«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



4 قصص من الحياة بعد المعاش
نشر في الشروق الجديد يوم 04 - 11 - 2009

الخروج إلى المعاش قد يشكل أزمة ضارية فى حياة البعض، أو وعدا ببدايات جديدة، حسب تقبلنا للأمر الواقع وتعايشنا معه.. أربعة نماذج استقبلت هذه اللحظات الحرجة بطرق مختلفة، فكان الكابوس أو متعة الحرية.
نادية تلعب تنس الطاولة
لا تقبل الهزيمة، متفائلة بطبعها، رغم نبرة الحزن فى صوتها، تلك هى السيدة نادية بدير( 65 سنة) وكيلة مصلحة الضرائب سابقا. المعاش بالنسبة لها كان محطة لإعادة اكتشاف ذاتها واستثمار وقتها بشكل مختلف. وهذا الميل للإفادة من كل الفرص يرجع ربما لطبيعة عملها طويلا كمحاسبة قانونية، فخلال حياتها العملية كانت تهرول ما بين مصلحة الضرائب ووزارة المالية، عمل شاق وحساس للغاية كان يستمر فى بعض الأحيان إلى أكثر من 11 ساعة يوميا. فى هذه الأثناء عرفت نادية مرارة فقدان الزوج وهى فى الرابعة والثلاثين من عمرها وكان يجب عليها متابعة شئون أولادها الثلاثة ما بين تعليم وتربية وتمارين رياضية إلخ... جاء المعاش بعد رحلة طويلة من التعب ليضفى لونا آخر على حياتها كما توضح: «علمتنى الحياة أن الإنسان الكيس هو الذى يخطط لمستقبله البعيد قبل أن يفكر فى اللحظة الآنية، لذا اكتشفت مع تجربة المعاش آفاقا جديدة».
كانت نادية فى مطلع حياتها شعلة نشاط: بطلة الجامعة فى الكرة الطائرة، عضو اتحاد الطلبة، صحفية فى مجلة الجامعة. ثم تجولت فى بلاد العالم مع زوجها الراحل، فتركت شعوب شرق آسيا فى نفسها أكبر الأثر: «تعلمت من هذه الشعوب الإقبال على الحياة فى أى لحظة وأى عمر». لم يكن المعاش، إذن، ضيفا ثقيلا، فقبل المعاش بعام اختمرت فى رأسها مجموعة من الأفكار، وعادت مرة أخرى لتمسك بمضرب تنس الطاولة الذى كانت قد تركته منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما عندما تعلمت اللعبة فى اليابان. وخلال ثلاثة أعوام طافت المحافظات المختلفة على نفقتها الخاصة للمشاركة فى البطولات وانتزاع المركز الثانى على مستوى العالم. وقد تحدثت عن انتصاراتها مجلة التنس المتخصصة «تيبل». وبعد سن الستين، أصبحت هذه اللعبة هى شغلها الشاغل، حتى إنها أسست فريقا للرواد فى لعبة البنج بونج بنادى الشمس وجمعية الشباب الدائم بعد أن حصدت عشرات الميداليات فى المنافسات الدولية. «لقد صاحبت زوجى فى رحلة مرضه وذهبت معه إلى مينسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية للعلاج، وكنت على دراية بتفاصيل مرضه، سيكولوجية المريض، تطورات العلاج، لذا انضممت فيما بعد إلى جمعية مرضى الكلى كى أساعد بأى مجهود».
واجهت نادية، كذلك، حربا ضروسا بعد أن تقدمت كأول سيدة مصرية لرئاسة مصلحة الضرائب وعرفت ما يمكن أن تواجهه السيدة العاملة من تحديات، ولم تأبه لعدم فوزها فى هذه المعركة، فقررت أن تحول تجربتها الذاتية إلى قضية عامة تدافع عنها بانضمامها لرابطة المرأة العربية، ثم حصلت مؤخرا على دورة ضمن 25 سيدة مصرية خاصة بتأهيل القيادات النسائية. لا تفارق الكاميرا والأوراق حقيبتها، فالكتابة هى هوايتها المحببة التى تعبر عن نفسها وهمومها من خلالها، بل وتتعرض أيضا لقضايا الشريحة العمرية التى تنتمى إليها، وتنشر ما تكتب غالبا فى صحيفة جمعية «الشباب الدائم» التى تهتم بأصحاب المعاشات.
