نورين أو نور على نور أسماء أطلقها المصريون على الكاتبة «ليدى دوف جوردون» أو «لوسى أوستن» وهو اسمها عند مولدها فى إنجلترا 24 يونيوعام 1821. عاشت فى مصر منذ عام 1862 حتى رحيلها إلى عالم الأبدية عام 1869، كان العلاج هو الهدف من الزيارة التى أصبحت رحلة طويلة استمرت سبع سنوات، ثم حولتها إلى حياة كاملة حين تعمدت الاختلاط بعادات وتقاليد الشعب المصرى، خاصة البسطاء منه ومساعدتهم فى بعض الأمور على قدر استطاعتها وما تملك من علاقات، فهى لم تكن صاحبة سلطة سياسية، كل ما فى الأمر أنها سيدة عاشت فى مصر بطبيعتها وفطرتها الإنسانية التى دفعت الشيخ يوسف أبو الحجاج أن يحفر لها مقبرة بين مقابر المسلمين!. محبة وتقديس لامرأة إنجليزية، كانت نظرة ليدى دوف جوردون النابعة من المعايشة هى مصدرهم، فقد اختلف موقفها كثيرا عن الأفكار الخاطئة التى استقاها الغرب من بعض كتابات المستشرقين، التى اهتمت بدراسة جميع مظاهر التاريخ وانتقاد أوجه الحياة الاجتماعية والتعليمية المتأخرة للمصريين فى ذلك الوقت، بالإضافة إلى من جاء منهم إلى مصر بنظرة أسطورية خيالية تكونت عن الشرق من حكايات ألف ليلة وليلة. لن نتهم تلك الكتابات بتعمد الإساءة أو السخرية، ولكنها فى نهاية الأمر لم تناقش أوضاع المصريين بشكل موضوعى منصف كما فعلت ليدى دوف جوردون التى انتقدت تلك النظرة وأشارت إلى أسماء كتابها ثم قامت بتصحيحها. لم تكن كتابات ليدى دوف جوردون عن مصر أدبية متخصصة، بل مجموعة من الرسائل كانت ترسلها إلى عائلتها فى إنجلترا، تتضمن طبيعة حياتها اليومية بين المصريين ممن ساعدوها فى السكن والاستقرار وتقديم الخدمات اليومية، وبمرور الوقت ألف الناس وجودها فكانت ملاذا وملجأ لعلاج وشكوى الكثير من الرجال والنساء. وبسبب نظرتها المتواضعة المحبة للمصريين وقوة ملاحظتها تحولت تلك الرسائل إلى توثيق مهم لمظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمصر فى تلك الفترة. احتفظت عائلتها بتلك الرسائل وقررت نشرها، فصدرت للقراء بعد رحيلها فى خمس طبعات مختلفة: أصدرت ابنتها «جانيت روس» الطبعة الأولى عام 1902. الطبعة الثانية أصدرها حفيدها مستر «جوردون ووتر فيلد» عام 1969، وتميزت هذه النسخة بدمج أكثر من رسالة فى واحدة وعنونة الرسائل. الطبعة الثالثة صدرت عام 1976 للدكتور «أحمد خاكى» عن الهيئة العامة للكتاب بعنوان «رسائل من مصر.. حياة لوسى دوف جوردون فى مصر»، لم تركز تلك الطبعة على ترجمة الرسائل، وأعطت الأولوية لمناقشة الأفكار التى تضمنتها، وكان مصدرها كتاب الرسائل الذى أصدره حفيدها. الطبعة الرابعة صدرت عام 2012 للأستاذ «ماجد محمد فتحى» عن دار سطور بعنوان «رسائل من مصر.. المرأة التى أحبت مصر»، لكن هذه الطبعة لم تتناول الرسائل كاملة. ثم صدرت أخيرا الطبعة الخامسة عن دار بيت