حالة من الارتباك والغضب والخوف حتما سوف تنتاب القارئ لقصة «نادية» مع الأسر ومعركتها ضد تنظيم داعش الإرهابى، ثم تتبعها حيرة أكبر وألم إذا أردت أن تكتب أو تروى ما قرأته عنها للآخرين، فمن أين ستبدأ الحكاية؟!. تبدأ من ظهور التنظيم الإرهابى «داعش» وحصار بلدة كوجو العراقية ورسائل التهديد الضمنية التى ظنها أهل القرية مجرد حادث عارض لن يتحول إلى أمر واقع؟! أم تبدأ من تجويع التنظيم لأهل القرية وصرخات الأطفال يرجون وجبة واحدة؟! أم مشهد إخلاء القرية من أهلها بالقوة مخلفين وراءهم منازلهم وحياتهم، حاملين أرواحهم على أكتافهم كجندى حرب خسر معركة لم يخوضها ولم يعرف منها سوى الهزيمة؟! أم نبدأ بحكاية السيدة التى تعلقت بحبل طائرة كانت تلقى لهم بالقليل من الطعام، ظنت المسكينة أنها تستطيع الهرب من حياة مأساوية فكانت نهايتها سقوط مدوى حول جسدها إلى أشلاء متباعدة. كل ما سبق هو جزء من مأساة «نادية مراد» التى نشرتها دار بنجوين باللغة الإنجليزية عام 2017، وفازت بجائزة نوبل للسلام عام 2018، وترجمتها للعربية «نادين نصرلله» بعنوان «الفتاة الأخيرة» عام 2019 عن دار التنوير للنشر، فى ثلاثة أجزاء كتبت مقدمتها المحامية والناشطة الحقوقية «أمل كلونى» تروى تفاصيل لقائها ب«نادية» فى لندن وكيف قررت أن تتبنى قضيتها التى لم تكن تبشر بأمل فى النجاح، فى ظل مجتمعات ومنظمات لا تعترف إلا بصورة مأساوية تناقلتها نشرات الأخبار والتى اقتصر على هدم كل مظاهر الحضارة، غاضين الطرف عن الخراب الحقيقى وهو معاناة الإنسان تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية الطاحنة. اختارت نادية البداية الصحيحة لسرد حكايتها فى الجزء الأول حين وجهت أصابع الاتهام إلى كتب التاريخ العراقية التى تكتب فقط بقلم الأغلبية، بسلاح القوة الحاكمة المسيطرة. تروى نادية تاريخ بلدة كوجو التى تقع فى الطرف الجنوبى من منطقة سنجار العراقية، بالقرب من كردستان، انطلقت تحكى طبيعة الحياة اليومية فيها، وتنقل صورة حقيقية عن سكانها من المسلمين السنة ومن أصحاب الديانة الإيزيدية الذين تنتمى لهم. لم تشرح نادية طبيعة ديانتها القديمة تبريرا لأحد، بل تمهيدا للحديث عن الاضطهادات التى تعرضوا لها؛ وكيف تنافس كل من عرب العراق السنة والأكراد السنة على مطالبتهم بإنكار ديانتهم الإيزيدية والانتماء لأى من الفريقين، وساعدهم على ذلك تجاهل الأنظمة الحاكمة لوجودهم فهم فى حقيقة الأمر مواطنين عراقيين لكن على أرض الواقع تعتبرهم الدولة أقلية بلا حقوق. ومن هنا كانت بداية المأساة الحقيقية لبلدة كوجو وأهلها من الإيزيديين بصفة خاصة، لتبدأ أحداث الفصل الثانى بدخول القوات الأمريكية إلى العراق عام 2003، تصف نادية كيف رحبت بعض الاتجاهات السياسية والانتماءات الدينية بهذا الإحتلال، وتبدلت الأدوار فتولى الشيعة مقاليد الحكم، وكيف حاولت تلك السلطات بما فيها الاحتلال الأمريكى التقرب من الأكراد والإيزيديين لكسب ولائهم، وفى خضم تلك الأحداث ظلت بلدة كوجو تعلق آمالها على تلك اللحظة التى توفى فيها تلك السلطات بوعودها، لكن مرت سنوات وتبخرت تلك الوعود وتحولت إلى سحابة سوداء ظللت المجتمع العراقى وهى ظهور الدولة الإسلامية