اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    أسعار الدواجن في المحلات اليوم الخميس 16-5-2024    سعر الدولار مقابل الجنيه في 9 بنوك مع بداية تعاملات اليوم الخميس    ارتفاعات جديدة لأسعار البترول العالمية لليوم الثاني على التوالي    إطلاق الكهرباء وتشغيل محطة الصرف بأراضي «بيت الوطن» بالقاهرة الجديدة    مواني البحر الأحمر تشهد حركة نشطة: 10 آلاف طن بضائع و585 شاحنة خلال يوم واحد    توريد 40 ألف طن قمح لشون وصوامع القليوبية    أسعار العدس اليوم الخميس 16-5-2024 في الأسواق    مراقبون: عمليات جباليا وتوثيق المقاومة دمر معنويات العدو وحطم أهدافهم    السيسي يبحث مع القادة العرب تعزيز التعاون والعمل المشترك لمواجهة التحديات    ملفات مهمة على طاولة القمة العربية في البحرين.. أبرزها أوضاع غزة والسودان    بوتين يصل قاعة الشعب الكبرى في بكين استعدادا للقاء الرئيس الصيني    باحث سياسي: الأجيال الجديدة في أمريكا ترى حقيقة جرائم إسرائيل    منظمة التعاون الإسلامي: القضية الفلسطينية تشهد تطورات خطيرة    روسيا تعلن إحباط هجوم أوكراني بصواريخ أمريكية على شبه جزيرة القرم    موعد مباراة برشلونة وألميريا بالدوري الإسباني والقناة الناقلة    موعد مباراة الزمالك ونهضة بركان بالكونفدرالية والقناة الناقلة    مواعيد مباريات اليوم الخميس 16 مايو 2024 في الدوري المصري والبطولات العالمية    عبد العال: إمام عاشور وزيزو ليس لهما تأثير مع منتخب مصر    شوبير يكشف موقف محمد صلاح من معسكر المنتخب    محافظ القاهرة يتفقد امتحانات الإعدادية بالأسمرات    تطور جديد في قضية سائق أوبر المتهم بالتحرش بفتاة التجمع    عطل يضرب الخط الثاني لمترو الأنفاق.. والركاب يبحثون عن بدائل    حظك اليوم، انفراجات وصراعات في أغلب الأبراج (فيديو)    ياسمين عبدالعزيز تنشر صورة مفاجئة: زوجي الجديد    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية بيكلموني قائمة الأكثر استماعا في مصر    تنظيف كبدة الفراخ بمكون سحري.. «هيودي الطعم في حتة تانية»    طريقة عمل دجاج ال«بينك صوص» في خطوات بسيطة.. «مكونات متوفرة»    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    عمر الشناوي يكشف كواليس إصابته ب «الحشاشين» وأسباب أزمته النفسية في بداياته ببرنامج «واحد من الناس» الأحد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    غارات إسرائيلية على منطقة البقاع شرق لبنان    «سلامتك في سرية بياناتك».. إطلاق حملة «شفرة» لتوعية المجتمع بخطورة الجرائم الإلكترونية    إبراهيم عيسى: "في أي لحظة انفلات أو تسامح حكومي البلاعات السلفية هتطلع تاني"    محمود عاشور يسجل ظهوره الأول في الدوري السعودي    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    تراجع الوفيات بسبب جرعات المخدرات الزائدة لأول مرة في الولايات المتحدة منذ الجائحة    "في الخلاط" حضري أحلى جاتو    قدم الآن.. خطوات التقديم في مسابقة وزارة التربية والتعليم لتعيين 18 ألف معلم (رابط مباشر)    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟ أمين الفتوى بجيب    رسميا.. جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 thanwya جميع الشعب مباشر الآن في محافظة القليوبية    ماذا قال نجل الوزير السابق هشام عرفات في نعي والده؟    