تعرف على كيفية ضبط ساعتك على الوقيت الصيفي    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    التحالف يتصدى لصاروخ باليستي مضاد للسفن أطلقه الحوثيون    هل يبيع الزمالك زيزو لحل أزمة إيقاف القيد؟.. عضو الأبيض يكشف التفاصيل    مواعيد أهم مباريات اليوم الخميس 25- 4- 2024 في جميع البطولات    حالة الطقس غدًا.. أمطار رعدية ونشاط الرياح المثيرة للرمال والأتربة    تغير مفاجئ في حالة الطقس.. «الأرصاد» توضح سبب انخفاض درجات الحرارة    رحلة عطاء فنية| الاحتفاء بالفنان الراحل أشرف عبد الغفور بالمسرح القومي    فريد زهران: «رقمنة» دار الكتب الحل الجذري لاستيعاب زيادة عدد الناشرين    وفاء وايتن عامر في حفل زفاف ابنة بدرية طلبة    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    تجربة بكين .. تعبئة السوق بالسيارات الكهربائية الرخيصة وإنهاء الاستيراد    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    الهلال الأحمر يوضح خطوات استقبال طائرات المساعدات لغزة - فيديو    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    يسرا اللوزي تكشف كواليس تصوير مسلسل "صلة رحم"|فيديو    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    ثلاثة منتجات توابل مستوردة من الهند تسبب السرطان.. ما القصة؟    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    لبنان.. طيران إسرائيل الحربي يشن غارتين على بلدة مارون الرأس    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    الآن.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بعد آخر انخفاض    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    وزير الرياضة يتفقد استعدادات مصر لاستضافة بطولة الجودو الأفريقية    خبر في الجول – الأهلي يتقدم بشكوى ضد لاعب الاتحاد السكندري لاحتساب دوري 2003 لصالحه    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أخبار الفن|طلاق الفنان أحمد جمال من زوجته سارة قمر.. وشريف منير يروّج ل«السرب».. وهذه الصور الأولى من زفاف ابنة بدرية طلبة    مصير مجهول ينتظر "مؤتمر المصالحة الليبية" ..تحشيد عسكري روسي وسيف الإسلام مرشحا للقبائل !    مراقبون: فيديو الأسير "هرش بولين" ينقل الشارع الصهيوني لحالة الغليان    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    «زي النهارده».. بداية الحرب الأمريكية الإسبانية 25 إبريل 1898    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    تجديد اعتماد كلية الدراسات الإسلامية والعربية ب«أزهر الاسكندرية»    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب «بلا منازع»: لماذا ستبقى أمريكا القوى العظمى الوحيدة فى العالم (2)
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 06 - 2019

الولايات المتحدة ستظل تمتلك قدرات أفضل عسكريا واقتصاديا وتقنيا حتى نهاية القرن الحالى
القوة النسبية للأمم يجب أن تكون بحساب «صافى» الثروة الاقتصادية والإمكانات العسكرية وليس بإجمالى قدراتها
الصين هى البلد الوحيد فى العالم الذى يمكن أن يضارع الولايات المتحدة من حيث صافى المصادر والقدرات
روسيا غير مؤهلة لمنافسة أمريكا لا من حيث الحجم ولا من حيث الكفاءة
«البنتاجون» توقع مقتل 2500 جندى أمريكى فى حرب تحرير الكويت ولم يفقد سوى 240 بسبب سوء تقدير اعتمد طرقا قياسية تقليدية
الفيتناميون هزموا الأمريكيين بسبب قدرتهم على تحمل المعاناة وليس لأنهم كانوا أقوى من الولايات المتحدة
بريطانيا هزمت الصين التى كانت أكبر قوة اقتصادية وعسكرية فى القرن ال 19 بفضل الكفاءة والتطور
فى الحلقة الأولى من عرض كتاب: «بلا منازع، لماذا ستبقى أمريكا القوة العظمى الوحيدة فى العالم؟» لمؤلفه «مايكل بيكلى»، تناولنا شرح الموضوع الأساسى للكتاب والذى يناهض فكرة العديد من الباحثين والمفكرين فى واشنطن وغيرها، بأن أيام الولايات المتحدة على رأس الكوكب الأرضى صارت معدودة، باعتبار أنها تشهد منذ سنوات تراجعا سريعا فى نواحٍ كثيرة، ذلك أن «بيكلى» يرى أن الولايات المتحدة ستظل هى القوة المهيمنة فى العالم حتى نهاية القرن الحالى على الأقل، استنادا إلى منهج مختلف يقيس القوة النسبية للأمم من خلال حساب «صافى» الثروة الاقتصادية والإمكانات العسكرية لكل دولة، وليس باحتساب اجمالى القدرات الاقتصادية والعسكرية، ففى حين تتجاوز دولٌ أخرى عدد سكان الولايات المتحدة وتتفوق عليها من حيث عدد الجنود أو الناتج الاقتصادى، إلا أن أيا منها لا يقترب فى المحصلة النهائية من عناصر القوة الأمريكية التى ستظل تمتلك قدرات أفضل عسكريا واقتصاديا وتقنيا لعقود أخرى قادمة خاصة على الصين التى تعد أقرب منافسيها.
