انتابنى شعور بالهلع حين سمعت مصطلح الفلسطينى الجديد لأنه بدا استعادة لتجربة صناعة الهندى الجديد، التى تعد إحدى الجرائم التاريخية الكبرى. 1 الذى تحدث عن الفلسطينى الجديد هو الجنرال كيث دايتون الذى يتولى رسميا وظيفة المنسق الأمنى وهو يقيم فى تل أبيب ملحقا بالسفارة الأمريكية هناك. أما وظيفته الفعلية فهى الإشراف على تهيئة الأوضاع فى الضفة الغربية بحيث تتوافق تماما مع الرغبات والمخططات الإسرائيلية. وهى المهمة التى يحتل رأس أولوياتها تهدئة الهواجس الأمنية الإسرائيلية. من خلال تخليق جيل من الفلسطينيين نافر من المقاومة ومتصالح مع الإسرائيليين. من هذه الزاوية يغدو الفلسطينى الجديد كائنا ممسوخ الذاكرة، لا تاريخ يحثه ولا حلم يشده ولا أمل يتعلق به، وإنما هو مشغول بالتوافق مع المحيط المفروض عليه، ومهجوس بالدفاع عن سلطة منفصلة عن الأمة، ومحتمية بعدوها التاريخى. المقاومة عنده إرهاب، وفصائل النضال من بقايا عهد بائد عفا عليه الزمن. و«التعاون» مع الإسرائيليين إسهام مرغوب فى الاستقرار، وليس مجلبة للعار. هذا الفلسطينى الذى يريدونه كائنا غير الذى نعرفه. ومهمة الجنرال دايتون هى العمل على الإسراع بإنتاجه، كى يتسلم الزمام ويريح بال الإسرائيليين. والجهد الذى يبذله يتوزع على دوائر ثلاث هى: سلطة الإدارة والأجهزة الأمنية والمواطنون العاديون. ومن الواضح أن كل التركيز فى الوقت الراهن موجه إلى الدائرتين الأوليين. لأن ترويض الفلسطينى العادى مهمة بالغة المشقة وتحتاج إلى وقت طويل. لقد كانت الرسالة الشهيرة التى وجهها ياسر عرفات باسم منظمة التحرير إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحاق رابين (سبتمبر 1993) بداية مرحلة ترويض القيادة الفلسطينية واستسلامها فى أوسلو للضغوط الإسرائيلية. ولعل كثيرين يذكرون أن عرفات أعلن وقتذاك الاعتراف بإسرائيل ونبذ الإرهاب (فى إدانة صريحة للمقاومة) مؤكدا أن كل القضايا العالقة ستحل بالمفاوضات، الأمر الذى أغلق الأبواب أمام أى بدائل أخرى فى حسم الصراع. وهذه البداية شقت منحدرا انتهى إلى حيث اعتبر خلفه أبومازن أن المقاومة عمل «حقير»، وإلى حيث أصبح التنسيق الأمنى قائما بين السلطة الفلسطينية وبين سلطة الاحتلال للقضاء على المقاومة واستئصال عناصرها. وهى القرائن التى دلت على أن ثمة سلطة «جديدة» نالت رضا الإسرائيليين وتأىيدهم. الأمر الذى هيأ مناخا مواتيا للتقدم نحو تخليق الفلسطينى الجديد فى الأجهزة الأمنية. وهى المهمة التى تصدى لها الجنرال دايتون، وساندته فيها بقوة الرباعية الدولية. 2 فى مطلع شهر مايو الماضى ألقى الجنرال دايتون محاضرة فى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تحدث فيها عن جهوده فى إنتاج الفلسطينى الجديد المنخرط فى الأجهزة الأمنية. فقال إن عناصر تلك الأجهزة تم انتقاؤهم من خارج الفصائل، أى من خارج السياسة والدوائر ذات الصلة بالنضال (الإرهاب). بحيث يتحول الواحد منهم إلى شرطى ينتمى مهنة أكثر من انتمائه إلى وطن أو قضية. وعلى حد تعبيره فإن الشرطى يلقن ابتداء أنه يعد لكى لا يحارب إسرائيل، ولكن لكى يحفظ النظام ويطبق القانون لهدف أساسى هو: العيش بأمن وسلام مع الإسرائيليين. إلى جانب الإعداد العسكرى لأجهزة الأمن، فهناك الإعداد النفسى الذى يستهدف تغيير طريقة تفكير ذلك الجيل الجديد من الجنود، الذين يعملون تحت قيادة ضباط سبقوهم فى التعاون والتنسيق الأمنى مع الإسرائيليين، وهذا التنسيق له هدفان أساسيان هما ملاحقة عناصر المقاومة وإجهاض عملياتها. والحيلولة دون تصعيد التوتر بين الجماهير الفلسطينية وقوات الاحتلال. الجندى الفلسطينى «الجديد» أصبح لا يتردد فى تنفيذ تعليمات مطاردة أو خطف واغتيال المقاومين. والضابط الجديد أصبح على تنسيق يومى مع الإسرائيليين. حتى تباهى الجنرال دايتون