«لما كانت الزبالة بتتفرز هنا كان الحال أحسن كتير» يقولها جرجس صاحب كسارة بلاستيك بمنشية ناصر، رفض صاحب الكسارة، كأغلب سكان المنطقة، ذكر اسمه الحقيقى، فذكريات معارك المولوتوف والحجارة بين أهالى المنشية وجنود الأمن المركزى الذين اصطفوا أمام مدخل المنشية لإجبار الأهالى على تسليم خنازيرهم فى أبريل الماضى، مازالت حاضرة فى ذهن الجميع. هنا الحديث بحساب. يدخل جرجس إلى غرفة واسعة، أمام منزله، تحوى مئات الأشولة المليئة بزجاجات المياه المعدنية الفارغة. يساعد بيديه 3 من العمال يستأجرهم باليومية، فيدفع لكل منهم 35 جنيها لفرز وتكسير الزجاجات الخضراء التى يبيعها لمصانع مصرية. أما الزجاجات المعدنية فللتصدير فقط. «زمان كانت الزبالة بتيجى بخيرها كله، مافيش حاجة منها بتروح»، يقول صاحب الكسارة، إلا أنه بعد ذبح الخنازير، منعت محافظة القاهرة زبالى منشية ناصر من إدخال المخلفات العضوية إلى الحى. يضطر الزبالون الآن إلى جمع القمامة ونقلها إلى المدفن الصحى فى الوفاء والأمل. والفرز يتم هناك. الفريزة يرسلون المخلفات الصلبة إلى منشية ناصر، ويتركون وراءهم المخلفات العضوية. يؤكد صاحب الكسارة أنه لا يشعر بأن المنطقة القابعة فى حضن جبل المقطم، قد أصبحت أكثر نظافة بعد منع دخول المخلفات العضوية إليها. «إحنا اتعودنا على الريحة ومبقناش نحس بيها، ومكانتش فارقة معانا فى حاجة.» لكن ما يضايقه حقا هو أن «كميات البلاستيك اللى بتيجى من ساعة القرار قلت كتير» لأن الفرز فى المقلب أصعب والناس مش بتشتغل هناك بضمير، ولو فيه حاجة مش ظاهرة قدام عينيه بيسيبها». يعرف جرجس أن بعض الزبالين يجلبون القمامة خفية فى الأزقة الجانبية والحارات، توفيرا لأجرة نقل المخلفات إلى المقلب. «لكن النسبة دى متعديش 1% » على حد قوله. إلا أن هذه النسبة، إن كانت صادقة، يستطيع الزائر لمنشية ناصر الإحساس بوجودها فور دخوله. رائحة القمامة المحترقة تلف المكان. فبعد الفرز يتخلص الزبالون من الفائض بإشعال النار فيه. رغم أن جرجس لم يكن من مربى الخنازير،فإنه تأثر بغيابها، وهو ما يعكس، فى رأيه، الترابط بين مصادر دخل سكان منشية ناصر.كلهم يعتمدون على الزبالة بشكل أو بآخر فى اختلاق مهنة يتكسبون منها، «الناس كلها هنا، حتى اللى معاهم مؤهلات، عايشين على مهنة متعلقة بالزبالة»، كما يقول. يؤيد كلامه جولة سريعة داخل المنطقة. فى الصباح، تبدو منشية ناصر أشبه بمصنع ضخم، لا منطقة سكنية. الورش تتخذ من بدرومات وساحات البيوت مقار لها. لا يكاد يخلو بيت من كسارة أو مصنع صغير أو غرفة للفرز. النساء والأطفال أمام البيوت وعند كل باب نوع معين من المخلفات أو ما تم فرزه منها. أما الرجال فهم إما يعملون فى جمع القمامة أو فى ورش التدوير. «الحارس هو الله، والحل عند الله» يقول أبانوب، 52 سنة، معلقا على حال مخزن فرز الورق الذى يملكه. فى الدور الأرضى لمنزل أبانوب غرفتان واسعتان يستخدمهما أبانوب فى تخزين الورق المفروز من المخلفات التى يشتريها، ثم يبدأ فى إعادة فرزها مرة ثانية. «فىه تخصصات». فبعد فرز