الوزير خارج نطاق الخدمة
«كيف يعامل الوزير بعد خروجه إلى المعاش بمثل هذه الطريقة؟» سؤال يطرحه أحمد العماوى، وزير القوى العاملة السابق الذى ترك منصبه عام 2003، بألف ومائتى جنيه شهريا، قيمة معاشه، أصبح عليه أن يواجه نمطا جديدا للحياة بعد مظاهر الأبهة والسلطة والنفوذ. تنطفئ الأضواء حول هذا المسئول الكبير ويصبح عليه فجأة أن يعيش حياة الناس العاديين التى لم يعتدها. «أشعر بالحزن والأسى لعدم الاهتمام بالوزراء السابقين إلى هذا الحد المهين، أين تقدير رجل شغل منصبا مهما لسنوات ومن المفترض أن يحظى بنوع من التقدير والإجلال بعد خروجه إلى المعاش؟! لا أفشى سرا عندما أقول إن وضع الوزير المصرى هو الأسوأ على مستوى الدول العربية باختلاف ظروفها الاقتصادية. كثيرا ما تجمعنى لقاءات مع وزراء عرب وكثيرا ما يطرح هذا الموضوع للنقاش، ولا يكاد يصدق أحد قيمة ما يحصل عليه الوزير المصرى بعد خروجه إلى المعاش». تساؤلات كثيرة مازالت تدور فى خلد سيادة الوزير الذى شغل منصب مدير مساعد منظمة العمل العربية، ويوضح: «كنت أتقاضى فى ذلك الوقت (مطلع التسعينيات) ما يعادل 5 آلاف دولار، وهى الفترة التى استطعت خلالها توفير مبلغ من المال أعيش منه الآن، إضافة إلى ميراثى من أبى. عندما استدعيت للعمل وزيرا لم أتردد لتلبية نداء الواجب، تصورت أن الراتب ومن بعده المعاش سيكونان لائقين ولا أقول مماثلين لما كنت أحصل عليه، بدأ ينتابنى إحساس أن الحكومة تتصور هذا المنصب نوعا من الخدمة العامة». ويصمت برهة ثم يتابع: «ظل هذا الموضوع ملفا شائكا لا يجرؤ أحد على فتحه حتى عام 2005، ومؤخرا ظهرت مبادرات لنقاش هذا الموضوع، فوضع الوزراء الحاليين قد يكون أفضل ممن أحيلوا إلى المعاش قبل هذا التاريخ».
ومما يزيد الأمر تعقيدا فى هذه المرحلة العمرية أن كل من حوله لا يزالون يعاملونه كوزير بل ينتظرون أن تبقى تصرفاته على مستوى المنصب، الأمر الذى يشكل عبئا ماديا وأحيانا نوعا من الحرج حتى فى نطاق الأسرة. «أنتمى لعائلة ممتدة، الكل ينتظر منى أن أساعدهم بنفس الكيفية، وفى واقع الأمر فقد أستطيع أحيانا وأحيانا أخرى لا يكون بإمكانى تقديم العون، فأنا مدرك لظروف البلد ولن أطلب من البعض أن يضرب الأرض لتطرح البطيخ».
انفض المولد من حوله واختفت المواكب التى كانت تتبعه لحمايته كظله، مما أعطاه شعورا أكبر بالحرية والراحة لكونه أكثر التصاقا بالناس. «أنا رجل نقابى، شغلت منصب رئيس اتحاد العمال، لذا أحب أن أكون بين الناس، الآن أستضيف العمال وأقدم لهم المشورة حتى فى بعض الأمور الخاصة».
استعاد العماوى متعة السير على القدمين والتسوق من المركز التجارى الواقع على بعد خطوات من مسكنه. «كنت أحيانا أخرج لتناول العشاء فى الخارج مع أسرتى وأصدقائى، فأكون مضطرا أن أسحب ورائى الحرس والسائق، الأمر الذى كان يضايقنى أحيانا، فكنت أتنقل وأطلب منهم عدم مصاحبتى».
أرغمه كذلك منصبه السابق على ارتداء ملابس رسمية طوال الوقت، لذا تجده اليوم قد تحرر من رابطة العنق ليرتدى البنطلون الجينز الذى يفضله. «دولابى به العديد من بنطلونات الجينز التى أتردد أحيانا فى ارتدائها بسبب السن».
ورغم أنه يعيش وسط الناس ويمارس عملا جماهيريا جديدا من خلال مجلس الشورى فإن شعوره بالوحدة يصيبه بحزن دفين، لا سيما بعد أن خطف الموت زوجته ورفيقة دربه.
يعيش تناقض الحياة من صعود وهبوط وانحسار أضواء من حوله، فيهرع إلى مسقط رأسه بكفر الشيخ لكى ينعم بلحظات من الهدوء النفسى عبر العودة للجذور.
