تفاصيل إطلاق البث التجريبي للمنصة الإلكترونية الموحدة لتراخيص الاستثمار    10 أعوام شهدت أبرز محطاته.. «الوزراء» يقر تعاون الجهاز القومي في مراكز التسريع للاتحاد الدولي للاتصالات    القسام تعلن استهداف دبابة ميركافا صهيونية بقذيفة الياسين 105    برشلونة يرد على توقيع عقوبات ضده من يويفا في دوري أبطال أوروبا    مصدر ليلا كورة: الزمالك يتوصل لاتفاق لفسخ عقد نداي    تايمز: ليفربول لم يتلق أي عروض ل لويس دياز.. ولا ينوي بيعه حاليا    مفاجأة، «ثقافة الأقصر» قدمت طلبًا لمد فترة تطوير «منطقة التنقيب»    رئيس الوزراء: إزالة تداعيات ما حدث بالإسكندرية تمت فى أقل وقت ممكن    طريقة عمل المكرونة المبكبكة، أسرع أكلة من المطبخ الليبي    لحظة تفجير جسر كيرتش بين القرم وروسيا ب2400 رطل من المتفجرات زُرعت تحت الماء (فيديو)    إسرائيل تخطف صيادا في مياه لبنان الإقليمية بالبحر المتوسط    إصدار عملة تذكارية احتفالاً باليوبيل الذهبي لإنشاء جامعة الزقازيق    البنك المركزي: ارتفاع صافي الاحتياطيات الدولية إلى 48.526 مليار دولار بنهاية مايو 2025    الجيل الخامس ينتشر في مصر مساء اليوم عقب الإعلان الرسمى عن إطلاق الخدمة    جامعة مصر للمعلوماتية توقع اتفاق تعاون مع جامعة «لانكستر» البريطانية    «الداخلية» تكشف حقيقة فيديو محاولة اختطاف فتاة داخل «توك توك» بالفيوم    مسرح الهوسابير يستقبل عيد الأضحى بعروض للأطفال والكبار.. تعرف عليها    يوم عرفة.. طريقة الاستعداد وأفضل الأعمال والأدعية المستحبة    نقلوني عشان سافرت الحج.. الشيخ محمد أبو بكر يعلق على قرار نقله للوادي الجديد    تموين الإسكندرية: توريد 71 ألف طن قمح حتى الآن    رئيس جامعة القاهرة يتفقد الامتحانات بكليات الاقتصاد والعلوم السياسية والآداب والإعلام    صحة الإسكندرية ترفع حالة الطوارئ وتؤكد جاهزية الأقسام الحرجة استعدادا لعيد الأضحى    هيئة الرعاية الصحية تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    محافظ بني سويف يتفقد سير العمل في مركز نقل الدم بشرق النيل    طرح البوستر الرسمي لفيلم "آخر راجل في العالم"    حسام حبيب: مشكلة جودة أغنية "سيبتك" قد يكون بسبب انقطاع النت أو الكهرباء    «بن رمضان» في مواجهة توانسة الأهلي.. الأرقام تحذر معلول    إنتر ميلان يفتح قنوات الاتصال مع فابريجاس لتدريب الفريق    رئيس "الشيوخ" يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة عيد الأضحى    شيخ الأزهر يهنئ الأمة الإسلامية بعيد الأضحى ويطالب المجتمع الدولي بوقف غير مشروط للعدوان على غزة    مها الصغير تتقدم بشكوى رسمية ضد مواقع إخبارية    ما تفاصيل مشروع قرار مجلس الأمن المرتقب بشأن غزة؟    مجلس الوزراء يوافق على اتفاقية مع الاتحاد الدولي للاتصالات لتحقيق التنمية الرقمية    «بيحبوا المغامرة».. 