بعد 40 يوما من دفنها، شقيقان وراء مقتل والدتهما بالدقهلية، والسر الزواج العرفي    رئيس الترجي يستقبل بعثة الأهلي في مطار قرطاج    وزير النقل يكشف موعد افتتاح محطة قطارات الصعيد الجديدة- فيديو    4 سيارات لإخماد النيران.. حريق هائل يلتهم عدة محال داخل عقار في الدقهلية    منها البتر والفشل الكلوي، 4 مضاعفات خطرة بسبب إهمال علاج مرض السكر    مباشر الآن.. جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 thanwya في محافظة القليوبية    «فوزي» يناشد أطباء الإسكندرية: عند الاستدعاء للنيابة يجب أن تكون بحضور محامي النقابة    الدوري الفرنسي.. فوز صعب لباريس سان جيرمان.. وسقوط مارسيليا    كم متبقي على عيد الأضحى 2024؟    رئيس تعليم الكبار يشارك لقاء "كونفينتيا 7 إطار مراكش" بجامعة المنصورة    قصور الثقافة تطلق عددا من الأنشطة الصيفية لأطفال الغربية    هولندا تختار الأقصر لفعاليات احتفالات عيد ملكها    فرقة فاقوس تعرض "إيكادولي" على مسرح قصر ثقافة الزقازيق    حسن شاكوش يقترب من المليون بمهرجان "عن جيلو"    وزير التعليم العالي ينعى الدكتور هشام عرفات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



4 قصص من الحياة بعد المعاش
نشر في الشروق الجديد يوم 04 - 11 - 2009

الخروج إلى المعاش قد يشكل أزمة ضارية فى حياة البعض، أو وعدا ببدايات جديدة، حسب تقبلنا للأمر الواقع وتعايشنا معه.. أربعة نماذج استقبلت هذه اللحظات الحرجة بطرق مختلفة، فكان الكابوس أو متعة الحرية.
نادية تلعب تنس الطاولة
لا تقبل الهزيمة، متفائلة بطبعها، رغم نبرة الحزن فى صوتها، تلك هى السيدة نادية بدير( 65 سنة) وكيلة مصلحة الضرائب سابقا. المعاش بالنسبة لها كان محطة لإعادة اكتشاف ذاتها واستثمار وقتها بشكل مختلف. وهذا الميل للإفادة من كل الفرص يرجع ربما لطبيعة عملها طويلا كمحاسبة قانونية، فخلال حياتها العملية كانت تهرول ما بين مصلحة الضرائب ووزارة المالية، عمل شاق وحساس للغاية كان يستمر فى بعض الأحيان إلى أكثر من 11 ساعة يوميا. فى هذه الأثناء عرفت نادية مرارة فقدان الزوج وهى فى الرابعة والثلاثين من عمرها وكان يجب عليها متابعة شئون أولادها الثلاثة ما بين تعليم وتربية وتمارين رياضية إلخ... جاء المعاش بعد رحلة طويلة من التعب ليضفى لونا آخر على حياتها كما توضح: «علمتنى الحياة أن الإنسان الكيس هو الذى يخطط لمستقبله البعيد قبل أن يفكر فى اللحظة الآنية، لذا اكتشفت مع تجربة المعاش آفاقا جديدة».
كانت نادية فى مطلع حياتها شعلة نشاط: بطلة الجامعة فى الكرة الطائرة، عضو اتحاد الطلبة، صحفية فى مجلة الجامعة. ثم تجولت فى بلاد العالم مع زوجها الراحل، فتركت شعوب شرق آسيا فى نفسها أكبر الأثر: «تعلمت من هذه الشعوب الإقبال على الحياة فى أى لحظة وأى عمر». لم يكن المعاش، إذن، ضيفا ثقيلا، فقبل المعاش بعام اختمرت فى رأسها مجموعة من الأفكار، وعادت مرة أخرى لتمسك بمضرب تنس الطاولة الذى كانت قد تركته منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما عندما تعلمت اللعبة فى اليابان. وخلال ثلاثة أعوام طافت المحافظات المختلفة على نفقتها الخاصة للمشاركة فى البطولات وانتزاع المركز الثانى على مستوى العالم. وقد تحدثت عن انتصاراتها مجلة التنس المتخصصة «تيبل». وبعد سن الستين، أصبحت هذه اللعبة هى شغلها الشاغل، حتى إنها أسست فريقا للرواد فى لعبة البنج بونج بنادى الشمس وجمعية الشباب الدائم بعد أن حصدت عشرات الميداليات فى المنافسات الدولية. «لقد صاحبت زوجى فى رحلة مرضه وذهبت معه إلى مينسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية للعلاج، وكنت على دراية بتفاصيل مرضه، سيكولوجية المريض، تطورات العلاج، لذا انضممت فيما بعد إلى جمعية مرضى الكلى كى أساعد بأى مجهود».