فى هذه الحلقة، نستعرض أطر قياس القوة المتبعة حاليا من قبل معظم مراكز البحث والتفكير فى العالم، والتى يراها الكاتب لا تعبر بصدق عن القوة الحقيقية للدول، والإطار الجديد للمؤلف، وفقا للمنهج الذى يتبعه ويرى أنه يقيس بشكل أكثر دقة الأعمدة الحقيقية للدول مستندا إلى دلائل ومقارنات تاريخية، ومن ثم استخدامه فى تقييم الاتجاهات الحالية والمستقبلية للقوى العظمى القائمة حاليا والانعكاسات المترتبة على السياسات العالمية.
الموضوع:
يحدد «مايكل بيكلى مفهوم القوة، فيقول إن المؤشرات القياسية الاعتيادية تُبالغ عادة من قوة الدول كثيفة السكان؛ لأنها تتجاهل ثلاثة أنواع من التكاليف التى تستنزف مصادر وموارد الدولة الاقتصادية والعسكرية وهى:
تكلفة الانتاج:
وتتمثل فى نفقات إنشاء وتشييد مشاريع اقتصادية، كما تشمل استهلاك المواد الخام، فضلا عن العوامل السلبية التى يتسبب فيها الإنتاج كالتلوث.
التكاليف الاجتماعية:
وهى تلك التى تتحملها الدولة لحماية شعبها من الموت مثل نفقات الرعاية الاجتماعية ونفقات توفير الطعام للسكان ونفقات الرعاية الصحية ومتطلبات التعليم والتأمينات الاجتماعية.
تكاليف الأمن:
وهى نفقات وأثمان تدفعها الدولة لحماية أمن مواطنيها.
ويوضح «بيكلى» أنه طوال تاريخ الإنسانية وحتى اليوم، تستنزف هذه النفقات كميات هائلة من القدرات الاقتصادية والعسكرية فى دول العالم، ولهذا يرى أنه ينبغى على المحللين والدارسين خصم هذه التكاليف قبل حساب ميزان قوة كل دولة لأن المنهج الأكثر شيوعا بينهم لقياس القوة غير دقيق.
أعمدة القوة:
يشرح «بيكلى» أن أعمدة القوة الرئيسة ترتكز على الموارد والمصادر الاقتصادية وفى القدرات العسكرية للدول، فالموارد الاقتصادية تستطيع أن تجلب أشكالا متعددة من النفوذ والتأثير حول العالم، عبر منح المساعدات والقروض؛ فضلا عن الاستثمار وتقديم الرشاوى، وكذلك فى تنشيط ودعم القوة الناعمة للدولة وتمويل حملات دعائية دولية وتشييد ناطحات سحاب ومبان عملاقة واستضافة معارض دولية وبطولات رياضية ذائعة الصيت، كما أن القدرات العسكرية المتمثلة فى عدد القوات ونوعية التسليح وغيرها، تُمكن الدولة من تدمير أعدائها وتشكيل تحالفات دولية وانتزاع تنازلات وابتزاز دول أخرى ضعيفة عبر عرض الحماية عليهم أو التهديد باستخدام القوة ضدهم.
ويفند المؤلف لماذا لا يمكن اعتماد قدرة الدولة على تحقيق النصر فى نزاع ما، معيارا ناجحا فى حساب القوة كما يميل بعض الباحثين، فمنهج قياس القوة بالنتائج يقود أحيانا إلى استنتاجات خاطئة، ذلك أن دولا ضعيفة يمكن أن تهزم خصوما أقوى منها عبر اتباع استراتيجيات ذكية، أو من خلال قدرتها على تحمل أثمان باهظة.
