• دستور 1923 تعطل 210 أشهر.. لم يخلق معارضة بالمعنى الفعلى.. والبرلمان فشل فى الحد من سلطان الحكومة «كان قد تجمع فى آفاق البلدة أكثر من عامل من عوامل الإنهاض والإثارة، فالاضطراب المالى يزداد فى كل يوم، والقروض تتوالى دون أن يدرك الشعب شيئا عن الابواب التى تختفى وراءها.. والدائنون يفرضون انفسهم بثقل وجفوة على الحكومة وعلى حياة المجتمع، والصحافة تحاول ان تسهم بنصيبها فى إيقاظ الرأى العام وتبصير النواب والمسئولين بما عليهم من واجب، وطلائع المثقفين يتذاكرون فى أن عليهم تبعات كبيرة تجاه مستقبل البلاد، ويحذرون من المصير الخطر الذى ينحدر إليه الوطن».. هكذا وصف المؤرخ إسماعيل محمد زين الدين، احوال البلاد فى عام 1876، بينما يسعى الخديو إسماعيل للاستقواء بمجلس شورى النواب، الذى كان انشأه قبل عشرة اعوام، بحثا عن اشراك الاعيان من خلال صياغة دستورية ما، فى تحمل اقرار المزيد من الديون فى وجه المعارضة الوطنية المتزايدة لإغراق البلاد بالديون، لكن المجلس والذى كان اسماعيل قد قام تقريبا بصياغته وقارب من اختيار اعضائه، يتحرك ولو من خلال عدد من اعضائه ال75 لطرح اسئلة حول الاستدانة ومدى الحاجة اليها وأوجه انفاق الاموال التى يتم استدانتها وسبل تسديدها. وقائع التفاعل بين الخديو المؤسس فعليا لأول مجلس تشريعى بعد ان كان جده الاكبر محمد على قد قام بدوره ولأسباب سياسية ايضا بإنشاء مجلس للمشورى تكون من كبار التجار والاعيان والعمد والمشايخ والعلماء بهدف عرض المقترحات المتعلقة بالشئون الإدارية دون إلزام «للباشا» بتفنيدها تأتى فى الفصل الاول من كتاب «المعارضة فى البرلمان المصرى» الصادر عن «دار الشروق» فى عام 2006 كجزء من سلسلة التاريخ: الوجه الآخر: اعادة قراءة تاريخ مصر المعاصر. الكتاب كما يقول المؤرخ يونان لبيب رزق، فى تقديمه له «يلقى الضوء على عنصر مهم من عناصر الحياة البرلمانية فى مصر منذ تأسيسها فعليا فى منتصف القرن التاسع عشر: دور المعاضرة البرلمانية القوية التى هى سمة اساسية لترسيخ قواعد العمل البرلمانى، وتأثير غياب هذا الدور بصورة واضحة على الأداء البرلمانى، فلم تكن هناك منذ 1866 وحتى قيام ثورة يوليو فى 1952 وما تلاها من حل للأحزاب السياسية من المعارضة ما يغير قرارات الحكم الا قليلا». وبحسب ما يقول زين الدين فى مقدمته للكتاب الوارد فى نحو 150 صفحة من القطع الكبير، والواقع فى تمهيد وثلاثة فصول مليئة بالحكايات الكاشفة عن احوال كانت، ومذكرة لمن يقرأ بأحوال استمرت ومازالت، يشير إلى ان الاصوات البرلمانية التى جرأت على الاعتراض كانت فى كثير من الأحيان تعترض على سياسات الاحتلال الانجليزى، وليس على سياسات الخديو أو الملك «ولى النعم»، وكانت المعارضة مدعومة ومجازة من قبل الخديو أو القصر عندما كانت تفيد فى لحظات تضارب المواقف السياسية بين الاحتلال والحاكم المصرى. بل أن زين الدين يرصد انه حتى فيما بعد إقرار دستور 1923، فإنه لم تكن هناك معارضة برلمانية بالمعنى الفعلى، أو ذات الاثر الكبير إلى درجة أنه لم تحل مع السنوات المتعاقبة وصولا إلى يوم 23 يوليو 1952 حكومة، جراء سحب الثقة بل كانت تقع دائما بمراسيم ملكية. غير أن ذلك بحسب ما يجده القارئ لم ينف وجود اصوات يمكن ان توصف بالمناصرة للصالح الوطنى والمتحسبة من سوء تدبير الامور من قبل الخديو أو الملك، كما كان الحال فى تحسب أبداه بعض النواب من سياسات الخديو اسماعيل للاقتراض وكان ذلك راجعا لشعور متزايد بالضيق جراء ارتفاع وتيرة التغلغل الاجنبى فى الشأن الوطنى، أو ما كان بعد ذلك عندما تمكن برلمان «ثورة عرابى» من انتزاع حق مناقشة قرارات التشريع مع الخديو أو ما كان بعد اعوام، عندما رفض البرلمان فى مطلع القرن العشرين الافراط فى الانفاق على جيش الاحتلال أو مسعى حكومة بطرس باشا غالى لتمديد عقد انتفاع شركة القناة الفرنسية عن موعد انتهائه فى عام 1968 مقابل 4 ملايين جنيه، رغم محاولة سعد زغول دعم هذا التمديد «وهو دفاع لم يدافع به اصحاب