من المتعين أن يشهد السودان فى المستقبل القريب تطورات سياسية دراماتيكية بالغة الأهمية، إثر عقد مؤتمر «جوبا» القومى الجامع للأحزاب والقوى الوطنية للحوار حول القضايا المصيرية، بالتزامن مع اندلاع الاقتتال الدامى بين قبائل الجنوب، وأسفر حتى كتابة هذا التقرير عن سقوط 200 قتيل، وهو ما يشى بالضرورة إى تغيير جوهرى فى تركيبة النظام الحاكم من جهة، وكذا نتائج استفتاء أبناء الجنوب حول حق تقرير المصير إعمالا لاتفاقية السلام فى نيفاشا عام 2005 ما بين الاستمرار الطوعى فى الوحدة مع الشمال أو الاستقلال. لكن حزب المؤتمر الوطنى الحاكم ظل عند موقفه المعارض للمشاركة فى مؤتمر جوبا، وهكذا اقتصر الحضور على أحزاب المعارضة الشمالية والحركة الشعبية الداعية للمؤتمر، مما لا يستقيم مع مطالب إنجاز الوحدة الوطنية المنشودة، وضمان تنفيذ ما قد يتوصل إليه المؤتمر من قرارات، خاصة ما يتعلق بالتحول الديمقراطى، وحقوق الإنسان وتداول السلطة والوفاء باستحقاقات الانتخابات المزمع إجراؤها فى أبريل عام 2010، وغير ذلك من المشكلات السياسية المزمنة، وفى مقدمتها مشكلة دارفور. حزب المؤتمر بزعامة الرئيس عمر البشير برر تقاعسه عن حضور المؤتمر بدعوى شكوشه فى نواياه المبيتة لعزله من السلطة، وأن الحركة الشعبية لجأت إلى عقد المؤتمر للتغطية على الخلافات الناشبة بين قياداتها، مما يستجيل عليها خوض الانتخابات، ولذلك تراهن على التحالف مع المعارضة، من جانبه أعرب باقان أمون الأمين العام للحركة الشعبية أن المؤتمر مفتوح أمام مشاركة كل القوى السياسية دون إقصاء أحد، وكشف النقاب عن عزم الحركة عقد اجتماع لحركات التمرد فى دارفور التى لم توقع اتفاقية سلام مع الحركة والبحث عن سبل إشراكها فى حل المشكلة. إبراهيم غندور، القيادى البارز فى حزب المؤتمر، نفى صفة الإجماع القومى عن مؤتمر جوبا، وادعى أن الحزب والقوى السياسية الحليفة له تمثل 72٪ من الأصوات الانتخابية، وروج لعقد مؤتمر آخر فى جوبا لأهل السودان ردا على المؤتمر الحالى، فى الوقت الذى حضر أركوميناوى مساعد رئيس الجمهورية الجلسات التى سبقت انعقاده بصفته زعيما لإحدى حركات التمرد الدارفورية، وقال أنا جزء من الحكومة لكنى لست عضوا فى حزب المؤتمر الوطنى. من المعروف أن أحزاب المعارضة كانت قد شككت فى دستورية حكومة الانقاذ، لكن وزير العدل عبدالباسط سوبرات أكد من جانبه شرعية الحكوة استنادا لاتفاقية السلام التى أنهت حربا أهلية بين الشمال والجنوب استمرت عقدين من الزمان، مشيرا إلى بطلان ادعاء المعارضة بالفراغ الدستورى استنادا إلى المادة 216 من دستور السودان الانتقالى لعام 2005، وقال إن هذه المادة لا علاقة لها بانتهاء صلاحية الحكومة، وإنما بإجراء الانتخابات العامة على مستويات الحكم فى موعد لا يتجاوز نهاية العام الرابع من الفترة الانتقالية. وأيا ما كانت الخلافات والمماحكات السياسية بين حكومة الانقاذ والمعارضة، يجب عقد مؤتمر جوبا كونه أول خطوة سياسية مؤسسية على صعيد الإجمال القومى الرامى للمشاركة فى سلطة القرار والإسهام فى حل قضايا السودان المصيرية، فى ضوء نهج وأسلوب حزب المؤتمر الوطنى لقسمة الانفراد بالسلطة وشق تنظيمات المعارضة، والتى لم يسلم منها حزب الأمة والحزب الاتحادى والحركة الشعبية فى محاولة لإضعافها وشل فاعلياتها السياسية والشعبية! إلى ذلك يجمع المراقبون على أن مؤتمر جوبا ساحة وفرصة سانحة للتلاقى والحوار والوفاق بين أحزب المعارضة الشمالية والحركة الشعبية وتضميد الجراح التاريخية، وتوحيد الرؤى والمواقف حول مستقبل الحكم والسلام الشامل والتحول الديمقراطى وحسم المشكلات التى تعترض الإحصاء السكانى، مما يفضى إلى إجراء