وخوض مخاطر كبيرة، فعلى سبيل المثال تمكن الفيتناميون الشماليون من إلحاق الهزيمة بالأمريكيين بين عامى (1965 1973)، ولكن سيكون من الصعب المحاججة بأن فيتنام الشمالية كدولة ناشئة بسكانها الفقراء، كانت أكثر قوة من الولايات المتحدة التى كانت قوى عظمى تمتلك آلاف الأسلحة النووية وباقتصاد قيمته 3 تليريونات دولار وقتذاك.
والتفسير الواضح لنتيجة الحرب هنا هو أن «للقوة حدودا» وأن فيتنام الشمالية هزمت الولايات المتحدة، ليس لأنها كانت أكثر قوة، ولكن لأنها كانت أكثر قدرة على تحمل المعاناة ومصاعبها ودفع أثمانها خلال سعيها لتحقيق أهدافها.
ولهذه الأسباب، استخدم «بيكلى» منهجا هجينا لقياس القوة، يمزج الموارد الاقتصادية بالقدرات العسكرية عبر مؤشرات أكثر دقة تأخذ فى حسبانها نتائج الصراعات والحروب وتتقفى أثر صعود وهبوط القوى العظمى فى الماضى وتتوقع من سيفوز وينتصر فى الحروب والنزاعات الدولية المستقبلية.
يشير المؤلف إلى طريقتين لقياس القوة، الأولى تعتمد على مؤشرات قياسية اعتيادية تقوم على احتساب اجمالى الناتج المحلى واجمالى النفقات العسكرية دون خصم التكاليف والنفقات، وبالتالى تبالغ فى تقدير قوة الدول كثيفة السكان؛ لأنها تضع فى اعتبارها مزايا القدرة على حشد عدد كبير من السكان فى الجيش أو حشدهم كقوى عاملة فاعلة، دون خصم تكاليف توفير طعام وخدمات وحماية لكل هؤلاء السكان.
ويضرب «بيكلى» مثلا هنا بدولة مثل «لوكسمبورغ»، فيقول إنها لن تكون أبدا دولة عظمى بسبب قلة عدد القوى العاملة بها وصغر حجم جيشها، ولكنه يضيف أنه فى المقابل لا يضمن العدد الضخم من السكان افراز قوة عظمى بشكل تلقائى، لأن السكان يساهمون فى انتاج المصادر والموارد، ولكنهم فى ذات الوقت يستهلكونها أيضا، فلا يتبقى إلا قليل من المصادر التى يمكن أن تستخدم فى تحقيق نفوذ عالمى أو فى بناء قوة عسكرية.
يعتبر بيكلى أن المؤشر الأكثر شيوعا فى قياس الثروة والقوة الاقتصادية للدول هو اجمالى الناتج المحلى الذى يسجل قيمة جميع السلع والخدمات المنتجة داخل بلد ما خلال فترة زمنية محددة والذى ظل على مدى الخمسين عاما الماضية هو مقياس النجاح والفشل لأى دولة، لكنه يحاجج بأن قليلا من الناس يعلمون أن هذا المؤشر يحسب ما تنفقه الحكومة والمستهلكون والشركات وغيرها داخل الدولة حتى لو كان هذا الانفاق بلا جدوى، كما ينتقد المؤشر لأنه لا يميز المؤشر بين التكاليف التى أُنفقت لإطعام الناس، وبين عوائد الأموال الناتجة عن بيع أجهزة سوبر كمبيوتر فى الأسواق العالمية، كما أن زيادة الانتاج تزيد من الناتج المحلى بصرف النظر، عما إذا كانت المنتجات تصدأ بالفعل على الأرفف ولا تباع عمليا، ونتيجة لكل ذلك تظهر الدول كثيفة السكان نشاطا اقتصاديا هائلا فقط لتوافر كل هذه السكان داخلها.
ولهذا، يرى المؤلف أن مثل هذه البيانات تعتبر مضللة وليست بمثابة مؤشرات حقيقية وهو يطالب المحللين والباحثين بخصم التكاليف ومن ثم قياس صافى الموارد والقدرات الاقتصادية، فيتم مثلا خصم تكلفة تقطيع الأشجار لصناعة مكاتب جديدة من حساب الناتج المحلى الاجمالى للدولة، وكذلك خصم تكلفة تشييد مدينة ومبان لاستضافة دولة ما لبطولة الأوليمبياد.
