هذه حكاية مثيرة فى وقائعها وتفاصيلها، أعرف شخوصها، وسمعتها منهم ربما أكثر من مرة، ولكن قراءتها لها مذاق مختلف!! يشدك الكتاب الصادر عن دار الشروق والذى اشترك فى كتابته الدكتور جودة عبدالخالق والدكتورة كريمة كريم، حيث تجد فيه نبرة الصدق التى تعكس ذكريات عارية، ومكاتيب القدر. فى ذكرياته العارية يصف جودة البدايات، من لحظة الميلاد وأحوال الأسرة، وسر التسمية تبركا بالشيخ جودة فى قرية ميت العز حتى يعيش المولود الجديد، ويصف الإصابات أو الاختلالات التى استلزمت العلاج بالطرق الشعبية، والتى لا يدينها، بل ربما يدافع عنها. وتتناول كريمة البدايات بالنشأة المرفهة فى المعادى ضاحية الورود والزهور، وكيف حاول والدها إبعاد أسرته وبناته عن أنواء السياسة وتقلبات المجتمع. وتلعب مكاتيب القدر لعبتها فيتحول جودة من الدراسة الأزهرية أو الحرفة الصناعية ليذهب لدراسة العلوم الاقتصادية، كما تتحول كريمة من دراسة الهندسة فى ألمانيا إلى أسيوط ثم إلى العلوم الاقتصادية ليلتقيا فى جامعة القاهرة، وتبدأ قصة حب يعترف جودة أنها كانت من أول لحظة وتنكرها كريمة حتى هذه اللحظة!! الحكاية فى داخلها حكايات متعددة، فكيف تكون الأمور حين يلتقى عالمان مختلفان، فهما شخصان جاءا من كوكبين مختلفين، هو جاء من أطراف الريف وقاع المدينة، لا يدرى شيئا عن حياة المدينة الصاخبة، وهى جاءت من ضاحية الرشاقة والرفاهية لا تدرى شيئا عن أحشاء المدينة ومعاناتها. التقيا كما شاءت الأقدار، هو يذكر ماذا كانت ترتدى حين شاهدها أول مرة، وهى شدها نموذج الكفاح والعقل الذى حقق المركز المتقدم علميا بين أقرانه رغم ضيق الإمكانيات. يجمعهما العمل، وحين يقرران الارتباط يتوقع الجميع أن يحول التباين الثقافى والاجتماعى دون إتمام هذا الارتباط. هذا التباين الهائل أسماه جودة فى ذكرياته «الفالق»، مشيرا إلى ما يفصل القارات والبشر فى عالم الجغرافيا والجيولوجيا. يسأل الأب الفتى لماذا تريد الزواج من ابنتى، يرد الشاب بتلقائية وعفوية لأننى أحبها، وحين يسأل الأب ابنته تقول لقد اخترت بعقلى، بينما الاختيار هو أقرب للجنون منه إلى العقل، فكيف يتواءم من درس فى كتاب ميت العز مع خريجة مدرسة الراهبات الألمانية بقاهرة المعز؟. كريمة تصر حتى اليوم على أن عقلها هو الذى اختار، قلت لنفسى هى صادقة، ولكنها لا تدرك أن عقلها يسكن فى أعماق قلبها!! تتوالى الحكايات فى الكتاب، فالشاب يرفض السفر فى بعثة دراسية دون زوجته، ويسافر إلى كندا فى منحة قصيرة لتلحق به زوجته ويقرران البقاء فى كندا للحصول على الدكتوراه، هنا تبدأ قصة المعاناة والصمود، فلقد نفدت مواردهما، ويتعرضان لعواصف الحياة وقسوة البشر، ولكن تأتى نسمات إنسانية جميلة، حين يعرض زميلان استعدادهما للتنازل عن مرتب البعثة لأحدهما ليشاركا الشاب وزوجته مصاريف المعيشة والدراسة، أو حين يعرض عليهما مدير الشركة التى يعملان بها قرضا لتسديد رسوم الدراسة حتى لا يفوتهما موعد التسجيل فى الجامعة فى الوقت المحدد. كان كفاحهما من أجل البقاء ونيل العلم مؤثرا، فقد مارسا مختلف المهن، وتعرضا لضغوط بدنية ونفسية، ليصل السرد بذروة الدراما حين تنفرج الأزمة المستحكمة فى الدقائق الأخيرة، ويحصلان على وظائف تكفل لهما العيش والسكن والدراسة، فكان الأمر كما وصفته كريمة وكأنه فيلم هندى ينتهى نهاية سعيدة سريعة بعد عناء طويل وحزن مقيم. تتعجب من قدرة الصمود لدى الشابين، خاصة بنت الأكابر التى اعتادت على العز والراحة، فكيف تحملت ما وصفته فى ذكرياتها من ظروف المعيشة الصعبة، لعلها قوة الحب التى ألهمتها هذا الصمود الهائل، إنه الحب وإن أطلقت عليه أسماء أخرى. يستكملان الماجستير فى تزامن مخطط، لتأتى مرحلة الدكتوراه فى شرق كندا حيث حصل كل منهما على منحة دراسية كاملة، لتبدأ رحلة سعيدة يقول جودة وكأنها شهر عسل جديد. كتاب «حكاية مصرية» فى رأيى هو حكاية «حب» مصرية، انتصر فيها الحب على التقاليد والأعراف والمنطق وقسوة الحياة وبعض الناس الأشرار. كريمة تقول إن القصة لا صلة لها بالحب، ويسألها جودة بهدوء، «هو عيب يا كريمة؟» (يقصد الحب)، قلت لها هذا هو تحليلى إنها قصة حب، فقالت لى أنت حر فى تفسيرك، فأنت تفسر على قدر عقلك، فوعدتها أن أكتب مقالا وتحليلا للكتاب يحمل فى عنوانه «على قدر عقلى». [email protected]