المتحف البريطانى متحف موسوعى، وهم قلة فى العالم. موضوع المتحف هو كيف عاش الإنسان ويعيش، وكيف بنى الحضارة، والمتحف ملتزم بأن يكون الدخول إليه مجانيا. يأتيه نحو سبعة ملايين زائر كل عام، ويحتل مكانة متفردة فى وعى الأمة وربما فى وعى العالم. ومنذ أيام، قدمت استقالتى من مجلس أمنائه. لم تكن استقالتى بسبب مسألة واحدة، بل كانت استجابة تراكمية لما لمسته من جمود المتحف إزاء قضايا محورية فى اهتمامات من يفترض أن يكونوا ضمن جمهوره الأساسى: الشباب، وأصحاب الحظ الأقل. المؤسسات الثقافية العامة عليها مسئولية كبيرة، ليس فقط مسئولية مهنية، وإنما مسئولية أخلاقية، تُظهرها فى المواقف التى تتخذها من القضايا الأخلاقية والسياسية الكبرى. عالمنا اليوم مشتبك فى صراعات حول التغير المناخى، وحول التفاوت الرهيب فى أوضاع البشر الاقتصادية، وحول تراث ومخلفات عصور الاستعمار، وحول تساؤلات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. والمتحف عليه أن يأخذ من كل هذه القضايا موقفا أخلاقيا واضحا. *** فى أوائل عام 2016 أثرت مع مدير المتحف، ومع رئيس مجلس أمنائه، وفى المجلس أيضا، إشكالية قبول المتحف المبلغ المالى الذى تقدمه شركة بريتيش بتروليوم كل عام لدعم معرض ثقافى أو تاريخى مهم، وما يتيحه هذا للشركة العملاقة من مظهر إيجابى فى الساحة الثقافية. وكان درسا لى أن وجدت أن تواطؤ المتحف فى «غسل وجه» شركة البترول لا يثير أى قلق عند من حادثتهم ويستمر هذا بالرغم من تعاظم الاحتجاجات التى يأتى بها نشطاء حماية البيئة إلى داخل المتحف وتفننهم المبدع فى ابتكار أشكال فنية لها تكسبها قبولا كبيرا عند الزوار. المتحف بهذه الشراكة يقدم لبريتيش بتروليوم كسبا ضخما ومتفردا فى العلاقات العامة، وفى المقابل فالدعم المادى الذى تقدمه الشركة للمتحف ليس بالحجم الذى يصعب معه الحصول عليه من مصدر آخر. وبالتالى، فأنا لا أرى سببا لحرص المتحف على هذه العلاقة والتى أعاد منذ أيام إعلان تمسكه بها إلا أن يكون الحرص على ألا يُنَفِّر قطاعا من عالم الأعمال، وأن هذا الاعتبار له من الثقل ما يغلب القلق العاجل والمشروع حول أثر شركات البترول على البيئة والذى يُعَبِّر عنه الشباب فى العالم كله بما فى ذلك تلامذة المدارس الذين هم جمهور طبيعى للمتحف. فى يناير 2018 أشهرت شركة كاريليون العملاقة وهى شركة تقديم خدمات إفلاسها. كان المتحف قبل خمس سنوات قد أحال إلى كاريليون 139 عاملا هم عمالته للنظافة والكافيتريات والبريد وغير ذلك من الخدمات. وحين أفلست كاريليون كانت قد تخلصت من الكثيرين منهم وتبقى فقط ستون. ظل الستون يأتون إلى العمل أثناء «تفليسة» كاريليون. بعضهم كان قد عمل فى المتحف عشرين عاما قبل أن يحال إلى «المخدم» الضخم، وكانوا يريدون العودة مُعَيَّنين على قوة المتحف. وفى ذلك الوقت، فى مواقف مشابهة، أعادت بعض المؤسسات مثل القصور الملكية التاريخية، ومركز الساوث بانك الثقافى تعيين عمالها. المتحف البريطانى رفض التفاوض مع العمال أو حتى الاستماع لهم. بدأت حوارا مع زملائى فى مجلس الأمناء حول الموضوع لكن تم إغلاقه على وجه السرعة. وفى نوفمبر 2018، تم إطلاق تقرير فرنسى طلبه