أيضا فإن معظم المحللين يقيسون القوة العسكرية باحتساب إجمالى عدد الجنود وتعداد الأسلحة والانفاق الدفاعى، فالصحفيون مثلا يركزون على النفقات الدفاعية، بينما يعتمد الأكاديميون مؤشر «القدرات القومية المركبة» الذى يدمج النفقات العسكرية مع بيانات عدد القوات وعدد السكان واستهلاك الطاقة والانتاج الصناعى خاصة الحديد والفولاذ معا. ويعتمد محللو وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون على إجمالى القوة البشرية والقوة النيرانية للأسلحة، فى حين يعتمد «مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية» والذى يقدم المشورة للرئيس فى التهديدات الأمنية بعيدة المدى الانفاق العسكرى وعدد القوات واجمالى الناتج الاقتصادى وحجم السكان، على اعتبار أن القوة العسكرية للدولة تعتمد فى نهاية المطاف على الفوز بحروب كبرى وهو ما يتطلب حشدا جيشا ضخما وقدرات اقتصادية كبيرة.
ولكن هذا كله من وجهة نظر الكاتب لا يمثل قياسا سليما، ففى الشئون العسكرية، المقصود بتكلفة الانتاج هو عدد الأصول والقدرات المطلوبة لانتاج مستوى معين من القوة وهى فى الأساس تعتمد على المهارة والتكنولوجيا والبعد عن الهدف، ذلك أن وحدات عسكرية تتشكل من أفراد ذوى مهارة ويمتلكون تكنولوجيا متفوقة ويُنفذون مهامهم من قواعد عسكرية قريبة من الهدف، سوف تستخدم قدرات أقل لإنجاز مهمتها مقارنةً بوحدات عسكرية أخرى ذات مهارة أقل، تمتلك تكنولوجيا متقادمة، تُنفذ مهامها من قواعد بعيدة عن الهدف.
وعلى سبيل المثال، استخدم مخططو البنتاغون عام 1990 مقارنات القوة العددية التقليدية، فتوقعوا مقتل 2500 جندى وإصابة 48 ألفا آخرين فى صفوف القوات الأمريكية والدول الحليفة إذا تم غزو العراق الذى كان يمتلك رابع أكبر قوة عسكرية فى العالم من حيث تعداد الجنود فى هذا الوقت، ومع ذلك فإن التحالف الذى قادته الولايات المتحدة عام 1991 انطلاقا من قواعد آمنة قريبة من مسرح العمليات، تمكن من تدمير الجيش العراقى، فقتل 35 ألف جندى عراقى ولم يخسر سوى 240 جنديا من كامل قوات التحالف، والسبب وراء سوء تقدير البنتاجون ما كشفته دراسة لاحقة أرجعت النتيجة غير المتوازنة للحرب إلى التفوق التكنولوجى والكفاءة لدى القوات الأمركية وهى عوامل افتقدتها القياسات القياسية التقليدية.
كما أن القياسات العسكرية الاعتيادية تتجاهل قيمة التكاليف الاجتماعية، فالميزانية العسكرية لدولة ما يتم تقديرها دون احتساب ما ينفق على القوات من غذاء وسكن وزى عسكرى ورعاية طبية ورواتب ومعاشات وهى تكاليف تستهلك ثلث اجمالى الميزانية العسكرية وقد تصل إلى النصف فى البلدان التى تمتلك جيوشا ضخمة خاصة عقب الحروب.
كما لا تخصم التقديرات الاعتيادية تكاليف الأمن الداخلى وحماية الحدود من قيمة ميزانياتها العسكرية بينما لا يجب احتساب الوحدات العسكرية المنوط بها هذه المهام ضمن القوة العسكرية الخارجية للدولة، ولهذا فإن خصم التكاليف الأمنية من ميزانية دولتين متماثلتين، يفرز مستويين مختلفين من القوة العسكرية إذا كانت إحداهما تعانى من عدم استقرار داخلى وتحيطها دول فى حالة عداء معها، مقارنةً بالدولة الأخرى التى تعيش فى حالة استقرار داخلى ولا تحيط بها عدائيات.
