أول مرة أرى فيها المفكر الإسلامى الكبير أحمد كمال أبو المجد، حينما كان يتحدث فى ندوة بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فى النصف الثانى من الثمانينيات، قبلها كنت أقرأ له المقالات والحوارات فى الصحف المصرية المختلفة، لكن حينما رأيته وجها لوجه لفت نظرى اعتداله وهدوءه وأفكاره المنظمة ومنطقه وقوة إقناعه. فى عام 1993 ذهبت إليه فى مكتبه، وأجريت معه حوارا مطولا نشر فى صحيفة «العالم اليوم» على حلقات مسلسلة، فى هذا الحوار عرفت للمرة الأولى جانبا مهما من حياته؛ حيث عمل مستشارا ثقافيا فى السفارة المصرية فى واشنطن منتصف الستينيات من القرن الماضى. ومن بين مهامه كان الإشراف على الطلاب المصريين الدارسين فى الولاياتالمتحدة وكندا، هذه المجموعة من الطلاب صارت نجوما بازغة فى عالم الفكر والسياسة فيما بعد، ومنهم على سبيل المثال أسامة الباز وسعد الدين إبراهيم وعلى الدين هلال وكمال الإبراشى، فى هذه الفترة كان على أبوالمجد أن يبذل جهدا استثنائيا لاستيعاب واحتواء هؤلاء الطلاب، الذين تلقوا صدمة عمرهم بعد هزيمة يونيه 1967. وأذكر أنه لفت نظرى إلى أن غالبية الطلاب الذين درسوا فى الغرب عادوا لمصر ليصبحوا يساريين، فى حين أن الذين درسوا فى الاتحاد السوفيتى عادوا ليصبحوا يمينيين!!. فى هذا الحوار اقتربت من الجانب الأهم فى شخصية هذا المفكر الكبير وهو الوسطية الحقة وليست المدعاة، وأن آفة أى شىء هى التطرف والشطط والغلو وعنوان «حوار لا مواجهة» تعبير صادق عن شخصيته، عرفت يومها أيضا أن هذا المفكر الكبير بلدياتى من أسيوط؛ حيث ولد فى قرية بنى عدى عام 1930، وهى القرية التى عرف عن معظم أبنائها حفظ القرآن وإجادة اللغة العربية، كما أنها تصدت للحملة الفرنسية، وأوقفت زحفها إلى جنوب الصعيد عام 1799، فيما سمى بثورة بنى عدى، هذه المناسبة صارت العيد الوطنى لمحافظة أسيوط، فى 18 إبريل من كل عام. حينما تأسست الشروق عام 2009، بدأت علاقتى تتوثق أكثر مع هذا الرجل، كان يأتى بين الحين والآخر ليسلم مقالا، أو يكتبه فى الجريدة، وقت كان مقرها فى المهندسين، كنت أناقشه كثيرا فى كتبه ومقالاته، وكيف ينظر إلى قوى وتنظيمات الإسلام السياسى، وما الذى أوصلها إلى هذه الحالة من التطرف، فى هذه الفترة أدركت أنه مفكر إنسانى وليس فقط إسلاميا، وأن روحه السمحة واحتكاكه بالخارج، قد أبعدت عنه آفة التطرف والغلو، وجعلته مؤمنا بالإنسان أولا بغض النظر عن لونه أو عرقه. تعددت لقاءاتى به، ليس فقط فى الشروق، ولكن فى منزل المهندس إبراهيم المعلم وزوجته الأستاذة أميرة أبوالمجد، فى هذه اللقاءات بدأت ألمح صفة مهمة فى شخصية أبوالمجد، وهى الروح اللاذعة والناقدة لكن بصورة محببة. حينما كتبت على صفحتى أنعى وفاة أبوالمجد، فإن من بين مئات رسائل العزاء، كانت هناك ثلاثة تعليقات توقفت عندها، الأول ما كتبه السفير جمال بيومى وجاء فيه: «كان صديقا عزيزا، ومن العلماء الظرفاء وأذكر قوله فى محاضرة عامة دعت إليها غرفة التجارة المصرية الأمريكية، إن النظم فى معظم منطقتنا العربية أدمنت تزوير الانتخابات، حتى لو كانت لديها فرصة كبيرة للنجاح بالحلال!!!». أما الأستاذة صفاء فيصل، مديرة مكتب ال«بى. بى. سى» بالقاهرة، فقالت «كان واسع الأفق ومستنيرا حاورته كثيرا واستفدت من لمحاته الذكية»، فى حين أن الأستاذ وخبير الإعلام الدكتور سامى عبدالعزيز فقد وصفه بأنه، «من قمم الفكر الجامع بين الأصالة والمعاصرة». أبو المجد من القلائل الذين جمعوا بين الفكر النظرى والممارسة العملية فى مجالات متعددة. له العديد من المؤلفات القانونية والسياسية والفكرية والدينية. كان محاميا بارعا، وخبيرا قانونيا لا يشق له غبار، وأستاذا جامعيا مرموقا، كما شغل منصب رئيس المحكمة الإدارية للبنك الدولى بواشنطن. لا يعرف كثيرون أن أبوالمجد كان له دور بارز فى إنشاء منظمة الشباب والتنظيم الطليعى، وهو أقوى تنظيم شبابى فى الستينيات قدم العديد من الكوادر للسياسة المصرية، ونجح فى احتواء الشباب فى العديد من المشروعات الرياضية والفنية والخدمية، كما شغل أبو المجد منصب وزير الشباب عام 1973. مساء الأربعاء صعدت روح أبو المجد إلى بارئها، مات فى هدوء وسكينة، وسط أولاده وأحفاده. فى سنواته الأخيرة، تعرض الرجل لظلم بين من قبل كثيرين لا يعرفونه جيدا، ومن المؤكد أن كل من سيطالع حقيقة هذا الرجل، فسوف يدرك أنه كان إنسانا ومفكرا من طراز فريد، ويمثل نموذجا صار يتلاشى من المجتمع المصرى. رحم الله أبوالمجد، وخالص العزاء لأسرته الصغيرة ولكل محبيه وأصحابه فى مصر والمنطقة العربية، وأى مكان بالعالم.