بأن التعاون بين الضباط الفلسطينيين ونظرائهم الإسرائيليين حقق نجاحا كبيرا أثناء العدوان على غزة، لأنه ساعد على تهدئة الأمور فى الضفة، لدرجة أن الضباط الفلسطينيين كانوا يطلبون من الإسرائيليين الاختفاء عن الأنظار لساعة أو ساعتين من بعض المواقع، كى تمر المظاهرات دون أن يستفزها وجودهم. وذكر أن ذلك «التفاهم» حقق نتائج مدهشة فى بيت لحم لدرجة أن القائدين الفلسطينى والإسرائيلى تبادلا ثقة أدت إلى رفع حظر التجول فى المدينة رغم أنه مطبق فى الضفة كلها منذ عام 2002. كما أنها سمحت للفلسطينيين بإدارة نقاط التفتيش الخاصة بهم لوقف عمليات التهريب. عملية إنتاج الفلسطينى الجديد منزوع العداء لإسرائيل اعتمدت لها الولاياتالمتحدة 161 مليون دولار ويديرها الجنرال دايتون حقا، ولكن بمساعدة فريق أمنى من كندا والمملكة المتحدة وتركيا. أما معسكرت تأهيل أولئك الضباط والجنود فتتم فى الأردن. وهذا الفريق الأمنى على صلة يومية مع فريق من رجال الشرطة الأوروبيين الذين يساعدونهم فى تنفيذ مخططهم. فى ختام محاضرته قال دايتون إن الإسرائيليين مهتمون للغاية بعملية إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية، معتبرين أن نجاح جهود إنتاج الفلسطينى الجديد هو الضمان الحقيقى لاستقرار السلام فى المنطقة. 3 إذا أضفنا إلى ما سبق تغيير أسماء المدن إلى العبرية، والضغوط التى تمارسها إسرائيل لمحو تاريخ النكبة والنضال الفلسطينى من مناهج التعليم فى الضفة، بما يؤدى إلى محو الذاكرة الفلسطينية، فإننا نكون بإزاء «سيناريو» إحلالى يطبق فى فلسطين ما سبق تطبيقه مع الهنود الحمر منذ ثلاثة قرون تقريبا. ذلك أن ما يجرى الآن هو صورة طبق الأصل لما فعله المهاجرون البروتستانت الإنجليز حين وفدوا إلى بلادهم التى عرفت فيما بعد باسم الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهى التجربة المثيرة التى وثقها بمختلف فصولها المروعة الباحث سورى الأصل منير العكش المقيم فى الولاياتالمتحدة وهو مؤسس مجلة «جسور» التى تصدر بالإنجليزية. وأستاذ الإنسانيات بجامعة «سفك» فى بوسطن. وقد صدر له فى الموضوع كتابان. (عن دار رياض الريس ببيروت) أحدهما سنة 2002 عن الإبادة الجسدية الجماعية للهنود، كان عنوانه: حق التضحية بالآخر أمريكا والإبادات الجماعية. أما الكتاب الثانى الذى عالج الجانب الذى نتحدث عنه فقد صدر فى شهر يوليو من العام الحالى. تحت عنوان «أمريكا والإبادات الثقافية». الكتاب الأول تحدث عن استئصال الهنود، والثانى تحدث عن طمس هوية من بقى منهم على قيد الحياة، بحيث لا يصبح الهندى هنديا حقيقيا، وإنما يغدو «مخصيا» ثقافيا، ومن ثم إنسانا جديدا مقتلعا من جذوره ومنتميا إلى غير أهله. من النقاط المهمة التى أثارها الباحث أن الإنجليز البروتستانت حين نزحوا منذ بدايات القرن السابع عشر إلى ذلك العالم الجديد الذى أطلقوا عليه اسم إسرائيل، فإنهم اعتبروا أنفسهم «يهود الروح» (العبرية كانت لغة المتعلمين منهم والعهد القديم اعتبر مرجعهم ومرشدهم). وقد تمثلوا فى هجرتهم الخروج الأسطورى للعبرانيين من أرض مصر إلى أرض كنعان فى فلسطين. وبدورهم اقتنعوا بأنهم «شعب الله المختار»، وأن مشيئة الله تجسدت فى أرض كنعان الجديدة، كما جسدت فكرة إسرائيل مشيئة الله فى أرض كنعان القديمة (فلسطين). ولأنهم «الشعب المختار» فقد انطلقوا من أن معاملة السكان الأصليين فى البلاد التى هاجروا إليها لا تخضع للقوانين الأخلاقية أو المبادئ العقلية، ومن ثم اسقطوا عليهم فكرة كراهية العبرانيين للكنعانيين، التى سوغت للأولين ممارسة القتل والاغتصاب والاستعباد بدعوى تنفيذ المشيئة الإلهية، التى فوضتهم فى ذلك حين أمرت بذبح الفلسطينيين الكنعانيين. المشهد لا يخلو من مفارقة، لأن المهاجرين الإنجليز حين فعلوا ما فعلوه بحق الهنود الحمر، فأبادوهم واغتصبوا أرضهم فإنهم استلهموا تجربة خروج العبرانيين من مصر إلى أرض الكنعانيين فى فلسطين. ثم دارت دورة الزمن ووجدنا أن الإسرائيليين «العبرانيين» فى هذا الزمان استلهموا تجربة المهاجرين الإنجليز بجميع مراحلها، من الاستيطان إلى الاحتلال واستبدال شعب بشعب وصولا إلى استبدال ثقافة بثقافة. وفى هذا الشق الأخير فإن فكرة أولئك المهاجرين فى إنتاج الهندى الجديد. جرى استلهامها فى محاولة إنتاج الفلسطينى الجديد. إذ ظل الهدف واحدا، رغم اختلاف التفاصيل والأساليب. 