4 أبراج تستغل العيد في السفر    وزير الثقافة ل«الشروق»: لا غلق لقصور الثقافة.. وواقعة الأقصر أمام النيابة    بالصور.. تامر حسني يتألق بحفل عالمي فى ختام العام الدراسي للجامعة البريطانية.. ويغني مع محمد ثروت "المقص"    زلازل وعواصف وجفاف.. هل تستغيث الأرض بفعل تغيرات المناخ؟    الإسكندرية ترفع حالة الطوارئ بشبكات الصرف الصحي استعدادًا لصلاة عيد الأضحى    ارتفاع تدريجي ل درجات الحرارة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس يوم عرفة (تفاصيل)    مد فترة التشطيبات.. مستند جديد يفجر مفاجأة في واقعة قصر ثقافة الطفل بالأقصر    نجم الزمالك السابق يحذر من خماسي بيراميدز قبل نهائي الكأس    بورتو منافس الأهلي يكشف عن زيه الاحتياطي فى مونديال الأندية.. فيديو    أول تحرك من «الطفولة والأمومة» بعد تداول فيديو لخطبة طفلين على «السوشيال»    رئيس هيئة النيابة الإدارية يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة عيد الأضحى المبارك    تزايد الضغط داخل مجلسي الكونجرس الأميركي لتصنيف جماعة الإخوان "إرهابية"    بالأسماء.. 58 مركزًا لإجراء فحوصات المقبلين على الزواج في عيد الأضحى    «جبران»: قانون العمل الجديد يرسخ ثقافة الحقوق والحريات النقابية    مسابقة لشغل 9354 وظيفة معلم مساعد مادة «اللغة الإنجليزية»    سيد رجب يشارك في بطولة مسلسل «ابن النادي» إلى جانب أحمد فهمي    «مباشرة لا عن طريق الملحق».. حسابات تأهل العراق ل كأس العالم 2026    تحرير 911 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    أنشطة ثقافية ومسرح وسينما فعاليات مجانية لوزارة الثقافة فى العيد    «اللهم املأ أَيامنا فرحًا ونصرًا وعزة».. نص خطبة عيد الأَضحى المبارك 1446 ه    أيام الرحمة والمغفرة.. ننشر نص خطبة الجمعة المقبلة    زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على واردات الصلب والألمنيوم إلى 50% تدخل حيز التنفيذ    موعد إعلان نتيجة الصف الثالث الإعدادي 2025 في الجيزة ترم ثاني    كامل الوزير: انتقال زيزو للأهلي احتراف .. وهذا ما يحتاجه الزمالك في الوقت الحالي    «الإفتاء» تنشر صيغة دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إذا سقطت الأعمدة فالبرىء ماذا يفعل؟
نشر في الشروق الجديد يوم 25 - 10 - 2009

سقط عمودان من أعمدة الثقافة الحقيقية والفاعلة خلال أقل من شهرين، محمود عوض ومحمد السيد سعيد.. والسؤال الذى يأتى إلى الذهن، هل هذا من سوء حظ مصر؟! فهذه النوعية من المثقفين نادرة جدا هذه الأيام. والمثقفون المطروحون على الساحة إما مثقفو السلطة، الذين يبررون جميع القرارات بلا استثناء، أو مثقفو التوجهات الدينية المتطرفة، والذين يحاولون فرض نوعية معينة من الثقافة. يبررون أن الماضى أفضل من الحاضر والمستقبل، وأن على مصر العودة إلى السلف الصالح وكلما تقدم الزمان بمصر أو العالم زاد الجهل والانحراف..إلخ؛ أما النوعية الثالثة من المثقفين فهم الذين يحاولون القيام بعمل مصالحة بين الدين والعلم والثقافة، وهى محاولات فاشلة.