الياسمين للكاتب «إبراهيم عبدالمجيد»، بعنوان «رسائل من مصر». جاءت هذه الطبعة فى 514 صفحة بترجمة دقيقة ل 131 رسالة هو عدد المراسلات كاملة، لم يحذف أو يضيف لها الكاتب شيئا سوى صياغتها بأسلوب أدبى جعل منها حكاية عن السيدة الإنجليزية ومصر فى تلك الفترة. هذه الطبعة هى الأكثر تميزا؛ لأنها طبعة شاملة؛ اهتم الكاتب بكتابة هوامش تتضمن شرح بعض المصطلحات الغريبة على ذهن القارئ وتتضمن معلومات تاريخية وأدبية، كما حرص على أن يوضح الفرق بين الهوامش التى كتبها والتى كتبت فى طبعات سابقة أو جاءت فيما سبق بخط صاحبة الرسائل. احتضنت الصفحات الأولى لهذه الترجمة ذكريات كتبتها ابنتها جانيت التى عاشت معها فى مصر أثناء عملها مراسلة لجريدة التايمز البريطانية، بالإضافة إلى المقدمة التى كتبها الشاعر والروائى الإنجليزى «جورج ميريديث»، فضلا عن مقدمة الكاتب والروائى إبراهيم عبدالمجيد. ثلاث مقدمات هى المدخل الأساسى لمعرفة المزيد عن شخصية ليدى دوف جوردون، ومهدت الطريق أمام القراء لفهم واستيعاب الرسائل والوقوف على أهم القضايا التى كتبت عنها، وقدمت صورة شاملة عن حياتها فى إنجلترا كأديبة ومترجمة مرموقة. جاءت جوردون إلى مصر فى فترة عصيبة لتشهد على فساد فترة حكم الخديوى إسماعيل، التى كتب عنها المستشرقون أنها حقبة تميزت بالديمقراطية وهى أبعد ما يكون عن ذلك؛ جميع مظاهر الرفاهية لم يتمتع بها سوى الشراكسة والأتراك والجنسيات الأجنبية المختلفة، فقد أوضحت فى بعض الرسائل أنها عانت فى بداية إقامتها بمصر نظرات الخوف وتوجس البعض من وجودها والنظر إليها كونها تنتمى إلى طبقة ثرية وكأنها قادمة من عالم آخر. بالرغم من الحاجة الدائمة إلى المال لم تجد بين المصريين من يتعمد التسول كما أشيع عنهم، وهو ما أكدت عليه أكثر من مرة. من أهم المشكلات التى وقف أمامها كثيرا هى موت الثروة الحيوانية بأعداد كبيرة، عرف فى ذلك الوقت ب«وباء القطعان»، الذى تسبب فى انتشار الأمراض المختلفة بين المصريين وهم يعانون من انعدام الخدمات الصحية فكانت مساهمتها فى علاج بعض الحالات هى سبب شهرتها الأوسع بين المصريين، ووصل الأمر بأن يأتى إليها الناس من بلاد بعيدة أملا فى الشفاء. لم تنكر جوردون حالات الكسل وعدم التحضر لدى بعض الفقراء، ولكنها التمست لهم الأعذار فهم يعيشون فى مجتمع غير متمدن تحت سلطة حاكمة تسلبهم حقوقهم. وفى هذا الجزء وعلى الرغم من افتقاد مظاهر التحضر تقف أمام دور المرأة المصرية ومدى قوتها. كما أكدت حقيقة كانت غائبة عن الغرب فى ذلك الوقت وهى وجود فئات قليلة حصلت على قدر وافر من التعليم والثقافة والوعى الذى يزيد من معاناتهم؛ حين لا يملكون حيلة أمام مشكلات مجتمعهم، بالإضافة إلى النظرة المتعالية، وإنكار من قبل السلطة الحاكمة والطبقات الثرية. تمتعت جوردون بمحيط اجتماعى