المقياس الأفضل لاحتساب القوة
يقول «مايكل بيكلى» إن هناك احتياجا لمقياس واحد يقيس كل من الحجم والكفاءة معا ومن ذلك ما اقترحه البعض من أن يكون هناك ناتج محلى إجمالى لكل شخص بما يُمَكن من قياس أفضل للكفاءة الاقتصادية والعسكرية، إذ يستخدم اقتصاديون هذا المؤشر لقياس التنمية الاقتصادية، لأن الدول الغنية غالبا ما تكون أكثر كفاءة وأكثر قدرة على الابتكار مقارنة بالدول الفقيرة، باستثناء تلك الدول التى تكون غنية بسبب توافر كميات هائلة من البترول فى أراضيها.
وتشير دراسات عسكرية إلى أنه كلما زاد نصيب الفرد من إجمالى الناتج المحلى لدولة ما، كلما كانت قواتها العسكرية أكثر كفاءة فى ميادين القتال، والسبب وراء ذلك، أن الاقتصاد المدنى النشيط يساعد الدولة على إنتاج أسلحة متطورة وتوفير تدريب متقدم لقواتها العسكرية وعلى إدارة نظم عسكرية معقدة.
وللوصول إلى مقياس يحسب «صافى» المصادر والقدرات المتاحة لدولة ما، اتبع المؤلف نموذجا يتم فيه تقدير وزن الناتج المحلى الاجمالى للدولة ونصيب الفرد من هذا الناتج عبر احتساب حاصل ضرب: الناتج المحلى الاجمالى (في) نصيب الفرد من هذا الناتج. وكما هو واضح، فإنه لا يقيس صافى المصادر والقدرات بشكل مباشر، كما أنه لا يعالج كل أوجه القصور فى المؤشرات السابق الاشارة إليها، لكنه يقدم اقترابا أفضل عن صافى مصادر وقدرات الدولة مقارنة بالمؤشرات الأخرى.
مقاربات تاريخية
يقول «بيكلى» إن نظرة موجزة على تاريخ سياسات العالم خلال القرنين الماضيين، تدعم ما يقوله بأن قوة الدولة هى نتاج ل «صافى» المصادر والقدرات لهذه الدولة، ولهذا أجرى بيكلى دراسات حالة للقوى العظمى المتنافسة ومدى تفوق دولة ما فى إجمالى ثروتها من مصادر وموارد، بينما تنافسها دولة أخرى تتفوق عليها فى صافى ثروتها بعد خصم التكاليف السابق الاشارة إليها. وركز المؤلف على المنافسات الجيو سياسية التى دامت لعدة عقود بين دولتين لقياس القوة النسبية للدولة وليس عبر حرب أو أزمة واحدة.
ووفقا للبيانات الأكثر شيوعا بين الباحثين، كانت هناك 14 قوة عظمى شهدها العالم منذ عام 1816 استمرت كل منها مدة 25 عاما على الأقل، كما اهتم «بيكلى» بالمقارنة بين دولتين يزيد الفارق بين اجمالى وصافى الثروة عن 20 نقطة وهو ما انطبق على عدد أقل من الحالات ال 14 السابق ذكرها.
بريطانيا ضد الصين
فى الفترة بين عامى 1839 وحتى 1911 بدت الصين باحتساب المؤشرات الإجمالية كقوة عظمى فى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ حيث كانت تستحوذ على أكبر ناتج اجمالى محلى فى العالم وأكبر قوة عسكرية حتى نهاية 1890 وثانى أكبر ناتج محلى وثانى قوة عسكرية فى العالم حتى ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن الصين عانت خلال هذه الفترة مما يوصف فى الأدبيات العالمية ب «قرن الخزى والإذلال»؛ حيث خسرت الصين مساحات ضخمة من أراضيها ومعظم حقوق السيادة خلال 12 حربا خاضتها على أراضيها وخسرتها جميعا، من بينها ما يعرف ب «حروب الأفيون» مع بريطانيا التى احتلت خلالها مدنا ساحلية صينية وكادت تسبب مجاعة فى بكين وانتهت بتأجير «هونغ كونغ» إلى بريطانيا ومنح المواطنين البريطانيين مزايا وإعفاءات وحصانة داخل الصين، فضلا عن احتلال بريطانيا أكبر ميناء فى الصين ومدينة تجارية تبعد عن بكين 100 كيلومتر.
