قادتنى دعوة ملحة قبل أيام لحضور ملتقى الإعلام العربى الذى يقام فى القاعة الرئيسية لجامعة القاهرة.. وخلال أكثر من عشر سنوات لم أكن قد زرت الجامعة إلا فى مناسبات قليلة قادتنى قدماى فيها إلى كلية الإعلام حين كانت تحتل بعض طوابق فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وبعد ذلك حين استقلّت بمبنى خاص بها فى ركن قصى من الحرم الجامعى.. وأما القاعة الرئيسية للجامعة والحرم الدائرى المؤدى إليها تحت القبة، فلم تطأه قدماى منذ زمن بعيد.. منذ تخرجت فى كلية الآداب قبل عمر طويل!! الإحساس بالغربة هو الشعور الذى لا يفارقك، وأنت تقطع الطريق إلى القاعة وتصعد سلالمها الرخامية المغطاة بالأتربة والأوراق الممزقة، وقد بدا وكأن الجامعة قد ضاقت بمن فيها وما فيها. فالأعداد الغفيرة من الطلبة والطالبات الذين اكتظت بهم الساحة، يقفون جماعات فى عرض الطريق.. لا هم فى الطريق إلى المحاضرات ولا هم عائدون منها، وكأنهم يقضون أوقاتا ممتعة فى التمشية والتسلية دون هدف واضح. على أيامنا كانت الفتيات أكثر أناقة واحتشاما وبدون حجاب. ولكن أعدادهن زادت هذه الأيام، وغلب عليهن ما غلب على مبانى الجامعة من قدم وتهدل. غير أن أكثر ما يلفت النظر هو تلك الأعداد الكثيفة من رجال الشرطة بزيهم الرسمى وهم الذين يطلق عليهم شرطة الحرس الجامعى.. يقفون على الأبواب والمداخل.. وفى خضم هذا الزحام يصعب أن تعرف ما هى وظيفة الحرس الجامعى فى أوساط الطلبة.. وهم يقولون إن وظيفتهم هى الحفاظ على الأمن، ومنع اندساس عناصر خارجية بين الطلبة، وخصوصا فى أوقات الأزمات السياسية والاضطرابات والمظاهرات الطلابية. ولابد من الاعتراف بأن ما تراه من غلبة لباس الشرطة على المظهر العام للجامعة، يعد منظرا فريدا من نوعه فى العالم. وقد أتيح لى أن أزور جامعات فى مشارق الأرض ومغاربها.. فى أوروبا وآسيا، وفى الصين والهند واليابان.. وطبعا فى الجامعة الأمريكية، فلم ألحظ أبدا ذلك التواجد البوليسى المثير للانتباه والذى يجعلك تعتقد أنك دخلت مكانا آخر غير الجامعة، قد تتعرض فيه حياتك للخطر، أو ربما قد تقع فيه حادثة إرهابية أو تفجير عشوائى. نظريا.. من الممكن أن يحدث ذلك، ولكنه من الناحية العملية وطوال تاريخ الجامعة لم يحدث شىء من هذا القبيل فى حرم جامعة مصرية، ولم يحدث ما حدث فى بعض الجامعات والمدارس الأمريكية، عن الطلبة الذين يدخلون إلى فصولهم مدججين بمسدس أو بمدفع رشاش فى نوبة غضب أو جنون ليحصد الواحد منهم أرواح الأساتذة والتلاميذ. والحقيقة أن الوجود الأمنى الكثيف، الذى لم تعد تخلو منه مؤسسة أو هيئة أو جامعة أو شارع.. لا يعطى إحساسا بالأمان بل العكس. وهو ما أدى إلى زيادة الحركات المعارضة لسياسات الجامعة، سواء من جانب الأساتذة أو من جانب الطلاب، بسبب غياب قنوات الحوار والاتصال بين الطلاب والأساتذة وبين الطلاب وإدارة الجامعة، وبين الطلاب والحياة العامة.. بحيث أصبح لأمن الدولة القول الفصل فى كل الأنشطة الجامعية على اختلافها، وضاعت استقلالية الجامعة وحرية الفكر فى أجواء ملبدة بالخوف والتربص. ومن هنا يبدو رأى هيئة مفوضى الدولة فى تقريرها عن قضية إلغاء الحرس الجامعى التابع لوزارة الداخلية، وأن تحل محله وحدات أمن جامعى مدنية تابعة لرئيس الجامعة، هو الحل الأمثل. لقد احتفلت جامعة القاهرة بعيدها المئوى قبل أسابيع قليلة.. وكان الأولى أن تنتهز هذه الفرصة لتعيد ولادة الروح الجامعية فيها من جديد، وتتخلص من أوجه القصور التى أفقدتها كثيرا من بهائها واحترامها ومكانتها فى العالم.