يمارس اليهود الالتزام الأخلاقى تجاه اليهود على وجه الحصر، أمّا تجاه باقى الجنس البشرى الذين يسمونهم «الغوييم»، أو «الأميين» بلغة القرآن الكريم، فلا تجب عليهم تجاههم أى مسئولية أخلاقية، وذلك وفق تعاليم التلمود؛ كتابهم المقدس. بعبارة أخرى، إنّ سلوك اليهود تجاه الآخرين تمليه المصلحة الأنانية العارية من أى مناقب أو أخلاق، ومن أجل هذه المصلحة لا يتورع اليهود عن التمثيل الزائف والادعاء الكاذب. وقد حكم هذا الواقع سلوك الحركة الصهيونية ودولتها منذ البدايات. ولطالما حاول الفلسطينيون والعرب تعرية هذه الطبيعة اللاأخلاقية للصهيونية وإسرائيل وفضحها، إلّا أنّهم كانوا دائمًا يفشلون، بحكم إتقان الصهيونيين فنون الكذب والتزوير المدعوم بنفوذهم السياسى الطاغى فى الغرب، وسيطرتهم الواسعة على وسائل الإعلام العالمية، حيث نجحوا فى إقناع جزء كبير من المجتمع الدولى والرأى العام العالمى بالسردية الإسرائيلية، بما فى ذلك كون إسرائيل واحة للديمقراطية وسط صحراء الاستبداد العربية، وأنّ ما يعانيه الفلسطينيون هو من صنع أيديهم لسلوكهم طرق الإرهاب، بدلًا من طرق السلام. على أساس تلك الثقافة التلمودية المضادة للأخلاق الإنسانية، نجحت إسرائيل فى الانضمام إلى الأممالمتحدة، بعد أن تمكّنت من إقناع أغلبية الدول الأعضاء فيها بأنّها دولة محبة للسلام، ومخلصة لمبادئ ميثاق الأممالمتحدة، وملتزمة بقرارات الشرعية الدولية، ولاسيما القرارين الرئيسين فى تلك الحقبة؛ قرار تقسيم فلسطين الذى وضع شرعية دولية لإقامة دولة لليهود فى فلسطين، إلى جانب دولة لعرب فلسطين، وإلى جانب وضع دولى خاص لمدينة القدس. وقرار عودة اللاجئين إلى بيوتهم التى هُجّروا منها، وتعويضهم عمّا أصابهم من أضرار نتيجة تهجيرهم. ولذلك، حين أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 273 بقبول عضوية إسرائيل، بتاريخ 11 مايو 1949، ضمّنت القرار الحيثيات التالية، بمثابة شروط لصحة هذه العضوية: «الجمعية العامة، مستذكرة قراراتها فى 29 نوفمبر 1947 (قرار تقسيم فلسطين)، وفى 11 ديسمبر 1948 (قرار عودة اللاجئين وتعويضهم)، وآخذة بالاعتبار الإعلانات والإيضاحات التى قدّمها ممثّل إسرائيل أمام اللجنة السياسية الطارئة فيما يخص تنفيذ إسرائيل لأحكام القرارين المذكورين، تقرر أنّ إسرائيل دولة محبة للسلام، وقابلة للالتزامات المترتبة عليها بموجب ميثاق الأممالمتحدة، وقادرة على تنفيذ هذه الالتزامات وراغبة فى ذلك، ولذلك تقرر قبولها فى عضوية الأممالمتحدة». وكانت إسرائيل قد لمعت صورتها كدولة ذات توجهات إنسانية وديمقراطية فى وثيقة «إعلان الاستقلال»، فى 15 مايو 1948، بأن ضمّنت الوثيقة النص التالى: «تدأب إسرائيل على تطوير البلاد لمصلحة سكانها جميعًا، وتكون مستندة إلى دعائم الحرية والعدل والسلام، مستهدية بنبوءات أنبياء إسرائيل. وتحافظ على المساواة التامة فى الحقوق، اجتماعيًا وسياسيًا، بين جميع رعاياها، دون التمييز من ناحية الدين والعرق والجنس. وتؤمّن حرية العبادة والضمير واللغة والتربية والتعليم والثقافة، وتحافظ على الأماكن المقدسة لجميع الديانات، وتكون مخلصة لمبادئ ميثاق الأممالمتحدة. إنّ دولة إسرائيل مستعدة للتعاون مع مؤسسات وممثلى الأممالمتحدة على تنفيذ قرار الجمعية العامة الصادر بتاريخ 29 