والله ولعبت يا زهر وتبدلت الأحوال.. يود كل مسئول فى مصر أن تحقق تلك الأغنية الأمنية لكل مصرى رقيق الحال بين عشية وضحاها. ويعزز أمانيه بإرث من الأدبيات الاقتصادية الغربية التى تعد بأن سنوات من النمو المرتفع المتواصل كفيل بتبديل الأحوال. ولكن، طال المطال. يعرف المسئولون جيدا أين يتركز الفقراء. فى أى القرى فى الريف وفى أى الشياخات فى الحضر. ورغم البرامج المخصصة لرفع مستوى معيشة أولئك الفقراء، لا ينفك عددهم فى الزيادة. وهكذا زاد الفقر بشكل متواصل منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وعلى مدى عقدين. أدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية إلى تضاعف نسبة الفقر من 16٪ من السكان إلى أكثر من ثلث السكان. أى أن واحدًا من كل ثلاثة مصريين صار يجد بالكاد الحد الأدنى من الطعام والشراب والكساء اللازم لبقائه على قيد الحياة. ومن المتوقع أن يبلغ هذا الحد 700800 جنيه فى الشهر، بدلا من 480 قبل التعويم. وإذا ما توسعنا فى تعريف الفقر قليلا، ليشمل تكلفة الصحة والتعليم والمواصلات، تزداد نسبة الفقراء إلى ما يزيد عن نصف المصريين. 45 مليون مصرى ينتظرون أن يلعب الزهر. فلماذا تفشل سياسات محاربة الفقر فى محاربة الفقر؟ على مبعدة من مصر، فى الصين، هناك أيضا 45 مليون مواطن ينتظرون. مثل فقراء مصر، يتركز معظمهم فى جيوب قليلة فى الريف. فى عدد معلوم من القرى. فى مصر، يقع نصف القرى الفقيرة فى الصعيد، ونصفهم فى محافظتين أو ثلاثة. مثل فقراء مصر، هم محرومون من الطعام الكافى والشراب الصحى، ومن الطرق ومن المدارس ومن الرعاية الصحية ومن فرص العمل. ولكن على خلاف مصر، فى الصين، هذه هى الخطوة الأخيرة فى مشوار الألف ميل. بدأت الصين من عام 1978 فى تبنى سياسة الحد من الفقر. كان وقتها نسبة الفقراء فى الصين تبلغ 80٪ من السكان. قبل هذا التاريخ، كانت الصين تملك مثل مصر اليوم برامج هنا وهناك للدعم النقدى والعينى، أقل من أن تغنى من جوع، أو تكفل حياة أفضل. أما بعد هذا التاريخ، فكانت البداية بتحسين دخول المزارعين بفضل العقود التى كفلتها لهم الدولة. وفى عام 1986، أنشأت الصين لرسم ومتابعة هذه السياسة المتكاملة لجنة متخصصة برسم السياسات ومتابعتها ولتقييمها وتعديلها. فكانت القفزة الثانية فى تقليص عدد الفقراء. واليوم بعد أقل من أربعة عقود استطاعت الصين رفع عدد يقدر بين 400 مليون و800 مليون نسمة فوق خط الفقر المدقع (التقدير الأعلى هو الرقم الصينى الرسمى، وهو يمثل نحو عشرة أضعاف تعداد السكان فى مصر). ولم يتبق لديها سوى 45 70 مليون فقير تتعهد بأن تحسن أحوالهم خلال الأعوام الثلاثة القادمة (أو مائة مليون نسمة بحساب البنك الدولى). تتكلم الصين عن المعدمين، أى ما يسميه الاقتصاديون الفقر المدقع (أى أولئك الذين يعيشون فى الصين على ما يشتريه مبلغ 1.9 دولار بأسعار أمريكا، وفقا لتعريف البنك الدولى، ولكننا فى مصر نتحفظ على حساب نسبة الفقر باستخدام نفس المعيار منذ نحو عشرين عاما، ونرتضى معيار فقر الاحتياجات الأساسية، فلا نتمكن من مقارنة وضعنا الحقيقى بالدول الأخرى). النمو الرأسمالى أم دور الدولة؟ الملاحظة الأولى: لم تكتف الصين بترديد مقولة الاقتصاد الرأسمالى الكلاسيكى أن النمو المرتفع المتواصل من شأنه أن يقلص أعداد الفقراء عبر الأثر الناتج عن آلية تساقط ثمار النمو trickledown. فقد نمت الصين خلال العقود الأربعة الماضية بمتوسط نمو قدره نحو 10٪، لتصعد من الترتيب السادس عالميا إلى موقع الوصيف، أى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، وهو ما كان ينبغى أن يكفل فى حد ذاته تقليص الفقر. وهذا ما يردده بالفعل بعض منتقدى التجربة الصينية: أن الصينيين قضوا على الفقر بأنفسهم، عن طريق ترك بلداتهم الفقيرة والالتحاق بالمدن التى نمت وتطورت بفضل القطاع الخاص. وأرى أنه لو لم تهتم الصين بالحد من الفقر كمحور رئيسى فى استراتيجية التقدم، لتصاعدت نسبته، ولما تمكنت أصلا من تحقيق النمو المرتفع. ولنا فى مصر عبرة، فقد أدى عدم الاهتمام بالحد من الفقر إلى نتيجتين: أولا عدم القدرة على النمو المتواصل المرتفع. حيث يتسم النمو بأنه عبارة عن دورات من النمو الذى لا يتجاوز خمسة سنوات يعقبها ركود. وثانيا: يتزايد الفقر حتى فى سنوات النمو، بالرغم من انخفاض البطالة خلال تلك السنوات. ويشير تقرير حديث أعدته منظمة الأممالمتحدة عن التمويل المستدام لسياسات الحد من الفقر فى الصين كيف عمدت إلى سياسات متكاملة عمادها دور الدولة وإعادة توزيع الموارد التى تحصلها من الضرائب لتمويل خطة القضاء على الفقر. الملاحظة الثانية: بدلا من البكاء على عدد السكان الكبير ووسم الفقراء بالكسالى والجهلة والطماعين، شرعت الدولة فى مواجهة الحقيقة: تفشى الفقر هو بسبب تقصير من الدولة تجاه تلك المناطق. وبمعنى أدق: ضعف تكافؤ الفرص الذى يجب على الدولة أن تكفله. والدليل على ذلك تركزه فى مناطق جغرافية بعينها، هى كلها محرومة من الوحدات الصحية ومن المدارس ومن الطرق التى تربطها بالمراكز الأفضل حالا، ومن فرص العمل اللائقة. أما فى مصر، فقد تركنا آلية التساقط تعمل عملها.. فسقطت. ولنا فى قرية أبو حميد مثالا: تقع القرية فى محافظة الجيزة.. خطوتان من القاهرة ومن 6 أكتوبر. وليس بها مدرسة إعدادية أو ثانوية ولا معاهد متوسطة أو عليا، ولا وحدة رعاية صحية، وتفصلها عن الخدمات فى القرى المجاورة ترعة عريضة لا جسر فوقها. وتتفشى الأمية بين 80٪ من سكانها. يعمل كثير من شبابها بالقاهرة الكبرى باليومية وسيداتها يعملن فى تحضير أطنان البامية لكبرى الشركات التى تتولى تصديرها أو بيعها فى السوق المحلية. ولكن لم يحسن قرب أبى حميد من العاصمة وخيراتها ونموها من أقدارها. كانت القرية هى الأفقر ضمن قرى مصر عام 2007، وبقيت ضمن قائمة أفقر القرى فى مصر بعد عشرة سنوات، وإن احتلت المرتبة الأولى قرية أخرى من الصعيد، تدهور حالها سريعا خلال الأعوام الماضية. وتعانى الصين من نفس المعضلة. إذ أن الفقر شديد الحركية عبر الزمن، بحيث لا تستطيع البيانات استيعاب تغيراته السريعة. ويسمى هذا الوضع اقتصاديا باتساع دائرة من هم فى وضع هش vulnerable. أى أولئك الذين لا تعتبرهم البيانات الرسمية فقراء، ولكنهم يقفون على حافة خط الفقر، لو اضطرت عائلة لزيادة إنفاقها بجنيه أو اثنين فى الشهر (جراء رفع أجرة المواصلات مثلا) ، لسقطت تحت خط الفقر. وهكذا، يقول منتقدون آخرون للتجربة الصينية أن خطتهم لا تعمل على استيعاب الأعداد الجديدة التى تنضم إلى الفقراء (جراء نمط النمو الرأسمالى). إلا أن التقرير الأممى يوضح أن أعداد الفقراء فى الصين قد تضاعفت بالفعل خلال الفترة 2001 2010، وهو ما تضمنته المرحلة الحالية من تخفيض الفقر. كما قد توفر الملاحظة الثالثة أسبابا لصعوبة وقوع المواطنين فى الفقر بعد انتشالهم. سمكة أم شبكة؟ الملاحظة الثالثة: تعددت وتكاملت وسائل رفع الفقر ضمن الخطة، بحسب احتياجات الدولة التنموية وبحسب حاجات السكان. وهكذا، إذا نظرنا إلى صناديق تمويل سياسات الحد من الفقر، نجد أنها تتكون أساسا من خمسة مكونات: برامج لتحسين نوعية التعليم الإجبارى (مثل مدارس متعددة للتعليم العام والفنى فى أبى حميد) ، وبرامج لتأهيل المواطنين وتدريبهم على الصناعات التى تقوم على المنتجات الزراعية لأن الفقر يتركز فى الريف، وتأهيلهم للوظائف المطلوبة فى المناطق الصناعية الأكثر تقدما (مثل برامج تأهيل عمال البناء فى أبى حميد). قروض معفاة من الفوائد لإنشاء تلك الصناعات (مثل ورش تجهيز وتغليف للبامية)، وتحسين الرعاية الصحية والبنية التحتية والطرق المؤدية إلى المناطق الفقيرة، وأخيرا، مساعدة نقدية لمن لا يستطيعون الحصول على دخل لائق على الرغم من توفير كل ما سبق، وبعد إعفاء المزارعين من الضرائب. وهكذا، تعمل الصين بمثلها القائل أعط الفقير شبكة ليصطاد بدلا من إعطائه سمكة. ثم أخيرا، لمن لم يستطع، وفرت له السمكة. الملاحظة الرابعة: أن تكلفة برامج سياسات الحد من الفقر غير مكلفة إذا ما قورنت ببرامج أخرى، مثل تحديث البنية التحتية فى الحضر أو بين المراكز الحضرية. يبلغ متوسط الضرائب فى الصين 30٪ من إجمالى الدخل القومى. ويبلغ حجم الإيرادات العامة ما يوازى نحو 2 تريليون دولار سنويا. لا يتم تخصيص موارد للصناديق المختلفة لمحاربة الفقر سوى مبالغ قليلة جدا (لا تتجاوز الآحاد فى المائة من تلك الإيرادات). الملاحظة الخامسة: تعتمد الصين على مركزية التخطيط، فى حين تنوع مصادر التمويل إلى جانب إيرادات الدولة (الأموال الخيرية، وتبرعات القطاع الخاص والمعونات (خاصة من اليابان والاتحاد الأوربي) . ولكن يلفت النظر فى الصين شديدة المركزية أن هناك موارد وفيرة للدولة تجمع وتنفق على المستوى المحلى، ضمن الخطة المركزية. وتمول تلك الموارد بشكل كفء (بشهادة برنامج الأممالمتحدة للتنمية) الصناديق المحلية للحد من الفقر. (فى مصر 97٪ من الموارد يتم إعادة تسليمها من المحافظات إلى العاصمة، ولا تشكل الموارد المحلية سوى أقل من 10٪ من اجمالى موارد الدولة) . كما أن جزءا مهما من خطط القضاء على الفقر يقوم على توفير الموارد والتأمين للتعاونيات. سواء تلك التى تقوم بالإنتاج الزراعى، والتصنيع القائم عليه، أو التعاونيات التى تقدم خدمات مثل الصحة. تلهث الصين كى ترفع مائة مليون فوق خط الفقر المدقع. وفرت للبنك الدولى البيانات بالجودة المطلوبة منذ عام 1981. وضعت سياسة موحدة، تطورت على أربعة مراحل، فشلت وأخفقت، ولكنها لم تنف ذلك أو تخفيه، وتبقى لها خطوة أخيرة. نعم، هى الخطوة الأصعب. خاصة وأنها تواجه ما تواجهه الدول الكبرى، من أزمة الاقتصاد الرأسمالى العالمى التى تتفاقم من عشر سنوات، النموذج الذى ينتج الفقر واللامساواه، بل وأزمات الركود المتكررة. لكن ذلك لا يمنع من أن نتأمل فى تجربة القضاء على الفقر المدقع، ومن أن يحلم فقراء مصر من أن يناشدوا نظراءهم فى الصين «اغيثونا معكم».