4 تحدث المؤلف عن أنه فرح حين وجد بين طلابه فى الفصل الدراسى الجديد فتاة من أصول هندية اسمها سنج سوك، لكنه دهش حين دعاها باسمها مرة ومرتين ولم تجب. وبعد انتهاء المحاضرة جاءته بوجه شاحب وشفاه مرتعشة، ورجته أن يناديها باسم جينيفر، قائلة إنها لا تحب أن يناديها أحد باسمها الأصلى. واعتبر أن ذلك الخوف من الذات، الذى يستبطن كراهية للذات فى الوقت نفسه، هو من ثمار عملية إنتاج الهندى الجديد، الذى أريد له أن يخجل من هنديته فى نهاية المطاف ويشعر بالعار حين يستعيد أيا من بقاياها. عقب منير العكش على هذه الواقعة بقوله إن هناك شعوبا هندية كثيرة لم تفقد أسماءها الحقيقية وحسب، بل صارت لا تعرف سوى الاسم الذى فرضه عليهم غزاتها. واستطرد قائلا إنه: فى سياق هذا الاقتلاع والإخضاع والتعرية الثقافية، التى اعتبرها «المحرقة الأخيرة للوجود الهندى، مسخت فكرة أمريكا جسد ضحيتها الهندى وثقافته إلى مادة ملوثة للإنسان والطبيعة لابد من تطهيرها. وكانت برامج التعليم على رأس الوسائل التى استخدمت لكى «تزرع فى الطفل الهندى ذاكرة الغزاة ولغتهم ومزاجهم وأخلاقهم ودينهم.. بحيث يتدرب ذلك الطفل الشقى على الاشمئزاز من نفسه ومن كل ما حوله، ويشحن بالخوف من هنديته، والنظر إلى نفسه وإلى العالم بعيون جلادية. فى فصول الكتاب سجل المؤلف شهادات ومقولات منظرى الإبادة الثقافية التى تمت فى ذلك الحين، واختزلت فى عبارات مثل: اللغة والدين هما خط الدفاع الأخير للهنود ولابد من القضاء عليهما (الكابتن براد مؤسس مدارس الهنود 1840 1924) إن الهنود قد يتعافون من مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلم الهندى وتغسله فإنك ستقضى عليه حتما، عاجلا أم آجلا.. اقصف كل هندى بالتعليم والصابون ودعه يموت «مارك توين 1867» علينا أن نربى طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم. طبقة من هنود الدم والبشرة، لكنهم إنجليزيو الذوق والأفكار والتوجه والأخلاق والعقل «توماس مكولاى مؤسس السياسة التربوية فى أوساط الهنود 1800 1859». من المفارقات أن عملية إنتاج الهندى الجديد كانت من مهام مكتب الشئون الهندية، الذى تأسس فى سنة 1806، وقال المؤلف إنه يعد بلغتنا الحديثة «السلطة الوطنية الهندية»، التى قام عليها نفر من الهنود الذين تنكروا لأصولهم، وتسموا بأسماء إنجليزية، وهؤلاء اتبعوا أساليب بعضها تم استنساخه فى فلسطين، منها على سبيل المثال، فرض حصار خانق على الجماعات الهندية المماثلة التى تمتنع عن تسليم أطفالها لمدارس التأهيل، وقطع امدادات التموين عنها لفترة طويلة قبل اقتحامها واعتقال الآباء وخطف الأبناء وقتل الزعماء استخدام سياسة «السلام» لكى تكون الألة المثالية لسحق هندية الهنود وخلق جيل جديد من السماسرة الذين يسلمون بالأمر الواقع ويعترفون بشرعيته إقامة مدن للهنود «المتعاونين» الذين دخلوا فى دين الغزاة، واعتبروا المجتمع الهندى الوحيد الذى تم الاعتراف بشرعيته، وجرى تمثيله بقيادات ثم اختيارها «ديمقراطيا» (!). لا يحتمل الحيز المتاح مزيدا من التفصيل فى المعلومات والشهادات المثيرة التى حفل بها الكتاب، لكن الأكثر إثارة فيه أنك حين تطالع فصوله لابد أن تستحضر الحاضر، حتى يخيل إليك أنك تقرأ رصدا لما يحدث فى فلسطين هذه الأيام.