عند نشأة الفن التشكيلى المصرى الحديث أخذ مجموعة من الكتاب على عاتقهم مهمة الكتابة النقدية عنه قبل أن تظهر حركة نقدية متخصصة فى مجال الفنون الجميلة، مثل إبراهيم عبدالقادر المازنى ومى زيادة ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد ومحمود عزمى وسلامة موسى، وآخرين. ولكن العقاد كان أكثرهم إنتاجا، اتسعت كتابات العقاد لمجالات كثيرة جعلت رحلته الفكرية تتسم بالموسوعية، فقد كتب العقاد فى الأدب والشعر والنقد والسياسة والدين والتاريخ والفلسفة وكتب عن المرأة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الجمال. كتب العقاد ما يقارب الستة آلاف مقالة (5877) وفقا لموسوعة أعلام الأدب المعاصر فى مصر. وترك أكثر من مائة كتاب من تأليفه فى مجالات متعددة، منهم كتب جمعت بعض مقالاته أشرف هو على إصدارها فى حياته، وبعضها صدرت بعد وفاته. ولكن كتاباته عن الفنون الجميلة ظلت متناثرة ومنها الكثير النادر الذى لم يعاد طبعه مرة أخرى. ولذلك قمت بمراجعة مجلدى الجزء الخامس الخاص بعباس محمود العقاد من سلسلة «أعلام الأدب المعاصر فى مصر»، والنشرة الببليوجرافية لآثار عباس محمود العقاد الفكرية. وذلك لحصر عناوين مقالاته المتعلقة بالفنون الجميلة وأماكن وتواريخ نشرها ومن ثم الوصول لها فى الأرشيفات المتعددة. فأهمية تحديد تاريخ ومكان نشر أى مقالة للمرة الأولى يجعل قارئها أو دارسها قادرا على وضعها فى سياقها الصحيح ومراعاة الظروف الزمانية والمكانية والسياسية والاقتصادية والاتجاهات الفنية المعاصرة لوقت كتابة كل مقال. وقد نجحت فى حصر وتجميع تسعين مقالا للعقاد عن الفنون الجميلة، وقمت بصياغة فهرست ببليوجرافى لكل إنتاج عباس محمود العقاد الخاص بالفنون الجميلة، وذلك لإتاحة المعلومات للباحثين والمهتمين الراغبين فى الاطلاع على بقية المقالات. والهدف الرئيسى من المقال إعادة التنقيب فى التاريخ بغرض التحرر من القوالب الجاهزة الآتية من الماضى والتى تعد ثقلا كبيرا نحمله فى وقتنا الحالى. فالتاريخ يمثل عبئا عندما لا تعاد قراءته ويتم تقديسه واتباعه بلا تفكير. ويمكن اعتبار هذا المشروع أحد خطوات السعى إلى إنشاء أرشيف خاص بالفنون البصرية فى مصر، فمع ندرة الوثائق حول تاريخ الفن الحديث يصبح من الصعب تتبع هذا التاريخ، فحتى مع توفر بعض الوثائق الأولية فى أرشيفات المؤسسات الرسمية الحكومية وأرشيفات المؤسسات الثقافية الأهلية وبعض الأرشيفات الخاصة بالأفراد إلا أنها تبقى مبعثرة ويصعب الوصول لها فى أحيان كثيرة. **** كثيرا ما دافع العقاد عن الفنون الجميلة وضرورتها فى المجتمع وقت أن كانت وليدة، فقد بدأ العقاد عمله فى الصحافة عام 1907 وبعدها بعام واحد فقط بالتحديد فى 12 مايو 1908 تم افتتاح مدرسة الفنون الجميلة المصرية. كانت هنالك بعض الآراء فى ذلك الوقت تتساءل إذا ما كانت الفنون الجميلة ضرورية أم أنها من الرفاهيات، فانطلق العقاد لسنوات طويلة يدافع عن ضرورة الفن وأهميته فى مواضع عديدة ومقالات متفرقة، ونادى وقت أن كان نائبا فى البرلمان المصرى بإنشاء متحف للفنون الجميلة بمصر، واقترح على وزارة المعارف تطوير بعثات الفنانين المصريين للخارج لدراسة