نوفمبر عام 1947، وللعمل على إنشاء وحدة اقتصادية تشمل أرض إسرائيل برمتها». لكنّ الثقة بالنفس والعنجهية اللتين غذّتهما قوتها العسكرية ونفوذها الطاغى على سياسات الدولة الأقوى والأغنى فى العالم، الولاياتالمتحدةالأمريكية، ونجاحها فى استدراج الدولتيْن العربيّتيْن الأكثر ثراءً، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى تحالف عسكرى ضدّ إيران، جعلها تكشف عن طبيعتها العنصرية، وإنكارها الكامل لحقوق الفلسطينيين الوطنية، بل ولجميع ما كانت تدّعيه من إنسانية وديمقراطية، وذلك بإقرار برلمانها «قانون القومية» (قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودى) الذى ينضح بالأيديولوجيا العنصرية والدعاوى الاستعمارية الصريحة، ويخلو بصورة لافتة من أى عبارات تعكس أبسط القيم الإنسانية والحضارية التى بلغتها البشرية فى القرن الواحد والعشرين، مثل المساواة والسلام والعدل وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وذلك خلافا لما حرصت على إظهاره رياء وزيفا فى وثيقة الاستقلال. بل يعلن مطلع هذا القانون الأساس بكل صراحة ووضوح ودون أدنى شبهة استحياء أو خجل تحت عنوان «المبادئ الأساسية» ما يلى: أ. أرض إسرائيل هى الوطن التاريخى للشعب اليهودى، وفيها قامت دولة إسرائيل. ب. دولة إسرائيل هى الدولة القومية للشعب اليهودى، وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعى والثقافى والدينى والتاريخى لتقرير المصير. ج. ممارسة حق تقرير المصير فى دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودى. ثم يسترسل النص بأنّ القدس الكاملة والموحدة هى عاصمة إسرائيل؛ وأنّ الدولة تهتم بالمحافظة على سلامة أبناء الشعب اليهودى ومواطنيها الذين تواجههم مشكلات بسبب كونهم يهودًا أو مواطنين فى أى دولة. وفى الشتات تعمل الدولة على المحافظة على العلاقة بين الدولة وأبناء الشعب اليهودى، والمحافظة على الميراث الثقافى والتاريخى والدينى اليهودى لدى يهود الشتات. أمّا بخصوص العقيدة الاستعمارية، فينص القانون بلا مواربة على أنّ الدولة تعتبر تطوير استيطان يهودى قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته. *** من أخطر ما يعبّر عنه هذا القانون هو غياب الإشارة إلى أى حدود للدولة اليهودية، بل إنّ هذه الدولة تقوم حيث يمارس يهود العالم، وتعدادهم بعشرات الملايين، حقهم الحصرى فى تقرير مصيرهم فى «أرض إسرائيل». ولكن ما هى حدود هذه الأرض؟ لعل من أوثق وأخطر التعريفات لأرض إسرائيل هو ما ورد فى الكتاب السنوى لحكومة إسرائيل لعام 1955 (الصفحات 320 و321) أنّ أرض إسرائيل تقع عبر الجسر البرى العرضى بين أرض نهر النيل من جهة وأرض نهرىّ دجلة والفرات من جهة أخرى. ومن الصعب الشك فى أنّ هذا «الجسر البرى العرضى» لا يضم مدينة مكة، حيث أقام إبراهيم، أبو يعقوب «إسرائيل»، قواعد الكعبة. كما من الصعب الشك فى أنّ الشعب اليهودى المختار سوف يغفل عن الادعاء بحقوق تاريخية فى بساتين بنى النضير وبنى قينقاع فى المدينةالمنورة وفى خيبر. ولا يتردد قانون القومية فى العبث برمزية كانت حتى الآن تدعى بها إسرائيل أن لديها حدا أدنى من الاحترام لوجود الأقلية العربية من أصحاب الأرض الأصليين، والذين على الرغم من تهجير غالبيتهم ما زال الباقون يشكلون 