لم تقاوم الصين هذا الغزو إلا قليلا؛ لأن قواتها العسكرية كانت منشغلة بقمع تمرد محلى فى «تايبنغ» أسفر عن مقتل 20 مليون شخص على الأقل، وأُجبرت الصين على توقيع اتفاقات غير متوازنة خلال الخمسين عاما التالية مع كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان.
كان من الواضح أن بريطانيا أقوى من الصين خلال القرن 19، ولكن هذه الحقيقة لم تعكسها قياسات الناتج الاجمالى المحلى للصين وحجم ميزانية الدفاع التى كانت تعادل ضعف ناتج وميزانية بريطانيا، كما أن القوات البريطانية أرسلت 7000 جندى من قواتها فهزمت فرقا من الجيش الصينى البالغ قوامه 800 ألف جندى.
ضعف الصين حسب بيكلى مرجعه إلى التكاليف الخاصة بالأمن الداخلى والاحتياجات الاجتماعية التى لم توضع فى حساب تقديرات الناتج الاجمالى المحلى، الأمر الذى جعل بكين لا يتوافر لديها سوى القليل كى تدافع به عن اراضيها فى نزاعات متعددة، بينما تفوقت بريطانيا باحتساب حاصل ضرب إجمالى الناتج المحلى فى نصيب الفرد من هذا الناتج وهو ما تولد عن عدة عوامل، حيث كان العامل البريطانى أكثر احترافية فكان ينتج 16 ضعف ما ينتجه العامل الصينى، بسبب تفوق التكنولوجيا البريطانية ولكون العامل البريطانى أفضل على مستوى الصحة والتعليم.
الأمر الثانى، أن تعداد سكان الصين الذى ماثل 13 ضعف سكان بريطانيا، حمّل الصين تكاليف اعاشة ضخمة لتوفير احتياجات الشعب من طعام وملبس ومسكن.
الأمر الثالث أن مساحة الصين المترامية الأطراف، تطلبت تكاليف أمنية هائلة، حيث واجهت الصين 25 انتفاضة ضخمة كل عام ولم تتمكن الحكومة من زيادة الضرائب كى لا تثير حنق المواطنين فى وقت كانت النفقات العسكرية والأمنية تستهلك فيه أكثر من 50 بالمئة من اجمالى العائدات الحكومية وقت السلم و100 بالمئة وقت الحرب، الأمر الذى أدخل الصين فى أزمات مالية.
ومن الناحية العسكرية، كانت القوات الصينية غير مدربة وضعيفة التسليح، كما كانت أسلحتها متقادمة مقارنةً بالبريطانيين الذين اقتنوا سفنا أحدث تتمتع بقوة نيرانية أعلى وعدد مدافع أكثر ودقة وتهديف أكبر، فضلا عن وجود قواعد عسكرية بريطانية فى آسيا قرب الصين ما سمح لبريطانيا بمزايا عديدة عوضتها عن بعد المسافة عن الوطن الأم فى أوروبا.
اليابان ضد الصين
وبنفس الطريقة ساق «بيكلى» نماذج أخرى للتأكيد على صحة استدلاله عبر حالات أخرى منها الحرب بين اليابان والصين من 1874 وحتى 1945 حيث تنامت قوة اليابان وحينما تصدت لها الصين هزمتها بسهولة عام 1894 وأجبرتها على توقيع اتفاقية تنازلت بمقتضاها عن جزر استراتيجية، كما اعترفت الصين مجبرة على استقلال كوريا التى ضمتها اليابان عام 1914 مع اشتعال الحرب العالمية الأولى.
كان من الواضح أن اليابان أقوى من الصين رغم أن جميع المؤشرات كانت تدل على أن الصين تمتلك مصادر اقتصادية أكبر وتعداد سكان أكثر وقوات عسكرية أكثر بعدة أضعاف، لكن الصناعة اليابانية كانت أكثر إنتاجية.
ألمانيا ضد روسيا
ومرة أخرى يدلل الكاتب بنماذج أخرى مثل حروب ألمانيا ضد روسيا بين 1891 وحتى 1917 حيث كانت روسيا صاحبة أكبر ناتج محلى اجمالى فى أوروبا، إلا أن ألمانيا التى كانت قوة صاعدة أجبرت روسيا على التخلى عن أجزاء تمثل قطاعات من استونيا ولاتفيا وليتوانيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا، ولولا الهزيمة التى منيت بها ألمانيا على يد بريطانيا وفرنسا وأمريكا، لما أنقذت روسيا من هذه الخسائر.