واجهت نادية، كذلك، حربا ضروسا بعد أن تقدمت كأول سيدة مصرية لرئاسة مصلحة الضرائب وعرفت ما يمكن أن تواجهه السيدة العاملة من تحديات، ولم تأبه لعدم فوزها فى هذه المعركة، فقررت أن تحول تجربتها الذاتية إلى قضية عامة تدافع عنها بانضمامها لرابطة المرأة العربية، ثم حصلت مؤخرا على دورة ضمن 25 سيدة مصرية خاصة بتأهيل القيادات النسائية. لا تفارق الكاميرا والأوراق حقيبتها، فالكتابة هى هوايتها المحببة التى تعبر عن نفسها وهمومها من خلالها، بل وتتعرض أيضا لقضايا الشريحة العمرية التى تنتمى إليها، وتنشر ما تكتب غالبا فى صحيفة جمعية «الشباب الدائم» التى تهتم بأصحاب المعاشات.
الوزير خارج نطاق الخدمة
«كيف يعامل الوزير بعد خروجه إلى المعاش بمثل هذه الطريقة؟» سؤال يطرحه أحمد العماوى، وزير القوى العاملة السابق الذى ترك منصبه عام 2003، بألف ومائتى جنيه شهريا، قيمة معاشه، أصبح عليه أن يواجه نمطا جديدا للحياة بعد مظاهر الأبهة والسلطة والنفوذ. تنطفئ الأضواء حول هذا المسئول الكبير ويصبح عليه فجأة أن يعيش حياة الناس العاديين التى لم يعتدها. «أشعر بالحزن والأسى لعدم الاهتمام بالوزراء السابقين إلى هذا الحد المهين، أين تقدير رجل شغل منصبا مهما لسنوات ومن المفترض أن يحظى بنوع من التقدير والإجلال بعد خروجه إلى المعاش؟! لا أفشى سرا عندما أقول إن وضع الوزير المصرى هو الأسوأ على مستوى الدول العربية باختلاف ظروفها الاقتصادية. كثيرا ما تجمعنى لقاءات مع وزراء عرب وكثيرا ما يطرح هذا الموضوع للنقاش، ولا يكاد يصدق أحد قيمة ما يحصل عليه الوزير المصرى بعد خروجه إلى المعاش». تساؤلات كثيرة مازالت تدور فى خلد سيادة الوزير الذى شغل منصب مدير مساعد منظمة العمل العربية، ويوضح: «كنت أتقاضى فى ذلك الوقت (مطلع التسعينيات) ما يعادل 5 آلاف دولار، وهى الفترة التى استطعت خلالها توفير مبلغ من المال أعيش منه الآن، إضافة إلى ميراثى من أبى. عندما استدعيت للعمل وزيرا لم أتردد لتلبية نداء الواجب، تصورت أن الراتب ومن بعده المعاش سيكونان لائقين ولا أقول مماثلين لما كنت أحصل عليه، بدأ ينتابنى إحساس أن الحكومة تتصور هذا المنصب نوعا من الخدمة العامة». ويصمت برهة ثم يتابع: «ظل هذا الموضوع ملفا شائكا لا يجرؤ أحد على فتحه حتى عام 2005، ومؤخرا ظهرت مبادرات لنقاش هذا الموضوع، فوضع الوزراء الحاليين قد يكون أفضل ممن أحيلوا إلى المعاش قبل هذا التاريخ».
