اللاتأكد صرنا نلاحظ تفاقم فى عدد جرائم العنف». ثم راحت روبين رايت تنقل عن المؤرخ دافيد بلايتBlight David التذكير بحالات انفصالية عديدة على نمط البريكسيت هددت الوحدة الأمريكية، واحدة منها فى تكساس وأخرى فى كاليفورنيا وثالثة فى فيرمونت وفى ألاسكا وهاواى. مطروح أيضا مشروع دولة كاسكاديا ليضم ولايات اوريجون وواشنطون وكاليفورنيا إلى مقاطعتى كولومبيا البريطانية والبرتا الكنديتين. وتتساءل الكاتبة روبين مع المؤرخ بلايت إن كانت أمريكا فعلا على وشك الانفراط «بينما صار كل أمريكى انفصالى بمعنى من المعانى». أتساءل إن كان يمكن لدولة عظمى وهى على هذا الحال وتعانى من مشكلات هكذا عويصة الانهماك فى الاستعداد لشن حرب باردة ضد دولة منافسة تسعى بكل طاقتها للصعود إلى مرتبة الدولة العظمى. هناك طبعا من يعتقد أنه بسبب هذه الحال وهذه المشكلات قد تجد الطبقة الحاكمة أن الدخول مبكرا فى حرب باردة مع الدولة المنافسة يوفر عليها تكلفة أعلى إن هى سكتت عن استمرار صعودها. وهناك بطبيعة الحال بين القادة السياسيين من يعتقد فى أن يعود الشعب الأمريكى إلى التوحد ونبذ خلافاته الداخلية فى حال اشتبكت أمريكا فى حرب باردة حادة مع عدو خارجى جديد يتمدد ليملأ فراغ خلفه انفراط الاتحاد السوفييتى.