الجديدة داعش. هكذا تبدأ أحداث الفصل الثالث حين اجتاحت قوات التنظيم الإرهابى داعش للعراق عام 2014، وأحكم قبضته على الموصل، وكيف عاش أهل العراق من المسلمين والمسيحيين وكافة الطوائف تحت التخويف والإرهاب فمن لم يستطع الخروج من الأراضى الواقعة تحت سيطرتهم يكبلون بقوانين الدولة الإسلامية الجديدة كما أطلقوا على أنفسهم. فى البداية قام التنظيم بحصار بلدة كوجو والقيام بعمليات تفجير وقتل ممنهج للبعض من أهل القرية، ثم كان حصارهم الصريح للقرية وتهديد أهلها؛ إما التنازل عن انتمائهم للديانة الإيزيدية أو تهجيرهم من القرية ودفع الجزية كما حكموا على مسيحيى العراق فى تلك الفترة. كانت وعود كاذبة بمجرد أن صدقها أهل القرية الإيزيديين جردتهم قوات داعش من ممتلكاتهم البسيطة وقامت بفصل الرجال عن النساء؛ الأطفال يتم تجنيدهم، الرجال تم قتلهم فى مذبحة جماعية ودفنهم فى مقابر البعض منها مجهول حتى الآن، والسيدات المتقدمات فى السن قتلن فى مجزرة جماعية أيضا، فقدت نادية فى تلك المجازر ستة من أفراد عائلتها. ثم كانت المأساة الأكبر للنساء والفتيات صغيرات السن ومنهم نادية، قسمتهم القوات الإرهابية وقامت ببيعهن بيع ممنهج كسبايا يتم تبادلهن بين الجنود والقادة، وفقا لقوانين أقرها مجلس شورى تنظيم داعش الإرهابى فى كتيب ينظم هذه السياسة، فقد أقر التنظيم أن الإيزيديات كافرات ديانتهم ليست سماوية فيحق الإتجار بهن وهذا هو الدين الحقيقى للنظام! حاول البعض منهن الانتحارو منهن من حاولت الهرب ست مرات ويتم القبض عليها فى نقاط التفتيش فيكون عقابها المزيد من الانتهاكات الجسدية التى يعد الاغتصاب أقلها قسوة! بيعت نادية مرتين إلى أن استطاعت الهرب ليلا فى رحلة أصعب مما تعرضت له صاحبة الواحد وعشرون عاما من انتهاكات؛ تخيل أن تسير ليلا يصاحبها الخوف والرعب من أن تطرق باب أحد منازل وطنها الذى تحفظ طرقاته؛ خوفا من أن يسلمها أهل المنزل للتنظيم مرة أخرى مقابل مبلغ من المال وفقا للشائعة التى روجتها داعش فى ذلك الوقت ليفقدن الأمل حتى فى محاولات الخلاص. كان الحظ حليف نادية حين ساعدتها عائلة من السنة على الخروج من الموصل والهرب إلى كردستان لتلتقى أحد أخوتها الناجين من المجزرة، لتصرخ للمرة الأولى باكية كل من فقدتهم والمصير الذى تعرضت له، استطاعت نادية الخروج من العراق إلى ألمانيا والعمل مع مجموعة من الحقوقيين والإيزيديين الذين حاولوا أن تصل أصواتهم للمنظمات الحقوقية حول العالم، وللمرة الأولى استطاعت أن تروى كل ما حدث لها بين يدى رجال التنظيم الإرهابى. استطاعت داعش أن تسلب نادية أهلها، عذريتها، قريتها، وحياتها الهادئة بالرغم من بساطتها، لكنهم لم يستطعوا أن يسلبوها صوتها، إرادتها الحرة التى أبت أن تستسلم؛ فتغيرت حياتها لتعمل لدى هيئة الأممالمتحدة وسافرت إلى كل محفل دولى تروى حكايتها، التى تحولت إلى لسان معبر لا عن المجازر التى تعرض لها الإيزيديين فقط، بل عن كل من تعرض لجميع أشكال الاضطهاد تحت مسمى دينى أو عرقى، وتحولت حكايتها التى كنا بصدد قراءة جزء من أحداثها إلى وثيقة إدانية بالأسماء والأفعال لجرائم الإرهاب، كتاب إذا لم نقرأه جيدا لن تكون نادية مراد الفتاة الأخيرة!