صينية البطاطس وأسرار أخرى
قد يكون خروجها إلى المعاش هو أكبر صفعة لها، فرباطة جأش نسمة (63 سنة) وصلابتها، لم يمنعا تأثرها الشديد بالموقف ولم تنجيها كل وسائلها الدفاعية أو سخريتها اللاذعة. كانت ناقدة فنية فى واحدة من أهم المؤسسات الصحفية وشهدت عصرها الذهبى، وجاورت كبار أسماء الفن والأدب. وعندما أتمت عقدها السادس شعرت أنها فى قمة النضوج وأعلى مراحل العطاء بعد أن أنهت مهمتها كأم، فظنت أن فى إمكانها أن تفعل كل ما تصبو إليه وتستمتع بما تفعله أو تكتبه. أرادت أن تستمر فى الكتابة والعمل على طريقتها فالقلم لا يشيخ ولا يهرم. وبما أنه أصبح شبه قانون أن يتم مد الخدمة للصحفيين حتى سن الخامسة والستين، فقد استمرت فى العمل وسعدت بذلك، لكن للأسف..أتت الريح بما لا تشتهى السفن: «عندما بلغت عامى الثانى والستين فوجئت فى اليوم التالى لعيد ميلادى بإحالتى إلى المعاش رغم موافقة رئيس التحرير على مد فترة خدمتى، جاء القرار وأنا غير مستعدة ماديا ولا مهيأة نفسيا لتقبل الفكرة». روت نسمة صعوبة أيام المعاش الأولى، مشاعر كثيرة ساورتها ... الغضب...الشعور بالمهانة بعد رحلة عطاء دامت لأكثر من أربعة عقود، وتقول: «لم أكن أبدا ضد فكرة المعاش لأننى مع مبدأ ضرورة بث دماء شابة فى الجريدة وأؤمن بضرورة إعطاء فرصة للأجيال الجديدة، لكننى أحسست فى هذه الأيام بأننى شخص غير مرغوب فيه وكأننى خرجت مطرودة من هذا المكان، فلست أنا ولا العشرين صحفيا الآخرين الذين أحيلوا معى إلى المعاش هم من سيشكلون عبئا على مؤسسة شهدت لأعوام طويلة عمليات نهب منظمة». أسئلة كثيرة دارت فى خلدها لتزيد من قسوة شعورها: «كيف يخرج الصحفى إلى المعاش؟ أليس شأن الصحفى كشأن أستاذ الجامعة؟ لماذا لا يكون هناك صحفى متفرغ مثل أعضاء هيئة التدريس الجامعى؟»، فكرت فى لحظات الثورة العارمة أن تنتقم من رئيس مجلس الإدارة الذى أحالها إلى المعاش لولا كبريائها المعهود. «كثيرا ما كنت أجهز الشتيمة وأتراجع عن قرارى فى آخر لحظة!»
ورغم أن الأيام الأولى للتجربة كانت قاسية، فإن الأيام اللاحقة كانت أصعب، فكان على نسمة أن تواجه الحياة بمعاش لا يتعدى الألف جنيه بعد أن تبخرت الحوافز التى كانت تسد حاجة رغم ضآلتها. تبخر حلمها فى الرحيل خارج القاهرة ...عرفت نسمة نوعية حياة جديدة كانت قد تعلمتها من خلال دردشتها مع أحد العمال البسطاء فى المؤسسة والتى كانت طيلة فترة خدمتها على علاقة طيبة به. كان عم سعد يروى لها أنه يأكل صينية البطاطس «الأرديحى» أى دون اللحم، فقررت الاستفادة من فلسفة عم سعد وطريقة حياته ولم تر غضاضة فى تناول صينية البطاطس «الأرديحى» هى الأخرى. دربت نفسها على نوعية حياة بها مسحة من الزهد ويبدو أن تجربة المعاش ستزيد من مساحة الزهد هذه: «أصبحت أشترى ما أحتاج وليس ما أريد أو ما يعجبنى».
ويتعارض هذا التقشف أحيانا مع متطلبات الحياة الثقافية التى اعتادت أن تعيشها. تستطيع دخول المسارح أو دور العرض بحكم علاقاتها لكن حبها لاقتناء الكتب الجميلة والقيمة دفعها للعمل مرة أخرى بالقطعة فى بعض المجلات والصحف أو ممارسة الترجمة. وهى الآن تشعر بأنها فى حال أفضل بتغلبها على مشاعر الاكتئاب الأولى، فلم تعد تشعر بأنها على حافة الهاوية أو أن المعاش هو نهاية العالم، تقول: «لدى إحساس رائع بأننى عتقت وتحررت من الوظيفة ...لكن ما يؤلمنى هو أننى لا أستطيع أن أقدم بعض الهدايا لابنتى الرائعة...فهى التى تبادرنى دائما بمثل هذه اللمسات الجميلة».