المشروع عن انفسهم فى قوله: هناك مبادئ يجب مراعاتها فى العالم، وهى تمنع واحدا يستريح والآخر يتعب. أى انه يعتبر المستريح هم المصريون وان الذى يتعب ويتألم هم ممثلو الشركة اذا رفض تمديد العقد». ويشير زين الدين إلى مواقف اخرى تبدو فعليا من السرد الوارد فى كتابه متباعدة جدا وغير مؤثرة الا فيما ندر، مثل مطالبة مكرم عبيد من الحكومة اعطاء بيانات متعلقة باستجواب قدمه حول سياسة مصر الخارجية، فما كان من مصطفى النحاس باشا إلا ان رفض ذلك «إذ رأى ان المصلحة العامة تقتضى عدم تقديم المعلومات». القصة الرئيسية التى يرويها كتاب زين الدين هى قصة معاكسة تماما لمقولة سائدة حول الحياة البرلمانية الحافلة التى كانت مصر تعيشها فى الفترة الليبرالية، المقيمة ما بين اقرار دستور 1923 والذى لا يخفى الكاتب التحفظ على الكثير من بنوده ومدى الصلاحيات الواسعة التى منحها هذا الدستور للقصر مقارنة بما جاء بعد ثورة يوليو، لأنه بحسب ما يمكن ان يخلص القارئ فإن الحياة الحزبية السابقة على 1952 كانت فى كثير من الاحيان مؤسسة على قدرة حزب بعينه، هو حزب الوفد، على ضمان اغلبية مقاعد البرلمان ثم قيامه بتقاسم الخيارات والمصالح السياسية بين القصر، وبين الاحتلال البريطانى. ويكتب زين الدين: «من خلال تتبعنا لتجربة مصر الليبرالية كما يحلو للبعض ان يصفها بهذا الوصف، عقب صدور دستور 1923 وجدنا سلطان الحكومة على الشعب يزداد دائما قوة، ويحاط بالضمانات التى تصونه وتعززه، وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال سلسلة القوانين التى كانت تحد من نشاط الافراد وحريتهم كقوانين المطبوعات والعقوبات وابناء القصر والإضراب وقواعد حظر نشر ابناء الجيش ونيابة الصحافة المقيدة للحريات، ودعا ذلك احد كتاب هذه الفترة البارزين إلى ان يشبه هذه الدولة بأنها (دولة قوانين) فى تهكم وسخرية». ثم يضيف انه «منذ اعلان الدستور واجراء الانتخابات فى عام 1924، تم تعطيله مرات عديدة بلغت مدتها 106 أشهر، فإذا اضفنا اليها مدة اعلان الاحكام العرفية وهى تعطيل جزئى للدستور، لبلغت الفترة التى عطل فيها الدستور 210 أشهر، أى سبعة عشر عاما ونصف العام، والتالى لم تنعم مصر بالحكم الدستورى، شكليا، الا عشر سنوات ونصف السنة فقط». بل ان زين الدين يذكر القارئ بمدى تغول الحكومة على البرلمان باستعادة واقعة اصدار حكومة اسماعيل صدقى باتخاذ قرار بتأجيل انعقاد البرلمان، ورفضها اصرار البرلمان على الانعقاد فى موعده، وإصدار الحكومة أوامرها بإغلاق البرلمان بالسلاسل الحديدية ووضعها قواتها المسلحة حول مبنى البرلمان، فما كان من ويصا واصف، رئيس مجلس النواب الا ان طالب، فى حضور عدلى يكن، رئيس مجلس الشيوخ وباقى اعضاء البرلمان الذين قد ذهبوا للافتتاح، بوليس البرلمان بتحطيم السلاسل. إلى جانب تلك القراءة، التى يعززها زين الدين بالكثير من التفاصيل حول وقائع النقاشات البرلمانية والسياقات السياسية التى كانت تجرى بها، فإن كتاب المعارضة فى البرلمان المصرى، يحمل لقارئه الكثير من الاسماء لشخصيات برلمانية كان لها أدوار ما فى ساحة المعارضة البرلمانية، وتحولت مع الزمن لأسماء تطلق على بعض شوارع العاصمة مثل يوسف الجندى ومحمود بسيونى، وكلاهما عضوان وفديان فى البرلمان، تقدما باستجواب إلى وزير الداخلية فى اكتوبر 1941 فيما اتخذته حكومة حسين سرى من اجراءات افضت إلى خنق حرية الصحافة والرأى فى مصر، عوضا على أن تكون الرقابة مقصورة على الضرورات. القصة الابرز فى كتاب زين الدين، هى عجز البرلمان المستمر فى وقف تجبر الحكومات المتتالية والحكام المتتالين على عرش مصر، فتستمر سياسات الاستدانة وتستمر عمليات ملاحقة العناصر الوطنية المحرضة على رفض الانصياع للاحتلال، وتستمر قرارات السيطرة على الصحف وغيرها دون ان يستطيع ان يتحرك اطلاقا نحو تحسين اوضاع الفلاحين والفقراء. ولعل الوصف الادق لكتاب زين الدين هو ذلك الصادر عن «دار الشروق» على الغلاف الاخير من وصفه بأنه «بحث عميق وجهد قيم».