الرئيس ماكرون وقام به باحثان أكاديميان، وكان تقرير راديكالى أوصى بإعادة كل الآثار الإفريقية الموجودة بالمتاحف الفرنسية إلى بلادها. وقد فجّر هذا التقرير نقاشا كان يجرى حثيثا حول إشكالية ملكية / الحفاظ على / إعادة المقتنيات التراثية، فنزل إليه المتاحف وممثلو الحكومات والمثقفون والصحفيون فى العديد من البلاد. والمتحف البريطانى وليد وربيب الإمبراطورية وممارسات الاستعمار، وهو محط الأنظار والترقب، وهو بالكاد ينطق. إن المتحف فى موقع متفرد، يتيح له أن يدير نقاشا، عصفا ذهنيا عالميا حول أمور مثل علاقة الجنوب بالشمال، حول الأرض المشتركة وإرث الإنسانية وروابط التاريخ وأغلاله. ما هى رسالة المتحف إلا أن يساعد العالم على استشراف عالم أفضل؟ وفى الطريق، أثناء النقاش والجدل، ربما ندرك شيئا عما لا يستطيع إلا متحف موسوعى ضخم عريق تقديمه للبشرية، وربما يساهم هذا بعض الشىء فى تبرير احتفاظه بمقتنياته فى لندن. لكن مصداقية المتحف فى إدارة هذا النقاش ستعتمد أيضا على اتخاذه موقف أخلاقى واضح يضعه فى موقع الحليف للأجيال القادمة. *** المتحف يقوم بعمله المهنى على أكمل وجه، فالقيمون على المقتنيات من أكثر المهنيين فى العالم تميزا فى مجالاتهم، والأبحاث التى ينشرها المتحف مذهلة فى اتساعها وعددها وصرامتها، والمتحف قد أقام شبكة حيَّة من أمناء المتاحف حول العالم من خلال برنامج التدريب العالمى الذى دشنه منذ 13 عاما، كما ساهم فى تأسيس مشروع «الأعمال الفنية الدائرة» والذى يساعد فى التعرف على الأعمال المسروقة وتتبعها حال ظهورها فى السوق، وفى مصر له دور كبير فى مشروع الحفاظ على متحفنا الفريد فى ميدان التحرير، كما أن المتحف قد بادر إلى مشروع ضخم لإعادة صف أو عرض مقتنياته لتحكى حكاية أكثر إنصافا عن عالم أكثر تداخلا ولكن، وفى النهاية، فإن أى حكاية يختار المتحف أن يحكيها سيراها الناس ضمن إطارها الأوسع: كيف يدير المتحف حياته: من أين يأتى بما يصرف، كيف يعامل عمالته، ما هى الهيئات والنظم التى تتخذها زميلة أو رفيقة درب؟ إن المتحف البريطانى ليس خيرا مطلقا فى حد ذاته؛ هو خيرٌ فقط بالدرجة التى يؤثر بها تأثيرا خيِّرا على العالم. ومقتنياته المأثورة هى نقطة انطلاق، هى فرصة، هى أداة. هل سيستعملها المتحف ليؤثر بالخير فى مستقبل كوكبنا وسكانه؟ أم سيستمر فى تكريس المكاسب الاستعمارية وتحصين وتجميل الشركات العملاقة؟ المدارس تأتى بالأطفال إلى المتحف هم نفس الأطفال الذين يعيشون الآن قلقا وجوديا بسبب التغير المناخى؛ كيف يستجيب الأطفال لشارة بريتيش بتروليوم الضخمة تهيمن على أهم المعارض؟ ماذا يعنى أن تكون سياسات العِمالة عند متحف يصر على أنه «للجميع» سياسات تدفع بالعمال إلى حياة غير آمنة ومتذبذبة اقتصاديا؟ المتحف البريطانى مشيد على مقتنيات تُبَيِّن كيف تشكل العالم ثم عاد وتشكل ثانيا وثالثا عبر التاريخ؛ هل سيساهم الآن فى تشكيل عالم عادل مترابط مفتوح عالم يسمح باستمرار الحياة للأجيال القادمة، أم سيستمر فى التعاون مع أولئك الذين يفككون هذا العالم ويدمرونه أمام أعيننا؟ حزنت للاستقالة؛ حزنت لوصولى إلى الاقتناع بأن هذا هو الفعل الأكثر فائدة المتاح لى. كاتبة