الانتخابات بنزاهة وشفافية وحل مشكل دارفور وخروج السودان من أزمته الراهنة، إيذانا بالحرية والتنمية والرجوع إلى استثمار موارد السودان الزراعية وتوفير الطعام. من جهته، أعلن الصادق المهدى الذى سبق وعقد تحالفا سياسيا مع الدكتور حسن الترابى رئيس حزب المؤتمر الشعبى أن مؤتمر جوبا مجرد لقاء قومى ليس موجها ضد أحد ولا يعزل أحدا ويستهدف حل مشكلات السودان وسد المنافذ أمام مخاطر التدويل والتمزق، لكن حليف نظام الإبقاء السيد محمد عثمان الميرغنى، رئيس الحزب الاتحادى، وصف المؤتمر كونه مجرد تجمع للمعارضة ولا يخدم قضايا الوطن، علما بأن سلفاكير زعيم الحركة الشعبية والنائب لرئيس الجمهورية ألقى خطاب افتتاح المؤتمر وتناول قضايا الإجماع الوطنى، كما أن الفرصة كانت متاحة لتمكين كل القوى السياسية من عرض أفكارها، وتشكيل لجنة لتسيير أعمال المؤتمر، إضافة إلى لجان تختص كل منها بالبحث عن سبل حل المشكلات وقضايا جدول الأعمال ومتابعة تنفيذها بعد عرضها على حكومتى الشمال والجنوبوالولايات. ليعلن من هنا السؤال: إن كان الإجماع القومى النسبى فى مؤتمر جوبا مدخلا لتعزيز خيار وحدة السودان، ولا شك أنه رهان يحتمل الصواب إذا ما وضعنا فى الاعتبار عددا من العوامل الجانبية الإيجابية أو السلبية، وبدايتها التحكيم الدولى حول تنازع السيادة حول منطقة «إيبى»، مما سحب الكثير والمهم من حقول النفط والمراعى من الجنوب لصالح الشمال، بينما كانت مداخيل النفط يتم احتسابها بالتساوى قبل التحكيم، وكانت تمثل عصب الاقتصاد وميزانية حكومة الجنوب، ثم هناك مشكلة تعداد السكان لصالح الأغلبية الشمالية عند إجراء الانتخابات وتقسيم الدوائر. مشكلة أخرى حول الكلفة السياسية والمالية الباهظة لترحيل أبناء الجنوب من الشمال إذا جاءت نتيجة الاستفتاء حول تقرير المصير لصالح الانفصال، خاصة ومعظمهم يفضل الاستقرار فى الشمال، وكانت منطقة سوبا قد شهدت تمردهم على قرار الترحيل مبكرا. على أنه فضلا عن الانقسامات والخلافات الراهنة على الصعيد القيادى للحركة الشعبية، لاتزال اتهامات الفساد ونهب مداخيل النفط تطارد عددا من أبرز هذه القيادات، دون تسخيرها فى التنمية وبناء أجهزة ومؤسسات الدولة الجنوبية المرتقبة، ثم إن هذه الانقسامات والخلافات انعكست بشكل مباشر على القبائل التى تنتمى لها هذه القيادات وأسفرت عن موجة العنف والاقتتال والمذابح التى تشهدها منطقة «جونجلى» بين قبيلة النوير وقبيلة الدينكا، مما ينذر باندلاع حرب أهلية فى الجنوب، جراء تبادل خطف الماشية والنزاعات حول الموارد الطبيعية وعمليات الثأر. كان الجيش الشعبى وهو الذراع العسكرية للحركة الشعبية قد شرع إلى جمع السلاح لدى مواطنى الجنوب، وعندئذ كانت المقاومة الشرسة للمليشيات التى ظلت على ولائها لقيادتها ولاتزال تقاوم عملية دماجها فى الجيش الشعبى، وبينما حاولت الحركة الشعبية اتهام حكومة الانقاذ بالتحريض، إلا أن جى هوجندورن مدير مجموعة الأزمات الدولية فى منطقة القرن الأفريقى نفى أى شبهة اتهامات بمحاولة إضعاف الحركة الشعبية، مؤكدا أنه لا توجد أدلة ثبوتية كافية تدعم هذه المزاعم، وأن النزاعات داخل الجيش الجنوبى السبب الرئيسى لإثارة حالة العنف القبلى، بينما يرى دوجلات جونسون الخبير البريطانى فى شئون جنوب السودان أن تصاعد المواجهة بين أجنحة قبيلة الدينكا، التى تعتبر أقوى وأكبر قبائل الجنوب، السبب المباشر للاقتتال بما لديها من مخزون هائل من الذخيرة والسلاح، كذلك أكد الجنرال مارتن لوثر أجواى قائد البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقى لحفظ السلام أن الأوضاع كانت مرشحة للأسوء لولا تدخل قوات «يوناسيد» سواء فى أحداث ولاية الوحدة