المثقفون الحقيقيون هم الذين يعملون على تثقيف الناس وإصلاح المجتمع بقلب ناصع البياض وبشفافية لا تجذبهم مناصب ولا تزغلل أعينهم امتيازات. إنهم مثقلون بحب الوطن ويعملون بكل جهد واجتهاد على تقدمه فى جميع المجالات. ولأنهم ندرة لذلك تجدهم دائما مضطهدين من الأكثرية. ولقد كان من أبرز هذه النوعية محمود عوض ومحمد السيد السعيد، ولقد تربينا على مقالات وتوجهات محمود عوض فى السبعينيات. كنت فى ذلك الوقت أعيش بصعيد مصر، وكنا ننتظر مقالاته فى الصفحة الأخيرة من أخبار اليوم ونجد أنفسنا فيها، بل نتثقف شكلا ومضمونا. عادة كان مضمون مقالاته عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت صياغات مقالاته أكثر من رائعة تنساب فيها الكلمات والأفكار فى سلاسة ومنطق، إلا أننا توجعنا بانقطاع هذه المقالات وسمعنا أن رئيس التحرير الأصغر منه سنا وثقافة والذى فرض على أخبار اليوم لظروف معينة منعته من الكتابة. ولم يكن لى حظ لقاء محمود عوض ولكنى كنت أتتبع أخباره إلى أن قرأت نبأ نعيه فى الصحف منذ ما يقرب من خمسين يوما. وقد حزنت حزنا شديدا وتمنيت لو كنت استطعت أن ألتقى به وأجلس إليه، لكن الذين كتبوا عنه من أصدقائه ومعارفه جعلنى أندم على عدم لقائه، وأكدوا لى أن الصورة التى كانت فى ذهنى عنه من مقالاته هى صورة صحيحة وواقعية وليست مبالغة من الخيال.
فى بداية الثمانينيات انتقلت إلى القاهرة، وكان من حسن حظى أن أتعرف على مركز الدراسات السياسية الاستراتيجية بالأهرام من خلال مشروع (الحالة الدينية فى مصر) الذى كان يشرف عليه نبيل عبدالفتاح. كانت لنا جلسات عدة فى مبنى الأهرام وهناك تعرفت على محمد السيد السعيد. ومن أول جلسة لاحظت أن هذا الرجل مختلف، كان هادئ النبرة فى حديثه وليس كباقى المثقفين المنفعلين، لكن تحت هذا الهدوء كان يحمل عمقا شديدا فى الفكر وثورية لا تخطئها العين فى التوجه. توطدت بيننا صداقة حميمة، حيث التقينا فى ندوات حول حقوق الإنسان ثم فى مشروع الإشراف على الانتخابات فى التسعينيات، وأستطيع القول إن هذا الرجل كان من النوعيات النادرة والمختلفة من المثقفين وذلك لعدة أسباب:
كان يحمل قلب طفل وعقل فيلسوف.
عندما كنا نجلس معا ويتحدث إلينا محمد مدليا برأيه فى قضية ما، كان حديثه حديث الفلاسفة. فهو يتحدث عن أصول المسألة، ثم تطورها عبر الزمن، ثم تداعياتها والموقف الذى يمكن اتخاذه اليوم من تلك القضية. وبمجرد أن ينتهى ويحاول أحدهم السخرية من أى جملة قالها، يضحك معه على نفسه كطفل صغير. كانت الأشياء الصغيرة تسعده جدا. إن قدمت له وردة أو فكرة لم تخطر على باله فى موضوع ما يفتح عينيه سعيدا ببراءة الأطفال، ولا يمكن أن تحس أن هذا الطفل الذى أمامك هو الذى شرح فأطنب، وفسر فأبدع.
كان متصالحا مع نفسه والآخر.
لم أشعر معه فى يوم من الأيام أنه يعانى من أى عقدة نفسية أو اجتماعية، كان مظهره بسيطا جدا لا يهتم بالمظهر ولكن جل اهتمامه بالجوهر. لم يدع يوما أنه أفضل من فلان أو علان، وإذا جاملته بكلمة كان وجهه يحمر خجلا حقيقيا وليس مصطنعا. عندما دخلت إلى مكتبه لأول مرة لاحظت أنه يضع صورة للعذراء وآيات من الكتاب المقدس تدعو إلى الحكمة والعلم، ومخافة الله لم نتحاور يوما حول أمور دينية. لقد كان صافى النفس متصالحا مع العالم كله وليس لديه أى تحفظ على دين أو طائفة أو مذهب، وقد كان يقبل الجميع وبصدق شديد.