بالمقاييس التقليدية كان جيش روسيا ضعف حجم جيش ألمانيا، لكن الجيش الألمانى امتلك تكنولوجيا أكثر تقدما وتمتع جنوده بمهارات حربية أعلى.
الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتى
ويضرب المؤلف مثلا آخر بحالة الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتى من 1946 وحتى 1992، فالاتحاد السوفيتى الذى خرج من تصنيف القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى، تمكن تحت قيادة ستالين من تحديث اقتصاده صناعيا وزراعيا، وبرغم خسارته الهائلة فى الحرب العالمية الثانية، فإنه استعاد قوته وأصبح أقوى دولة فى أوروبا، وفى الخمسينيات تحول إلى قوة غظمى، وفى السبعينيات قاد الاتحاد السوفيتى العالم بمقاييس اجمالى المصادر المتاحة وحجم الجيش والأسلحة النووية والانفاق الدفاعى واجمالى الناتج الصناعى، وكذلك فى عدد العلماء والمهندسين، وفى عام 1977، أحصى «راى كلين» وهو أحد المحللين المختصين بالاتحاد السوفيتى فى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، كثيرا من المؤشرات الاجمالية للدولة السوفيتية ليضعها فى مؤشر واحد فقط، استنتج منه أن الاتحاد السوفيتى يمتلك ضعف قوة الولايات المتحدة بل وتزداد قوته عنها مع مرور الزمن، ومع ذلك شهد الاتحاد السوفيتى خروج حلفائه فى أوروبا وآسيا من عباءته حينما تفكك ليفقد ملونى ميل مربع من أراضيه، ويتخلى عن الحرب الباردة، وتدخل الشركات الأمريكية للاستثمار فى روسيا التى ورثت الاتحاد السوفيتى.
يقول بيكلى: من الواضح أن الاتحاد السوفيتى لم يكن كفؤا تحت مساحته الهائلة، فمع حلول الثمانينيات كانت الصناعات السوفيتية تستهلك ضعف الطاقة والمواد الخام التى تستهلكها الصناعات الأمريكية، وتنتج نصف ما تنتجه مثيلاتها الأمريكية، كما كان الاتحاد السوفيتى أول بلد صناعى فى التاريخ يسجل وقت السلم تراجعا فى معدل الأعمار.
كان من أسباب هذا التراجع أن عناصر الدولة السوفيتية تآكلت بفعل تكاليف الرعاية الاجتماعية حيث استهلكت برامج المساعدات الاجتماعية نصف العوائد الحكومية واستهلكت تكاليف دعم الطعام وحدها 30 % من الميزانية السوفيتية بينما كانت برامج المساعدات الاجتماعية فى الولايات المتحدة تمثل 10% فقط من ميزانيتها.
أيضا استهلكت النفقات العسكرية والأمنية 40% من الميزانية السوفيتية.
جميع هذه النماذج، تشير كما يقول المؤلف إلى أن القوة الحقيقية للدول يعكسها صافى المصادر والموارد والقدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المتوافرة وليس اجمالى هذه القدرات.
وفى الحلقة القادمة، نستعرض تركيز «بيكلى» على الصين لأنها البلد الوحيد حول العالم الذى يمكن أن يضارع الولايات المتحدة من حيث صافى المصادر والقدرات، فاليابان وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، تتوافر لديها نفس الكفاءة كما هى فى الولايات المتحدة، لكنها تفتقر إلى الحجم الضرورى المطلوب كى تصل إلى حالة «القوة العظمى»، أما روسيا وبحسب «بيكلى» فإنها غير مؤهلة لمنافسة الولايات المتحدة لا من حيث الحجم ولا من حيث الكفاءة. أما بالنسبة إلى الهند التى ستصبح قريبا أكثر دول العالم سكانا، فإنها ليست على مسافة تقترب من منافسة الصين من حيث صافى الموارد والمصادر المتاحة لديها، وإذا كانت الولايات المتحدة ستواجه منافسا معادلا لها فى القرن الحادى والعشرين فلن يكون سوى الصين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.