متنوع من قناصلة وأسر إنجليزية كانت تعيش فى مصر، ومشايخ عرب، لكن ستظل أهم هذه المعارف المؤثرة فى حياتها علاقتها بالشيخ «يوسف أبو الحجاج»، فقد وصفته فى الرسائل بدقة تستطيع أن ترى من خلال شخصيته المستنيرة صورة لكل من عبدالله النديم، قاسم أمين، رفاعة الطهطاوى والشيخ محمد عبده الذين قادوا الحركة الثورية التنويرية فى مصر. الشيخ يوسف كانت بوابة عبورها إلى الانخراط فى المجتمع حين علمها اللغة العربية، وطلب منها أن تعلمه الأحكام الدينية للأقباط فى الزواج والميراث، وتعرفت من خلاله على أهم الطقوس والاحتفالات الدينية التى يعيشها المسلمون والمسيحيون على حد سواء؛ مثل الاحتفال بالشهيد مارى جرجس فكتبت عن محبة المصريين له: «واضح أن مارى جرجس مثل آمون رع إله الشمس، لا يزال موقرا فى مصر بين كل الطوائف». فلم تجد هنا فرق بين مسلم ومسيحى، وهى حقيقة أثبتها الشيخ يوسف فعلا وقولا: «لقد كشف الله عن عقيدته عن طريق الأنبياء، ولن أحصل على شىء أكثر بركة من الفضائل التى جاء بها السيد المسيح، وإذا حصلت على واحدة منها لن أبتعد عنها أبدا». وتزيح الستار مرة أخرى عن أحد الأكاذيب التى عاشها المصريون فى عهد الخديوى إسماعيل وهى أن يحول مصر إلى قطعة من أوروبا، مشروع قام على ظلم المصريين واستنزاف ممتلكاتهم، كما أوضحت فى قولها: «تحت شعار مثل باريس، شوارع طويلة عسكرية صارت تخترق قلب القاهرة، صودرت أملاك الملاك وانتهت، ومالكوا البيوت الصغيرة أجبروا على هدمها وبناء منازل جديدة بواجهات جديدة على الشارع على الطريقة الفرنسية، لا يسكنونها ولا يبيعونها». بالوصول إلى هذا الجزء حتما ستتوقف أمام أسلوب كتابة الرسائل الذى جاء متحررا من قيود الكتابة، أو كما قال عنها الروائى الإنجليزى جورج ميريديث: «لقد كتبت كما كانت تتكلم»، والأمر الذى ساعد على وضوح هذا الأسلوب هو دقة الترجمة، والترتيب الدقيق للرسائل وفقا للتاريخ، بالإضافة إلى الأسلوب القصصى الذى أضفاه الكاتب إبراهيم عبدالمجيد على الرسائل؛ فتقرأ وكأنك تسمعها تتحدث، وتشاهد لوحة للمجتمع المصرى رسمت بالكلمات. بنهاية الرسائل تكتشف أن مئات الصفحات لا تكفى لمناقشة القضايا التى تضمنتها، لذلك لن يشبع فضولك عزيزى القارئ سوى قراءة رسائل من مصر الذى أبحر فى فترة مهمة من التاريخ الحديث، وكشف عن حقائق غائبة لم تذكرها كتب التاريخ، فتنتابك مجموعة من المشاعر المتضاربة؛ حزن لفراق حكايات لوسى جوردون، وفقدان هذه الصورة السمحة للمجتمع المصرى، وفرحة بأن لك هذا التاريخ، تلك الفرحة التى عبر عنها الكاتب إبراهيم عبدالمجيد فى مقدمة الكتاب: «أبكانى الكتاب أكثر من مرة وأمتعنى غاية المتعة وأنا أرى الحياة البسيطة للمصريين خالية من كل تعصب بين الأديان، وهو ما افتقدناه فيما بعد منذ السبعينيات اللعينة فى القرن الماضى».