منذ أن بدأ الإنسان يعى وجوده على الأرض، وهو مأخوذ بصورة السماء ومواقع النجوم وحركة الأجرام السماوية بزوغا وأفولا وسياحة فى الفضاء الفسيح، وقد أخذه هذا الشغف بأسرار السماء فى اتجاهات عقلية شتى: من أقصى حدود العلم والتفكير العلمى المجرد، إلى أقصى حدود الخرافة والتفكير الخرافى المضلل، مرورا بالخيال أدبيا كان أو علميا، وبالصراع المفتعل بين صورة السماء فى المجاز الدينى وبين صورتها فى علوم الطبيعة والفلك، وكلها ينتهى بطرح الأسئلة وبالبحث عن الإجابات حول حقائق الوجود ونشأة الكون والعلاقة بين أحوال السماء وأحوال الإنسان نشوءا ومآلا. واحدة من قضايا العلم الشائكة، التى أنتجها هذا الشغف الإنسانى بالسماء تتداولها معاهد البحث العلمى حول العالم هذه الأيام إثر الإعلان عن رصد ما يبدو أنه فراغ كونى هائل، يبدو وكأنه تجويف مظلم فى قلب الكون، وإن كان يقع على أطرافه، يبلغ قطره نحو مليار سنة ضوئية، والسنة الضوئية هى المسافة، التى يقطعها الضوء فى سنة كاملة، وحيث إن سرعة الضوء هى حوالى 300 ألف كم/ثانية فإن السنة الضوئية تقدر بأقل قليلا من عشرة آلاف مليار كم، أى بواحد وإلى يمينه ثلاثة عشر صفرا من الكيلومترات! فالمسافات فى الفضاء مسافات هائلة، ومن أجل ذلك اتفق العلماء على قياسها بقدر ما يحتاجه الضوء ليقطعها، وهكذا، فبدلا من التعبير عن المسافة بين الأرض والشمس بالكيلومترات فإن العلماء يقدرونها بنحو ثمانى دقائق ضوئية، ذلك أن الضوء يحتاج لنحو ثمانى دقائق ليقطع الرحلة من الشمس إلى الأرض. فإذا كنت ترى الغروب الساعة السادسة مساء مثلا فاعلم أن الشمس كانت قد غابت عن خط الأفق فعليا قبل ذلك التوقيت بأكثر من ثمانى دقائق، وإذا افترضنا جدلا أن الشمس قد اختفت من الوجود فجأة، وبقيت الأرض فى مدارها، فإن أهل الأرض لن يشعروا باختفاء الشمس قبل أكثر من ثمانى دقائق بعد اختفائها! يبلغ قطر الفراغ العظيم إذن نحو مليار سنة ضوئية، أى المسافة التى يقطعها الضوء فى مليار سنة، وهى حوالى عشرة آلاف مليار كم، ويقع هذا الفراغ كما يقدر العلماء على بعد ما بين 5 و 10 مليارات سنة ضوئية من الأرض، وهو فراغ لا توجد به أى أجرام سماوية، ولا تكاد توجد به أى مادة على الإطلاق، بما فى ذلك المادة المعتمة على الأرجح. فإذا وقفت افتراضا على أطرافه ورأيت السماء تتلألأ عن يمينك فإنك لن ترى على يسارك إلا ظلاما حالكا، أو هكذا تبدو الأمور من واقع التحليل الإحصائى للبيانات، التى جمعها العلماء من أكثر من مصدر لمراقبة السماء، سواء كانت مصادر هذه البيانات محطات رصد أرضية أو أقمار اصطناعية بحثية متخصصة فى رسم خرائط الكون اعتمادا على صور الانبعاث الحرارى الصادر عن المادة التى تملأ الفضاء حتى أعماقه السحيقة بالنسبة لنا. سر الاهتمام بهذا الفراغ العظيم يعود إلى علاقته بالنظرية الأهم فى تشكل الكون التى تفترض أن انفجارا عظيما لطاقة هائلة قد حدث قبل نحو 15 مليار سنة أو أقل قليلا، وهذا القليل بلغة عمر الكون قد يكون نحو ألف مليون سنة أو أكثر! وتفترض النظرية أنه قد