المجتمع مريض، تلك كانت عبارة صاحب كتب: الثورة الكونية والوعى التاريخى، وإعادة اختراع السياسة: من الحداثة إلى العولمة، وهو يصف الحالة التى عليها إشكالية التحول من النماذج السياسية الشمولية إلى الليبرالية. فعلي الرغم أن ملامح شخصية "سيد ياسين"، ارتبطت بالثقافة الفرنسية، حيث شكلت باريس أثناء فترة دراسته هناك، جانبا محوريا في تكوينه الثقافي في وقت مبكر، عماده الأساسي الحرية الفكرية، والتعددية وتعظيم دور الثقافة كغذاء أساسي تعتمد عليه الأمم في التقدم، الإ أنه عرف معني الألتزام من رحم قلعة المكس العسكرية، مسقط رأسه، حيث كان والده ضابطا بمصلحة السواحل. تلك هي البداية قلعة قديمة يحوطها خندق واسع وعميق، العبور لها عبر كوبرى صغير، يقف على الباب حراس عسكريون، لا أحد يستطيع الدخول ليلا إلا إذا نطق بكلمة السر. كانت المكس التى شهدت ميلاد السيد يسين فى عام 1933 قرية صيادين صغيرة، ومازالت، تتجلى فيها عبقرية المكان لتجمع بين البحر والجبل، على نحو انعزالى عن المجتمع المدنى. وهو ما يفسر رغبته عبر مسيرته، عن مدنية الدولة. وفي شتاء عام 2005 بعد يوم عمل طويل في مكتبة الأسكندرية جمعنا حديث من القلب علي مقهي، واندهشت عندما طلب فنجان قهوة مضبوط، فى الوقت الذى انتصف فيه ليل كورنيش الاسكندرية، ملاحظا دهشتى قال: حاولت مرارا التعامل مع الشيشة، بتشجيع من ابنى، لكنى فشلت، وبعد تجاوز أحزان فقد شريكة العمر، جاءت زوجة أبنى التى تشيع فى أرجاء البيت وأروقته مظاهر السعادة، والبهجة، ومعها حفيدى أدهم ذلك الساحر الصغير على جهاز الكمبيوتر. ومن هذه اللحظة تعددت اللقاءات مبينا: فضل حب القراءة، إلي الوالد و الأشقاء، (ثمانية أخوة خمسة ذكور وثلاث اناث). و مضيفا: بعد معاناتى مع الاستعارة الخارجية من مكتبة البلدية فى محرم بك بالإسكندرية، اهتديت إلى طريقة علمية اكتشفت بعد ذلك حين صرت (باحثا). التكوين المعرفى موضحا: ساهم فى تكويني الثقافى الشموس الكبيرة، لكن شغفت شغفا خاصا بجبران، و كتابه الشهير (النبى) الذى لم يكن قد ترجم إلى العربية، قرأته فى لغته الانجليزية الأصلية، فقد كان رائدا فى تخليص النثر العربى من المحسنات اللفظية، بالإضافة إلى ابتداعه أسلوبا يتميز بالصفاء اللغوى، والإبداع فى الصياغة المنطلقة. وكانت شرارة النقد الأدبي مع كتاب كولردج الشهير (سيرة أدبية)، ودراسة شيللى بعنوان (دفاع عن الشعر) وفى فترة لاحقة اهتديت إلى مكتبة المركز الثقافى الأمريكى، واستعرت منها كتبا فلسفية شتى، وتعرفت علي "سانتايانا"، و"هوايتهد"، و"جون ديوى"، ولا ادعى أننى فهمتها بالكامل، ولكنها جعلتنى أقترب مبكرا من عالم الفلسفة واصبحت كعبتي مكتبة (إخوان الصفا وخلان الوفا) بالعطارين لصاحبها الحاج ابراهيم وحصلت منها علي نسخة نادرة من الطبعة الأولى الأصلية لكتاب جبران الشهير (دمعة وابتسامة) مطبوعة فى نيويورك عام 1914، و من مطبوعات بنجوين اقتنيت كتابا للفيلسوف هوايتهد (مغامرات فكرية). فى فترة لاحقة ترجمت قصيدة (الرجال الفارعون) الشهيرة لإليوت. وذهبت إلي عالم علم النفس فى أربعينات القرن العشرين الليبرالية، مع د. مصطفى سويف، الذى أصبح أستاذى فيما بعد حين انتقلت إلى القاهرة عن طريق (الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الشعر خاصة). نقطة التحول فى العام 1950 كنا ندرس فى هذه المدرسة الثانوية القرآن والحديث والفقه والمذاهب السياسية المعاصرة، وطالعنا كتابات أبو الحسن الندوى والمودودى وطبعا سيد قطب، والشيخ محمد الغزالى. فيما أستطاع أحد زملائى أن يضمنى إلى الإخوان المسلمين. وتخرجت في مدرسة الدعاة بالعطارين التى غيرتنى من صبى خجول إلى خطيب إسلامي معتمد، أمارس الخطابة باقتدار فى مساجد الإسكندرية حسب التكليفات التى تحدد لى من قبل الجماعة، وكان تقليد الجماعة تنمية القدرة على الارتجال المدروس. ويعترف يسين بأنه لم يكن فى المرحلة الثانوية طالبا نجيبا! كنت أكره الدراسة ونظام المدرسة الحديدى كراهية عميقة، ومع ذلك ارتبطت بالمشرف علي المدرسة الشيخ "مصطفي الشمارقة"، وبعد معاناة فى دراسة العلوم، دخلت كلية الحقوق بالصدفة!، وسمعت لأول مرة نظرية الحق؟ تجاوز الاختبار علي الرغم من ان سلك النيابة كانه هو المسار المفترض، بعد التخرج، الإ أن تشجيع دكتور القانون الجنائي حسن المرصفاوى ولغتى الانجليزية، كنتا سببا فى دخولى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، بعد امتحان صعب نجح فيه: ثلاثة فقط من ثلاثمائة . لكن ياسين يترك المركز عام 1975 مستقيلا، لكي يصبح مديرا لمركز الدراسات السياسة والإستراتيجية بالأهرام، الذي ركز من البداية علي أن الحقيقة ليست مطلقة، بل نسبية، ليس ذلك فقط، و لكن لكل ظاهرة أكثر من جانب، وتحتاج لفهمها وتحليلها النظر خلال أكثر من زاوية. ويوضح أن تأثير محمد حسنين هيكل كان عميقا، عندما فتح امامنا آفاق البحوث الاستراتيجية حين قرر تحويل المركز إلى مركز للدراسات السياسية والإستراتيجية، وشهد المركز أسهام أربعة أجيال من الباحثين، منهم نبيل عبد الفتاح، والراحل د. محمد سيد سعيد، الذى لو كان استمر بعد كتابه (العالم العربى بعد الحرب العراقية) لأصبح امتدادا للمفكر جمال حمدان. ومع بداية الألفية أنشغل ياسين بفهم الجذور الفلسفية لحركة ما بعد الحداثة التى تشغل العقل الغربى فى الوقت الراهن. وأعترف السيد يسين بأنه دائم نقده لنفسه وكتاباته، فمع مطلع عام 2007 تبين لى، أننى منذ حوالى 10 سنوات، كانت كتاباتى تعكس حيوية وطاقة كبيرة تتجاوز ما أكتبه الان، لذلك قررت أن أحتشد لمشروع جديد ، أثمر عن كتب: الديمقراطية وحوار الثقافات: تحليل للأزمة وتفكيك للخطاب 2007، الخريطة المعرفية للمجتمع العالمى، من المجتمع الصناعى لمجتمع المعرفة 2008، أزمة العولمة انهيار الرأسمالية 2009، شبكة الحضارة المعرفية 2009. ويرحل ياسين بعد أن بني جسرا بين عصر الصناعة والموجة الثالثة المعلوماتية.