كان أكاديمى التفكير شعبى التعبير
من أكثر ملامح محمد السيد سعيد تفردا، أنه استطاع وضع أصعب الأفكار الأكاديمية فى لغة شعبية بسيطة. فهو يفكر بطريقة علمية خالصة، لكنه يضع ما يفكر فيه بأسلوب يستطيع الإنسان العادى أن يفهمه ويستوعبه دون جهد، لذلك كانت له شعبية من الكثير من الناس العاديين، وهو ما يفتقده معظم الأكاديميين. ولقد كانت كلماته تثير الحماسة والغيرة على الوطن بحيث كان كل من يسمعه فى ندوة أو محاضرة يمتلئ بشجاعة المواجهة، ولم يتردد يوما فى أن يتحدث لأبسط الناس عن أفكاره الصعبة.
كان فارسا صعب المراس وسهل البكاء.
كان على استعداد دائم للدفاع عما هو مقتنع به حتى الموت. لم يكن يتراجع أبدا أمام طغيان حاكم أو سطوة سلطة. لم ينحن فى يوم من الأيام لغير الله. حكى لنا يوما أنه قبض عليه بتهمة تشجيع إضراب العمال، وكيف أنه أهين وعذب فى السجن لكنه لم يذرف دمعة واحدة، وحكى لنا يوم قدم تصوره مكتوبا عن الإصلاح للرئيس أثناء لقاء الرئيس بالمثقفين ولم يعره اهتماما، إلا أن رجال الرئيس المحيطين به أخذوا الأوراق منه رفعا للحرج. لكنه كان يبكى لو جاءه إنسان يشكو حاله وقلة حيلته أو مرضه، وهكذا كانت دمعته مع هؤلاء قريبة جدا ومع مضطهديه وجلاديه بعيدة جدا.
كان بركانا متفجرا تحت سطح هادئ.
لقد كان سعيد يحمل بركانا فى داخله بركان الوطنية وحقوق الإنسان. وكان هذا البركان يغلى بقوة وحممه تحرقه من الداخل، لكن لم يسمح أبدا بهذا البركان أن ينفجر فى وجه أحد حتى أقرب الناس إليه. لم يعبر عن نفسه فى يوم من الأيام بصورة عنيفة تحطم وتحرق من أمامه بادعاء الثورة. كان يتحكم فى أعصابه ويعبر عما يجول فى خاطره بشكل هادئ وهو مبتسم، لذلك كان دائما يكسب الجولة لم يسئ فى حياته التعبير ضد شخص أو جماعة.
عندما علمت أنه صار رئيسا لتحرير البديل اتصلت به لتهنئته، ثم التقينا بعدها بقليل فى إحدى المناسبات، فطلب منى أن أكتب فى الجريدة وحدثته يومها عن تجربتى فى الإدارة عندما عملت كمدير لإحدى المؤسسات، وقلت له رغم نجاحى فى إدارة المؤسسة إلا أننى أحسست أن هذه الإدارة قد أخذتنى من متعة الخيال والفكر إلى التعامل مع موظفين وحمل هم الميزانيات والأزمات وضغوط رجال المؤسسة فى السياسة التى أريد اتباعها. ابتسم فى هدوء قائلا بالعكس، بالنسبة لى فسوف أكتب ما أريد قوله بالطريقة التى أريدها وبالحجم الذى أريده.
وهكذا فقدت مصر عمودين أساسيين فى وقت عزت فيه الأعمدة القادرة على حمل السقف من الانهيار. فى قصيدة شعر للملك والنبى داوود من كتاب المزامير (الزابور) يقول: «إذا سقطت الأعمدة فالبرىء ماذا يفعل؟».. والمقصود بالبرىء هنا أو الأبرياء هم عامة الشعب الذين يعيشون تحت سقف الوطن ولا يدركون السياسة أو الاقتصاد.. ويعتمدون فى حياتهم ومستقبلهم على تلك الأعمدة التى تحمل السقف وتظلل عليهم. والتعبير (الأعمدة) كناية عن القيادات الواعية والمتميزة والأمينة التى تعلم هؤلاء الأبرياء الصحيح من الخطأ والأخلاقى من غير الأخلاقى، ترى ماذا يفعل البرىء بعد سقوط العمودين؟! سؤال دون إجابة، يواجهنا اليوم عزيزى القارئ بعد فقداننا لمحمود عوض ومحمد السيد سعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.