أو دارفور، مشيرا إلى تناقص معدلات العنف والاغتصاب وبداية عودة النازحين إلى قراهم. ثم إن هناك حقيقة غابت عن تقدير المراقبين، وتتعلق بوجود قوى قبلية مسلحة فى الجنوب لاتزال على ولائها لنظام الانقاذ يتزعمها الدكتور ريال قاى مستشار الرئيس البشير، وترفض المساس باتفاقية السلام وقال فلينتظروا حق تقرير المصير، فإن تحققت الوحدة فعندئذ بالاتفاق عقد التحالفات القومية، وإلا فليصارع الشماليون فى الشمال والجنوبيون فى الجنوب إذا حدث الانفصال. فإذا حاولنا استبيان موقف الولاياتالمتحدة من الأوضاع فى السودان، تظل وطأة العقوبات المفروضة على الخرطوم عقبة كأْداء فى طريق الحوار مع واشنطن، فالمبعوث الأمريكى جنرال سكوت جراشن لديه خلفية اجتماعية وسياسية وعسكرية كافية تؤهله للتعامل مع تعقيدات الملفات السودانية، وهو قام بزيارات ميدانية لدارفور وأجرى مباحثات موسعة مع الحكومة السودانية والحركة الشعبية وزعامات حركات التمرد فى الإقليم، وعلى ما تبدو الشواهد فإن واشنطن قد غضت الطرف عن تحريك قرار المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية الخاص بتوقيف الرئيس البشير والقبض عليه ومحاكمته بتهمة التورط فى ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية فى دارفور، والتركيز بشكل أساسى على قضيتين، «الأولى» وتتعلق بالتنفيذ الكامل لنبود ومراحل اتفاق السلام فى الجنوب، و«الثانية» وتخص ضمان وصول مساعدات الإغاثة الدولية إلى المتضررين من ويلات الحرب فى دارفور، خاصة بعد طرد 13 منظمة إغاثية تطوعية من الإقليم بعد اتهامات بالتجسس لصالح المحكمة الجنائية الدولية. والشاعد أن اهتمام الولاياتالمتحدة بالإسهام فى حل مشكلات السودان، قد تصاعدت وتيرته إثر فتح الرئيس باراك أوباما صفحة جديدة من العلاقات والمصالح المتبادلة مع العالم الإسلامى، وهو ما يفسر إعلان الإدارة الأمريكية لأول مرة عن جديتها على وحدة السودان مع منح الجنوبيين الحق فى الاختيار، والشروع كمرحلة أولى فى تصفية أجواء العلاقات، الرفع الجزئى عن العقوبات المفروضة على السودان من أجل توصيل المساعدات اللوجستية إلى دارفور وجنوب السودان، بل إن الجنرال سكوت أعلن أنه لم يتوافر دليل يبرر بقاء السودان على القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب الدولى، وأضاف أن الأجهزة الاستخبارية لم تقدم على الإطلاق دليلا ملموسا يشير إلى أن السودان دولة داعمة للإرهاب، واعتبر العقوبات مانعة لتشجيع التنمية وإعادة الإعمار، خاصة ما يتعلق بالحظر المفروض على المعدات الثقيلة لتشييد الطرق وأجهزة الكمبيوتر التى تحتاجها العملية التعليمية، وقال عبدالمحمود عبدالرحيم مندوب السودان لدى الأممالمتحدة إن بلاده تثمن إشارات سكوت الإيجابية حول براءة بلاده من تهمة الإرهاب، داعيا إلى احترام خيارات السودان ورعاية المصالح المشتركة. وإذا كانت مساحة السودان مليون ميل مربع، ويعج بالقوميات والأعراق ومئات القبائل، ويدين بالكتب السماوية والأديان الأفريقية، وباللغات المتعددة والرطانات، كما أنه يجاور تسع دول أفريقية، من هنا تكمن مشكلاته، حيث فشلت مختلف الأنظمة التى تعاقبت على سد السلطة منذ استقلاله عام 1956، فى بسط نفوذ وهيبة السلطة المركزية على مختلف ربوعه، وبات بالتالى عرضة للأطماع الدولية والتدخلات الخارجية، فهل تنجح السياسة والإجماع القومى فيما فشل السلاح والحروب الأهلية والقبلية فى إرساء قواعد الاستقرار والسلام والوحدة الوطنية؟. لعل الأسابيع والشهور المقبلة تجيب عن هذه التساؤلات الممضة بالإيجاب، فيما لو انكرت زعامات السودان ونخبة السياسة ذواتها ورجحت المصالح العليا على المصالح الآنية الضيقة.