ومما يزيد الأمر تعقيدا فى هذه المرحلة العمرية أن كل من حوله لا يزالون يعاملونه كوزير بل ينتظرون أن تبقى تصرفاته على مستوى المنصب، الأمر الذى يشكل عبئا ماديا وأحيانا نوعا من الحرج حتى فى نطاق الأسرة. «أنتمى لعائلة ممتدة، الكل ينتظر منى أن أساعدهم بنفس الكيفية، وفى واقع الأمر فقد أستطيع أحيانا وأحيانا أخرى لا يكون بإمكانى تقديم العون، فأنا مدرك لظروف البلد ولن أطلب من البعض أن يضرب الأرض لتطرح البطيخ».
انفض المولد من حوله واختفت المواكب التى كانت تتبعه لحمايته كظله، مما أعطاه شعورا أكبر بالحرية والراحة لكونه أكثر التصاقا بالناس. «أنا رجل نقابى، شغلت منصب رئيس اتحاد العمال، لذا أحب أن أكون بين الناس، الآن أستضيف العمال وأقدم لهم المشورة حتى فى بعض الأمور الخاصة».
استعاد العماوى متعة السير على القدمين والتسوق من المركز التجارى الواقع على بعد خطوات من مسكنه. «كنت أحيانا أخرج لتناول العشاء فى الخارج مع أسرتى وأصدقائى، فأكون مضطرا أن أسحب ورائى الحرس والسائق، الأمر الذى كان يضايقنى أحيانا، فكنت أتنقل وأطلب منهم عدم مصاحبتى».
أرغمه كذلك منصبه السابق على ارتداء ملابس رسمية طوال الوقت، لذا تجده اليوم قد تحرر من رابطة العنق ليرتدى البنطلون الجينز الذى يفضله. «دولابى به العديد من بنطلونات الجينز التى أتردد أحيانا فى ارتدائها بسبب السن».
ورغم أنه يعيش وسط الناس ويمارس عملا جماهيريا جديدا من خلال مجلس الشورى فإن شعوره بالوحدة يصيبه بحزن دفين، لا سيما بعد أن خطف الموت زوجته ورفيقة دربه.
يعيش تناقض الحياة من صعود وهبوط وانحسار أضواء من حوله، فيهرع إلى مسقط رأسه بكفر الشيخ لكى ينعم بلحظات من الهدوء النفسى عبر العودة للجذور.
صينية البطاطس وأسرار أخرى
قد يكون خروجها إلى المعاش هو أكبر صفعة لها، فرباطة جأش نسمة (63 سنة) وصلابتها، لم يمنعا تأثرها الشديد بالموقف ولم تنجيها كل وسائلها الدفاعية أو سخريتها اللاذعة. كانت ناقدة فنية فى واحدة من أهم المؤسسات الصحفية وشهدت عصرها الذهبى، وجاورت كبار أسماء الفن والأدب. وعندما أتمت عقدها السادس شعرت أنها فى قمة النضوج وأعلى مراحل العطاء بعد أن أنهت مهمتها كأم، فظنت أن فى إمكانها أن تفعل كل ما تصبو إليه وتستمتع بما تفعله أو تكتبه. أرادت أن تستمر فى الكتابة والعمل على طريقتها فالقلم لا يشيخ ولا يهرم. وبما أنه أصبح شبه قانون أن يتم مد الخدمة للصحفيين حتى سن الخامسة والستين، فقد استمرت فى العمل وسعدت بذلك، لكن للأسف..