انطلقت إثر هذا الانفجار العظيم كل إشعاعات الطاقة وكل المادة التى تشكل الكون الآن، فالأرض وفقا لهذا التصور ليست إلا شظية من شظايا هذا الانفجار العظيم، أو هى فى الحقيقة الصورة، التى تجمعت عليها بعض الشظايا، التى تكونت ضمن عدد هائل من الشظايا التى انتشرت بشكل شبه منتظم فى كل الاتجاهات لتشكل الكون، الذى يتمدد باستمرار منذ حدوث هذا الانفجار العظيم! لماذا يتمدد الكون.. وكيف يتمدد.. وأين يتمدد.. وإلى متى يستمر فى تمدده.. وما مصيره بعد كل هذا التمدد؟ مثل هذه الأسئلة تجد إرهاصات إجاباتها فى اجتماع الفيزياء بالفلسفة، وقد نعود إليها أو لبعضها فى أعداد مقبلة من صفحتنا، بيد أن الشىء المؤكد هو أن الكون قد تمدد بالفعل إلى أعماق سحيقة بالنسبة للأرض، وما زال يتمدد حتى الآن، وأن الوهج الناتج عن الإشعاعات الكهرومغناطيسية، التى تولدت فى أعقاب الانفجار الكبير إنما تملأ خلفية المشهد الكونى كله، وهى إشعاعات لا تبعد عنا فى المكان وحده، وإنما هى تبعد عنا فى الزمان أيضا. لأن ما يصلنا منها إنما استغرق نحو خمسة عشر مليار سنة هى عمر الكون فى رحلته من أطراف الكون حتى وصل إلينا، وما نراه من هذه الإشعاعات الآن هو الحالة، التى كانت عليها فى ذلك الزمن السحيق، أما حالتها التى هى عليها سنة 2009 للميلاد فلن تعرفها إلا الأجيال، التى تولد بعد خمسة عشر مليارا وألفين وتسعة من السنين أو أقل أو أكثر هذا إذا ما بقيت البشرية تعمر الأرض، وبقيت الأرض على سنتها، حتى سنة خمسة عشر مليارا وألفين وتسعة للميلاد! مثل هذا التمدد الكونى يؤدى بالضرورة إلى تباعد شظايا الانفجار العظيم عن بعضها البعض، أو هو فى الحقيقة يحدث نتيجة تباعد هذه الشظايا، وابتعاد التكوينات الفضائية عن بعضها البعض بفعل حركة التمدد الكونى هذه إنما يفترض وجود فراغات تتسع بين هذه التكوينات، لكنها تبقى وفقا لنظرية التجانس الكونى موزعة بشكل شبه منتظم وإن لم يكن متماثلا على كامل الفضاء الكونى، مثلما قد تنشأ بعد انفجار قنبلة فى مكان ما مناطق محدودة لا توجد بها شظايا، لكن من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن ننظر إلى كامل مساحة مكان الانفجار فنرى جزءا كبيرا وملحوظا منه، وقد بقى خاليا تماما من الشظايا. ما يشغل بال العلماء إذن هذه الأيام ليس وجود الفراغات، فالكون كما أسلفنا ملئ بمثل هذه الفراغات، ولا هو يشغلهم اتساع هذه الفراغات، فالكون كما أسلفنا يتمدد باستمرار، وإنما يشغل بال العلماء عدم الانتظام الذى رصدوه فى توزيع هذه الفراغات على كامل اتساع شبه الكرة الكونية، التى نرصدها من موقعنا النسبى فى الكون، بحيث تبدو الفراغات وكأنها تتركز بشكل لافت فى جزء من الفضاء الكونى دون أجزائه الأخرى. واكتشاف هذا الفراغ لم يتم بالرؤية البصرية المباشرة، وإنما بتحليل كم هائل من البيانات وفره قمر اصطناعى بحثى، معروف اختصارا باسم WMAP، كانت قد أطلقته وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لرصد وقياس بقايا الانبعاثات الإشعاعية الناتجة عن الانفجار العظيم، أو