20 % من مواطنى الدولة، وهى الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية بصورة مطلقة – فى هذا الشأن يقتصر قانون القومية على النص بأن للغة العربية مكانة خاصة فى الدولة، وينظم استعمالها فى المؤسسات الرسمية أو فى التوجه إليها بموجب القانون. لقد أتى على الدول العربية عهد ذهبى تضامنت فيه على عزل إسرائيل فى المجتمع الدولى؛ عن طريق المقاطعة الاقتصادية الصارمة التى ألحقت أبلغ الأذى بالاقتصاد الإسرائيلى إلى الوقت الذى انهار سدّها المنيع بفضل معاهدات السلام المصرية الإسرائيلية والأردنية الإسرائيلية. فى ذلك العهد الذهبى من التضامن العربى نجحت الدول العربية أيضًا فى حشد الدعم الدولى ضدّ السياسات العنصرية الإسرائيلية، وتُوّج هذا الحشد، وكُرّست عزلة إسرائيل، من خلال قرار الأممالمتحدة رقم 3379 فى نوفمبر 1975، القاضى بأنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية. وقد استند هذا القرار إلى قرارات سابقة أصدرتها الأممالمتحدة داعية إلى القضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى، وقرارها عام 1973 الذي أدانت فيه في جملة من الأمور، منها التحالف الآثم بين العنصرية والصهيونية، وصولًا إلى المبدأ القائل بأنّ «التعاون والسلم الدولييْن يتطلبان تحقيق التحرر والاستقلال القوميين، وإزالة الاستعمار والاستعمار الجديد، والاحتلال الأجنبي، والصهيونية، والفصل العنصرى، والتمييز العنصرى بجميع أشكاله، وكذلك الاعتراف بكرامة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. كما اعتمد القرار على ما صدر عن دورة رؤساء دول وحكومات الوحدة الإفريقية في أغسطس 1975، والذى رأى أنّ النظام العنصرى الحاكم في فلسطينالمحتلة، والنظامين العنصريين الحاكمين فى زيمبابوى وجنوب إفريقيا ترجع إلى أصل استعماري مشترك، وتشكّل جميعها كيانًا كليًا، ولها هيكل عنصرى واحد، وترتبط ارتباطًا عضويًا في سياستها الرامية إلى إهدار كرامة الإنسان وحرمته. وكذلك الإعلان السياسي واستراتيجية تدعيم السلم والأمن الدوليين وتدعيم التضامن والمساعدة المتبادلة فى ما بين دول عدم الانحياز اللذين تمّ اعتمادهما في مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز في أغسطس 1975، واللذين أدانا الصهيونية بوصفها تهديدًا للسلم والأمن العالمييْن، وطلبا مقاومة هذه الأيديولوجيا العنصرية (الإمبريالية). لقد وضع هذا القرار إسرائيل فى عزلة دولية رهيبة وفى خانة الدولة المارقة، ولم تفرج هذه العزلة إلّا بعدما سارت السياسة الإسرائيلى فى خديعة السلام، ابتداءً من مؤتمر مدريد، حين قرنت مشاركتها فى المؤتمر بإلغاء هذا القرار، فتمّ لها ذلك بموجب القرار 46/86، الصادر بتاريخ 16 ديسمبر 1991. واللافت أنّ قرار الإلغاء تضمّن جملة واحدة هى نصّ الإلغاء دون أن يتضمن القرار أية حيثيات خلافا لم جرى عليه التقليد فى صياغة القرارات!. بعد الفشل الشامل الذى آلت إليه السياسات الفلسطينية والعربية، فيما يخص القضية الفلسطينية، والاحتلال الاستعمارى الصهيونى للأراضى العربية، يأتى قانون القومية الإسرائيلى ليشكل البيان غير المسبوق فى صراحته وشفافيته ودقة فضحه للقواعد العنصرية والاستعمارية التى يقوم عليها المشروع الصهيونى الذى يمثل التوجه الجغرافى السياسى من طرف الدولة