أتت الريح بما لا تشتهى السفن: «عندما بلغت عامى الثانى والستين فوجئت فى اليوم التالى لعيد ميلادى بإحالتى إلى المعاش رغم موافقة رئيس التحرير على مد فترة خدمتى، جاء القرار وأنا غير مستعدة ماديا ولا مهيأة نفسيا لتقبل الفكرة». روت نسمة صعوبة أيام المعاش الأولى، مشاعر كثيرة ساورتها ... الغضب...الشعور بالمهانة بعد رحلة عطاء دامت لأكثر من أربعة عقود، وتقول: «لم أكن أبدا ضد فكرة المعاش لأننى مع مبدأ ضرورة بث دماء شابة فى الجريدة وأؤمن بضرورة إعطاء فرصة للأجيال الجديدة، لكننى أحسست فى هذه الأيام بأننى شخص غير مرغوب فيه وكأننى خرجت مطرودة من هذا المكان، فلست أنا ولا العشرين صحفيا الآخرين الذين أحيلوا معى إلى المعاش هم من سيشكلون عبئا على مؤسسة شهدت لأعوام طويلة عمليات نهب منظمة». أسئلة كثيرة دارت فى خلدها لتزيد من قسوة شعورها: «كيف يخرج الصحفى إلى المعاش؟ أليس شأن الصحفى كشأن أستاذ الجامعة؟ لماذا لا يكون هناك صحفى متفرغ مثل أعضاء هيئة التدريس الجامعى؟»، فكرت فى لحظات الثورة العارمة أن تنتقم من رئيس مجلس الإدارة الذى أحالها إلى المعاش لولا كبريائها المعهود. «كثيرا ما كنت أجهز الشتيمة وأتراجع عن قرارى فى آخر لحظة!»
ورغم أن الأيام الأولى للتجربة كانت قاسية، فإن الأيام اللاحقة كانت أصعب، فكان على نسمة أن تواجه الحياة بمعاش لا يتعدى الألف جنيه بعد أن تبخرت الحوافز التى كانت تسد حاجة رغم ضآلتها. تبخر حلمها فى الرحيل خارج القاهرة ...عرفت نسمة نوعية حياة جديدة كانت قد تعلمتها من خلال دردشتها مع أحد العمال البسطاء فى المؤسسة والتى كانت طيلة فترة خدمتها على علاقة طيبة به. كان عم سعد يروى لها أنه يأكل صينية البطاطس «الأرديحى» أى دون اللحم، فقررت الاستفادة من فلسفة عم سعد وطريقة حياته ولم تر غضاضة فى تناول صينية البطاطس «الأرديحى» هى الأخرى. دربت نفسها على نوعية حياة بها مسحة من الزهد ويبدو أن تجربة المعاش ستزيد من مساحة الزهد هذه: «أصبحت أشترى ما أحتاج وليس ما أريد أو ما يعجبنى».
ويتعارض هذا التقشف أحيانا مع متطلبات الحياة الثقافية التى اعتادت أن تعيشها. تستطيع دخول المسارح أو دور العرض بحكم علاقاتها لكن حبها لاقتناء الكتب الجميلة والقيمة دفعها للعمل مرة أخرى بالقطعة فى بعض المجلات والصحف أو ممارسة الترجمة. وهى الآن تشعر بأنها فى حال أفضل بتغلبها على مشاعر الاكتئاب الأولى، فلم تعد تشعر بأنها على حافة الهاوية أو أن المعاش هو نهاية العالم، تقول: «لدى إحساس رائع بأننى عتقت وتحررت من الوظيفة ...لكن ما يؤلمنى هو أننى لا أستطيع أن أقدم بعض الهدايا لابنتى الرائعة...فهى التى تبادرنى دائما بمثل هذه اللمسات الجميلة».