ما يفترض العلماء أنه كان انفجارا عظيما، وهى انبعاثات فى صورة وهج إشعاعى يملأ كما أسلفنا خلفيات المشهد الكونى كله. هناك من الأسباب العلمية ما يجعل العلماء يعتقدون أن رصد هذه الإشعاعات التى تحمل بصمة التطورات، التى مر بها الكون منذ كان طفلا حتى الآن إنما يساعد على رسم خريطة الكون، وأن رصد منطقة فى خلفية المشهد الكونى تكون باردة تماما إنما يشى بحقيقة أن هذه الإشعاعات قد عبرت فى رحلتها إلينا فراغا لا يحتوى على أى مادة على الإطلاق، بل لا حتى المادة المعتمة! وجود هذا الفراغ الكونى المثير للانتباه، أو بالأحرى دراسة «البقعة الباردة» التى تشى بوجود هذا الفراغ، هو موضوع ورقة علمية قام بإعدادها عالم الدراسات الفلكية الأمريكى لورنس رودنيك على رأس فريق من معاونيه بجامعة مينسوتا الأمريكية، وقد استرعت الورقة اهتمام الأوساط العلمية حول العالم المتقدم حتى قبل نشرها رسميا بإحدى المجلات العلمية المرموقة فى ديسمبر 2008. وفى هذه الورقة قام رودنيك وفريقه بإجراء دراسة إحصائية لبيانات الرصد الأرضى للموجات الكهرومغناطيسية المنبعثة من المجرات، وتبين من التحليل الإحصائى أن ثمة انخفاضا غير عادى فى كمية الضوء الصادر عن المجرات الواقعة فى اتجاه البقعة الباردة، التى كان قد تم رصدها عند أطراف الكون بواسطة قمر الرصد WMAP، وهو ما يشى بقلة عدد المجرات فى هذا الاتجاه، الأمر الذى أوجد ما يشبه اليقين لدى الفريق البحثى بأن هذه البقعة الباردة، التى تم رصدها بواسطة قمر الرصد WMAP لابد وأن تكون بسبب وجود فراغ هائل يحتاج وجوده لتفسير علمى يتسق مع معطيات النظريات المعتمدة لنشأة وتطور الكون. حتى الآن لا يوجد تفسير متفق عليه لوجود هذا الفراغ العظيم، والنظريات التى يطرحها العلماء فى هذا الشأن تستدعى كل منها قضية علمية أو جملة قضايا علمية أكثر تعقدا من القضية الأصلية، التى يختلف العلماء حول تفسيرها، بعض هذه التفسيرات يطرحه لورنس رودنيك نفسه اعتمادا على نظريات محض فيزيائية، وبعض التفسيرات يتبناه فريق من العلماء اعتمادا على رؤية إحصائية أيضا لتوزيع الفراغات الكونية، ومن ثم فهى تقوم على نظرية جديدة للشكل العام للكون. ثم هناك تفسير ثالث يقوم على فكرة الوجود متعدد الأكوان Multiverse بديلا عن الرؤية التقليدية للوجود وحيد الكون Universe، وهى فكرة مؤداها أن هذا الفراغ العظيم عند أطراف الكون هو نتيجة تصادم بين الكون الذى نعرفه وبين كون آخر ربما يكون قد تكون فى وقت مقارب للوقت، الذى حدث فيه الانفجار العظيم، وهى نظرية فيزيائية تقوم على قدر كبير من المضاربات العلمية والفلسفية، لكنها تعتمد إطارا فكريا بدأ يجتذب عددا لا بأس به من العلماء. كل واحد من هذه التفسيرات الثلاثة وغيرها الكثير يفتح أمامنا آفاقا خصبة للتفكير فى مستقبل العلم والتكنولوچيا، وربما يدفعنا للتفكير أيضا فى أحوالنا، وفى موقعنا بالنسبة لعالم صار قادرا على تحويل همس الوجود القادم من أعماق الفضاء السحيق إلى رواية ملحمية تحكى قصة نشوء الكون العتيق وتكشف لنا بعض أسراره.