بدأت رحلاتى إلى أفريقيا فى مطلع الثمانينيات، ولم تكن القارة كما أظنها مجرد أدغال يرتع فيها طرزان أبيض وسط شعوب سوداء جاهلة، ولم يكن الإنسان الأفريقى يعيش فى رحابة من الزمن أو وراء الزمن. كانت أفريقيا عندى هى القارة التى ننتمى إليها ، وهى القارة التى خرج منها الإنسان الأول وعمر الكرة الأرضية، وهى أيضا القارة التى خرج منها أول أفريقى يترأس أمريكا. وفى تلك الفترة أنتجت هوليوود فيلما رائعا وهو: «خارج أفريقيا» للمخرج سيدنى بولاك، وعن قصة حقيقية للكاتبة كارين بلكسن، التى عاشت فى كينيا لعقود، والفيلم قامت ببطولته الممثلة القديرة والرائعة ميريل ستريب والممثل روبرت ريدفور. عندما زرت نيروبى فى تلك الفترة، صممت على زيارة منطقة «كارين» التى عاشت بها الكاتبة، وكانت منطقة يعيش بها الأثرياء والبيض، وهى عبارة عن فيلات تحيط بها الأشجار العملاقة وتظللها. وكان ما شاهدته مثل ماتخيلته تماما، فلم يتغير أى شىء فى تلك المنطقة، على الرغم من مضى عقود.. كان هذا فى كينيا. لكن فى مصر لا يبقى أى شىء على حاله. ومنه ضاحية المعادى، التى كانت جميلة، وهى كانت تتبع مديرية الجيزة حين أنشئت، والآن حائرة بين القاهرة وحلوان، فقد استيقظ أهل المعادى يوما ليجدوا أنفسهم فى حلوان بدلا من القاهرة..! المعادى التى كانت ضاحية هادئة، تشم فى شوارعها روائح زهور الياسمين والبرتقال، وترى على أرصفتها أشجار المانجو، لم تعد هى نفس الضاحية الجميلة التى كانت.. الفيلات تهدم بشراهة، وشراسة، والحدائق تسلب من أجل البناء فوقها، والأشجار تذبح بلا رحمة، تحت دعوى كبر سنها أو خطورتها على البشر.. وعلى مدى عقود عرفت المعادى قرارات تنظيم البناء، ولم يحترم قرار واحد.. أو ربما عاش قرار سنة ثم توفى بعدها تحت وطأة الحاجة، حاجة من يوافقون ويغضون النظر عن العمارات التى تعلو، أو حاجة أصحاب العمارات الذين لا تكفيهم عمارة واحدة أو عمارتين.. وفى ميدان يطل على نادى المعادى ويقع فى قلب الضاحية، علت عمارة مثل ناطحات السحاب. علت بالقانون نعم. لكنها أسقطت قانون الضاحية والفلسفة التى بنيت من أجلها.. لماذا لا نحافظ على طبيعة أى منطقة أو مدينة؟ لماذات يقف القانون عاجزا أمام حيتان البناء وبلدوزرات هدم الفيلات التى تمتد إلى كل شارع فى المعادى الآن.. لماذا لانكون مثل الحكومة الكينية التى حافظت عشرات السنين على مناطق خاصة لايسمح فيها بالبناء؟ لماذا لا تكون القاهرة أو حلوان مثل مدن الدارالبيضاء والقيروان؟! المعادى التى كانت حيا هادئا وجميلا أصبح الآن مقلبا للقمامة، ومن يعش فى تلك الضاحية اليوم عليه أن يتخيل أنه يحيا وسط جيفة فى مقلب قمامة، أو فى مقلب قمامة فوق حديقة.. فعلى الرغم من الجنيهات التى فرضت مثل الإتاوة على إيصالات الكهرباء، وعلى الرغم من استمرار زيارة، جامعى القمامة من الشقق والمنازل، تكبر تلال الفضلات وتحتشد بها الشوارع، وزيارة واحدة لواحد من أهم شوارع المعادى الجديدة وهو شارع الجزائر تكفى كى يفوز هذا الشارع بجائزة أكبر كمية قمامة يتم جمعها فى اليوم الواحد..! المعادى التى أنشئت فى مطلع القرن العشرين كضاحية، دخلت فى منافسة مباشرة مع ضاحية هليوبوليس (مصر الجديدة) فى سنة 1938، حينما ارتفع سعر متر الأرض من عشرين قرشا إلى خمسين قرشا، وقد ظلت المنافسة قائمة حتى اليوم بين مصر الجديدة وبين المعادى، التى وصل فيها سعر المتر المربع إلى مايقرب من خمسة عشر ألف جنيه، بسبب الفيلات التى تهدم من أجل العمارات التى تعلو فوق الحدود وتضرب بالقانون عرض الحائط.. وعندما أنشأت شركة أراضى الدلتا حى المعادى وبدأ سوارس والموصيرى فى بناء الفيلات ذات حدائق المانجو، كانت تلك نواة لمنطقة عامرة بالبيوت الريفية الجميلة.. لكن بمضى الوقت أصبحت المعادى بالفعل مثل حديقة كبيرة فى مقلب قمامة أو مقلب قمامة مقام وسط حديقة كبيرة!