أضيق من ثقب الإبرة
عندما يقابل حمدى(75 سنة) أحد معارفه يبادره بالقول إنه غاضب منه للغاية، لأنه لم يدعه لاحتساء القهوة منذ وقت طويل. الغضب هو حالة عامة يخلقها حمدى ويعيشها فيها لكى يجد لنفسه مكانا أو ليعطى نفسه أهمية لدى المحيطين. شعره الأبيض الكثيف ووجهه الصارم وحاجباه اللذان يرتفع أحدهما عن الآخر، جميعها أشياء تعطيه إحساسا بحالة دائمة من الغليان والثورة الداخلية. تجربة المعاش بالنسبة له هى لحظة تحول حقيقية فى مسار حياته، فبعد أكثر من ستة وثلاثين عاما قضاها فى الوظيفة حتى وصل لمنصب مدير عام شئون الأفراد بإحدى المؤسسات الحكومية بدأت رحلة الهبوط. كفاءته المهنية منحته الفرصة لكى يظل فى عمله حتى الخامسة والستين، ثم فجأة بمجرد قرار تبخر كل شىء كفقاعات الصابون ...النجاح...العلاقات..حتى روتين العمل.
وجد حمدى نفسه يجلس فى البيت ينتظر عودة زوجته من العمل أو ربما ليقوم بدور جليس الأطفال مصطحبا أحفاده هنا وهناك. حديث الماضى وذكرياته المهنية أصبحت حديثه المفضل، لا يمل من تكرار نفس الحكايات على مسامع أسرته التى حفظت تفاصيل هذه الوقائع عن ظهر قلب، وإن استحى أفرادها من إحراجه دون أن يمنعهم ذلك من تبادل الابتسامات الخبيثة. نغمة «عندما كنت» تبدو النغمة الوحيدة التى تطربه وتشعره بأنه لا يزال له قيمة. ولأن عمله فى المصلحة كان شئون الأفراد، فقد بدأ يمارس هذا العمل على طريقته الخاصة، أصبح شغله الشاغل هو حياة الناس.
عكف حمدى على متابعة أخبار أقاربه: محمد ابن أخيه تشاجر مع زوجته، هنية أخت زوجته اختلفت مع أشقائها بسبب الميراث، أهل عروس سامح ابن خالته يشترطون أن يمضى على قائمة مدون فيها مفردات الأثاث قبل الزواج إلخ... فى هذا العالم الذى يدور فلكه فى المشاجرات والاختلافات وجد حمدى متعته فى القيل والقال عبر مكالمات الهاتف، ثرثرة العائلة وحكايات «الستات»، لكن هذه المتعة الزائفة لم تدم طويلا خاصة بعد أن حاول الإصلاح بين الأطراف المتناحرة ولم ينل سوى «تقطيع هدومه». تدخله السافر أحيانا فى شئون البعض دفعهم إلى الابتعاد عنه حتى أقرب الناس إليه، فزوجة أحد أبنائه آثرت وضع حد لهذه التدخلات، فاقتصرت العلاقات بينهما على اللقاءات الرسمية أو المكالمات السريعة الباردة. ومع الوقت أصبحت زوجة حمدى «المسكينة» هى كبش الفداء. «صار زوجى غريب الأطوار، أصبح شديد الحساسية وسريع الانفعال لأتفه الأسباب، أنتقى كلامى بشدة خاصة لأننى لم أخرج إلى المعاش، وأواجه أحيانا مشاكل بسبب تدخله فى تفاصيل عملى، وأكثر من ذلك أنه بدأ يغار علىّ فى مثل هذه السن ويعلق على ملابسى الشخصية». شيئا فشيئا بدأ يشعر بأن الناس تتجنبه وأن الأيام تتكرر بنفس الإيقاع الممل، لا شىء يعطيها ألوانا مختلفة سوى قراءة جرائد المعارضة ذات النبرة الساخنة التى تنفث عن شعوره الدفين بالغضب. وكلما ضاقت آفاق الحياة وأصبحت كثقب الإبرة، زاد التصاقه بزوجته تماما مثل الطفل الصغير، فهى الإنسان الوحيد الذى راعى شيخوخته ...أصبح يخاف من أن تتركه وحده وتخرج لأنه يخاف ذلك المجهول الذى ينتظره خلف الباب ويخيل إليه أنه سوف يقفز من الشباك للهروب من مصيره المحتوم...ففكرة انتظار الموت كل يوم أصبحت نديمه فى ليالى الوحدة القاسية.
* بعض الحالات تم تغيير الأسماء بناء على طلب المصادر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.