أضيق من ثقب الإبرة
عندما يقابل حمدى(75 سنة) أحد معارفه يبادره بالقول إنه غاضب منه للغاية، لأنه لم يدعه لاحتساء القهوة منذ وقت طويل. الغضب هو حالة عامة يخلقها حمدى ويعيشها فيها لكى يجد لنفسه مكانا أو ليعطى نفسه أهمية لدى المحيطين. شعره الأبيض الكثيف ووجهه الصارم وحاجباه اللذان يرتفع أحدهما عن الآخر، جميعها أشياء تعطيه إحساسا بحالة دائمة من الغليان والثورة الداخلية. تجربة المعاش بالنسبة له هى لحظة تحول حقيقية فى مسار حياته، فبعد أكثر من ستة وثلاثين عاما قضاها فى الوظيفة حتى وصل لمنصب مدير عام شئون الأفراد بإحدى المؤسسات الحكومية بدأت رحلة الهبوط. كفاءته المهنية منحته الفرصة لكى يظل فى عمله حتى الخامسة والستين، ثم فجأة بمجرد قرار تبخر كل شىء كفقاعات الصابون ...النجاح...العلاقات..حتى روتين العمل.
وجد حمدى نفسه يجلس فى البيت ينتظر عودة زوجته من العمل أو ربما ليقوم بدور جليس الأطفال مصطحبا أحفاده هنا وهناك. حديث الماضى وذكرياته المهنية أصبحت حديثه المفضل، لا يمل من تكرار نفس الحكايات على مسامع أسرته التى حفظت تفاصيل هذه الوقائع عن ظهر قلب، وإن استحى أفرادها من إحراجه دون أن يمنعهم ذلك من تبادل الابتسامات الخبيثة. نغمة «عندما كنت» تبدو النغمة الوحيدة التى تطربه وتشعره بأنه لا يزال له قيمة. ولأن عمله فى المصلحة كان شئون الأفراد، فقد بدأ يمارس هذا العمل على طريقته الخاصة، أصبح شغله الشاغل هو حياة الناس.
عكف حمدى على متابعة أخبار أقاربه: محمد ابن أخيه تشاجر مع زوجته، هنية أخت زوجته اختلفت مع أشقائها بسبب الميراث، أهل عروس سامح ابن خالته يشترطون أن يمضى على قائمة مدون فيها مفردات الأثاث قبل الزواج إلخ... فى هذا العالم الذى يدور فلكه فى المشاجرات والاختلافات وجد حمدى متعته فى القيل والقال عبر مكالمات الهاتف، ثرثرة العائلة وحكايات «الستات»، لكن هذه المتعة الزائفة لم تدم طويلا خاصة بعد أن حاول الإصلاح بين الأطراف المتناحرة ولم ينل سوى «تقطيع هدومه». تدخله السافر أحيانا فى شئون البعض دفعهم إلى الابتعاد عنه حتى أقرب الناس إليه، فزوجة أحد أبنائه آثرت وضع حد لهذه التدخلات، فاقتصرت العلاقات بينهما على اللقاءات الرسمية أو المكالمات السريعة الباردة. ومع الوقت أصبحت زوجة حمدى «المسكينة» هى كبش الفداء. «صار زوجى غريب الأطوار، أصبح شديد الحساسية وسريع الانفعال لأتفه الأسباب، أنتقى كلامى بشدة خاصة لأننى لم أخرج إلى المعاش، وأواجه أحيانا مشاكل بسبب تدخله فى تفاصيل عملى، وأكثر من ذلك أنه بدأ يغار علىّ فى مثل هذه السن ويعلق على ملابسى الشخصية». شيئا فشيئا بدأ يشعر بأن الناس تتجنبه وأن الأيام تتكرر بنفس الإيقاع الممل، لا شىء يعطيها ألوانا مختلفة سوى قراءة جرائد المعارضة ذات النبرة الساخنة التى تنفث عن شعوره الدفين بالغضب. وكلما ضاقت آفاق الحياة وأصبحت كثقب الإبرة، زاد التصاقه بزوجته تماما مثل الطفل الصغير، فهى الإنسان الوحيد الذى راعى شيخوخته ...أصبح يخاف من أن تتركه وحده وتخرج لأنه يخاف ذلك المجهول الذى ينتظره خلف الباب ويخيل إليه أنه سوف يقفز من الشباك للهروب من مصيره المحتوم...ففكرة انتظار الموت كل يوم أصبحت نديمه فى ليالى الوحدة القاسية.
* بعض الحالات تم تغيير الأسماء بناء على طلب المصادر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.