المخلفات إلى صلبة وعضوية، وفرز الصلبة إلى ورق وزجاج وبلاستيك ومعادن، يتخصص تجار فى فصل العناصر المختلفة داخل كل نوع. تجار فريزة لفصل البلاستيك إلى أخضر ومياه معدنية وعلب زبادى وأكياس. آخرون لفصل المعادن من الصفيح والألمونيوم. ومجموعة أخرى من بينها أبانوب، لفصل الورق إلى علب ألبان وكارتون وورق أبيض، وهكذا. يستأجر أبانوب عمالة يومية أحيانا، ولكن فى أغلب الأيام يكتفى بالاستعانة بزوجته وبناته الأربع وولديه. يمارس أبانوب اعتقاده أن «الحارس عند الله» فى عدم وجود أى طفاية حريق داخل مخزنه المكتظ بأطنان الورق. فى حين يدفعه اعتقاده بأن الحل عند الله، بالصبر على تدهور حالته المادية بعد رحيل الخنازير. «زمان لو اتزنقت فى فلوس، كنت آخد حلوف أبيعه، لكن دلوقتى خلاص، ماليش غير ربنا». أكثر ما يضايق أبانوب هو زيارات مفتشى وزارة البيئة التى باغتته منذ أسبوعين. «ساعات بيعملولى محضر بيئة بألفين جنيه، رغم إن معنديش مكنة واحدة فى المخزن. كل الفرز والطى بيتعمل يدوى». رغم عدم معرفة أبانوب بسبب دقيق لدفع المخالفة، إلا أنه دفعها على أى حال. «ماهو لو أنا إديته حاجة فى إيده، رشوة يعنى، علشان ميعمليش محضر، حلاقيه بينطلى كل يوم عايز فلوس». سمع أبانوب مؤخرا «معلومات» عن خطط لوزارة البيئة لمنع دخول المخلفات الصلبة إلى منشية ناصر من أجل تطوير المنطقة. «وزارة البيئة متقدرش تمنع الزبالة من الدخول هنا»، يقول أبانوب، «ولو ده حصل إحنا والزبالين وكل الناس هانعمل إضراب ومظاهرات زى أيام ذبح الخنازير». «أما أنا فبظبط المندوب بعشرين جنيه فى جيبه» يقول محمد، صاحب ورشة لتصنيع الشماعات. مكبسين يدويين بدائيين هما قوام ورشة محمد، التى تصنع ما يقارب من 300 شماعة يوميا. فتحة صغير لوضع البلاستيك المفروم، وذراع كبيرة تضغط البلاستيك على «اسطمبة» الشماعة، هذا هو المكبس. ويوميا، يجمع محمد حصيلة اليوم من الشماعات ليبيعها لمحال الملابس الجاهزة. «المكن ده شغال بسخانات، مافيهوش أى دخان أو حاجة بتلوث الجو»، يقول محمد، «لكن مندوب الوزارة قاللى إنه شايف فيها مخالفات، إديته 20 جنيه والحكاية خلصت». رغم بساطة الورشة التى يملكها محمد، إلا أنها تشكل أحد الأنشطة الاقتصادية الأكثر تطورا فى منشية ناصر، فهو نشاط يتجاوز جمع القمامة وفرزها وتحضيرها للتصنيع، ليدخل فى مرحلة التصنيع نفسها واستخدامها فى إخراج منتج كامل قابل للبيع. «كله هنا بيعتمد على بعضه»، يقول محمد، «أصحاب ورش التصنيع بيجيبوا البضاعة من فريزة البلاستيك، وفريزة البلاستيك يجيبوها من الزبالين، والزبالون بيلموا الزبالة علشان المواد دى وعلشان أكل الخنازير أيام ما كانت عايشة». فلا عجب إذن أن يشعر محمد أن هناك كميات أقل من البلاستيك الذى يتم تدويره، «من ساعة الخنازير والبلاستيك اللى جه المنطقة بيقل، وبالوضع ده حيفضل يقل أكتر وأكتر». لم يعمل محمد يوما فى تربية الخنازير، إلا أنه يشعر بتبعات ذبحها، تضيق عليه رزقه، فاقتصاد منشية ناصر أشبه بقطع الدومينو،، إذا سقط منه قطعة واحدة، تداعت باقى الأجزاء.