الأقوى عسكريا فى المنطقة العربية نحو هذه المنطقة بأن يعلن هذه المنطقة بكاملها «أرض إسرائيل» التى يتمتع الشعب اليهودى فيها بحق تقرير المصير حصريا به، مجردا سكان المنطقة الأصليين من هذا الحق بمن فيهم من سبق ومنحهم الجنسية والمواطنة الإسرائيلية، ومعلنا أن مجاله الحيوى هو المنطقة العربية بأسرها. بهذه المواصفات نجد أن المشروع العنصرى الصهيونى يماثل المشروع النازى الذى سبق وأعلن أن طموحه القومى يحتاج إلى «مجال حيوى» أكبر من التراب الألمانى، لكن المشروع الصهيونى يتفوق على النازية الألمانية لأن هذه الأخيرة بشرت باستعمار أوطان الآخرين لكنها لم تبشر بإحلال الألمان محل شعوب هذه الأوطان. *** لعل أهم نتائج قانون القومية الإسرائيلى، وربما هى الإيجابية اليتيمة فيه، أنه ينسف المبادئ التى قامت عليها شرعية معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ومعاهدة وادى عربة الأردنية الإسرائيلية، واتفاقية أوسلو وملحقاتها، ويجعلها جميعًا لاغية وباطلة قانونيًا. فى مقدمة هذه المبادئ القاعدة القانونية المستقرة فى النظرية الحقوقية للتعاقد وهى أن صحة العقود وسلامة التعاقد مرتبطة بديمومة صفات شخصية الطرف المتعاقد وبصحة وسلامة موضوع التعاقد بالنسبة لكل من الأطراف المتعاقدة. وكل من دولة مصر ودولة الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ما زالت تمتلك صفات الشخصية القانونية ذاتها التى تعاقدت مع «دولة إسرائيل» بما عرف بمعاهدات السلام. لكن «دولة إسرائيل» بعد قانون القومية فقدت صفات الشخصية التى ادعتها وقت إبرام التعاقد ولم تعد تحترم موضوع التعاقد لأنها ببساطة أصبحت الدولة التى لا تتنكر فقط للمواثيق الدولية التى كانت ضمن الحيثيات التى تم التعاقد على أساسها، بل تصر على الإمعان فى احتلال واغتصاب أراضى دول جوارها واستعمار شعب أصيل من شعوب المنطقة وسلب أرضه، وهى الدولة التى تعلن أن أوطان الدول التى عقدت معها معاهدات سلام هى أيضا ضمن «مجالها الحيوى» الذى يمارس فيه «الشعب اليهودى» حصريا حقوقه فى تقرير مصيره بما فى ذلك الاستيطان فيها وتطهيرها عرقيا بإجلاء سكانها الأصليين. إن صدور « قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودى» هو أشبه بقرع ناقوس ضخم قد يؤدى إلى يقظة الفلسطينيين والعرب لكى يستعيدوا التوجه الصحيح للبوصلة القومية ويرتدوا عن هوّة الانتحار الحضارى التى ما انفكوا مسرعين نحوها مصداقا لحكمة فيلسوف التاريخ أرنولد تونبى القائلة: الأمم والحضارات لا تفنى بالقتل بل بالانتحار. فإن لم تكن الأمة العربية فى وارد ارتكاب جريمة الانتحار، فإن السياسات المستحقة لمجابهة المشروع الصهيونى هى التى تستعيد التضامن العربى، وتعيد بناء جدار المقاطعة والعزل ضدّ الدولة الصهيونية. وإذا كان ثمّة تهديد أو سياسات عدائية تقوم بها إيران أو تركيا أو غيرهما من القوى الإقليمية، فإن هذا لا يعفى الدول العربية من مسئولية إدراك الأولويات، والتمييز بين المخاطر العابرة التى تمثّلها الخلافات بين دول الجوار والخطر الوجودى الذى تمثّله الدولة الصهيونية. وليس من كريم الأخلاق أن تُترك مسئولية المقاطعة وجهدها، ومهمة التصدى للعنصرية الإسرائيلية، فى يد الشباب الأوروبى والأمريكى بينما أصحاب الحق الأصليين فى غيبوبة مخزية.