الفنون، كما أنه كتب أيضا فى عدة مقالات مطالبا الحكومة أن توجه اختياراتها للوحات الفنية التى تقتنيها لاختيار ودعم الفنانين المصريين وذلك لأن لجان الاقتناء فى ذلك الوقت كانت تقتنى من الفنانين الأجانب أكثر من المصريين وبأسعار أعلى. ولعل اشتمال مصطلح الفنون الجميلة على مجالات متعددة من الفنون قد ساهم بشكل كبير فى خلق شمولية فلسفات العقاد الجمالية وفهمه لعلاقاتهم سويا، فمصطلح الفنون الجميلة يشتمل على مجالات العمارة والرسم والنحت والتصوير والمسرح والسينما والرقص والشعر والأزياء.. إلخ. وبالتالى فقد تصدى العقاد فى كتاباته عن الفنون بمختلف مجالاتها من منطلق قاعدة تتمثل فى مفهومه عن الجمال والذى كان يسعى أن يجعل منه مفهوما نموذجيا يشمل جميع الفنون ويكون معيار الحكم عليها ونقدها. فلما ظهرت تأثيرات الحداثة الأوروبية فى المشهد الفنى المصرى فى ثلاثينيات القرن العشرين نجده لم يتقبلها بل وبدأ فى مهاجمة التيارات الفنية الحديثة وكان رفضه ينبثق من عدة أسباب أولها هو الوازع الوطنى القومى المقاوم للاستعمار الذى كان سائدا وقتها والإصرار على «مصرية» كل شىء وألا يتنافى عنه صفة الأصالة، وأيضا جاءت الحداثة لتتنافى مع وجهات نظر العقاد عن الجمال، فكانت بالنسبة له أعمالا يحطم فيها الفنانون القواعد المنظمة للجمال، ومع تطور تلك التأثيرات ظهر مصطلح الفنون التشكيلية فى مصر فى منتصف الخمسينيات، ليختص بالدلالة على الرسم والنحت والتصوير والفنون التطبيقية، لم يتوافق هذا التطور مع تصورات ومفاهيم العقاد الشمولية فى فلسفة الجمال. فأغلب هذه التطورات جاءت نتيجة الممارسة الفنية للفنانين الطليعيين فى ذلك الوقت، فظهر ما نستطيع أن نطلق عليه إشكالية العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة، فالممارسة هى نوع من أنواع السلوك الذى ينشأ من داخل العملية الإنتاجية، أما النظرية فوضعها يتم وفقا «لتأمل» عقلى دون خوض عملى. ولذلك فقد هاجم العقاد باستمرار الاتجاهات الفنيه الحديثة فى عصره، وخص بالهجوم الدادية والسوريالية والتجريدية، كما أنها كانت من وجهة نظره من أعراض هوس التقليد الأعمى لانحرافات الحضارة الغربية الحديثة. كما أنه هاجم وانتقد بشدة العديد من الفنانين المعاصرين له من الأجانب والمصريين، فانتقد بشدة فنانى الحركة السوريالية فى مصر ومفكريها فى مناسبات عديدة، وانتقد نظريات فرويد عن العقل الباطن التى اعتمد عليها السرياليون فى إنتاجهم الفنى. ومن مفارقات هجوم العقاد على الفنون الحديثة أن موقفه تماس مع موقف هتلر وحزبه النازى من هذه الفنون رغم إدانة العقاد الشديدة للنازية. فقد أغلق هتلر وأعوانه مدرسة الباوهاوس وأحرقوا لوحات الفن الحديث من بينها لوحات فاسيلى كاندنسكى وكوكشكا وبول كلى وماكس ارنست وغيرهم، بدعوى أنه فن منحط، بينما فى نفس الفترة التى أطلق النازيون على الفنون الحديثة اسم الفن المنحط، كان العقاد يسميها تهكما الفنون «الخنفشارية» و«الموضات» و«التقليعات» ويطلق الاتهامات على ممارسيها.
اقرأ أيضا «الشروق» تكشف عن مقالات مجهولة لعباس العقاد: «معارض الصور» «الشروق» تكشف عن مقالات مجهولة لعباس العقاد: «متحف مصرى للتصوير»