ليت شعرى هل كان شوقى عندما كان ينشد قوله فى اللغة العربية: إنّ الذى ملأ اللغاتِ محاسنًا جعل الجمال وسرّه فى الضّاد وهل كان الجارم عندما قال فيها: يا ابنةَ الضّاد أنت سرٌّ من الحُسْ ن تجلّى على بنى الإنسان لغة الفن أنتِ والسحر والشع ر ونور الحِجا ووحىُ الجَنان ليت شعرى هل كان أىٌّ منهما يدور فى مخيلته ما حاق بالعربيّة من سوء حالها وهوانها على متكلميها وغربتها بين أهلها؟ وحتى أولئك الذين جهروا بما حلّ بالعربيّة فى زمنهم من تنكّر لها وازوارٍ عنها وتعالٍ عليها.. مثل حافظ حين قال على لسانها: أيهجرنى قومى عفا الله عنُهم إلى لغةٍ لم تتّصل برواة ! ومثل مطران حين أنطقها بشكواها: أنا العربيّة المشهود فضلى أ أغدو اليوم والمغمور فضلى؟ ومثل الرافعى الذى وصفها بأنها: أمّ يكيد لها من نسلها العقِب كانت لهم سببا فى كلّ مكرمة ولا جريرة إلاّ ما جنى النسب وهم لنكبتها من دهرها سبب حتى هؤلاء هل كان يمكن أن يتصوّر واحد منهم مبلغ العبث بالعربية والاستهانة التى حلت بها على ألسنة من ينتسبون إليها، سعيا – بوعى أو بغير وعى – إلى تشويشها، بل تشويهها تحت شعارات خادعة: التبسيط، أو التبسّط، وأحيانا (خفة الدم)، وما أثقلها من خفة، وما أسخفه من تبسّط، هذا الذى يطبع وسائل إعلامنا المرئية والمسموعة بما يؤذى عيوننا ويصدم أسماعنا، ويوحى إلينا باحتقار أنفسنا؛ وإلاّ فحدثنى عزيزى القارئ عن السبب فى كتابة أسماء برامج التليفزيون كما هى أو مترجمة بالحروف اللاتينيّة، ولماذا نكتب كلمة عربيّة بالحروف اللاتينية، ولمن نفعل هذا إذا كانت الكلمة عربيّة ولن يفهمها أجنبى لا يعرف العربيّة سواء كتبت بالحروف العربيّة أو اللاتينية؟ ثم لماذا توضع أسماء البرامج فى القنوات الرئيسية فى تليفزيون دولة عربيّة بلغة أجنبيّة؟ ألأننا لم نعد عربًا، أم لأن مشاهدينا من غير العرب هم المعنيون بهذه البرامج؟ أما الأخطاء فى الأحاديث الرسميّة على ألسنة المسئولين، والعاميّة الساقطة فى برامج الإعلان ولافتاته، وأسماء الأنشطة المختلفة مما أُطِلقَ عليه اسم (التلوّث اللغوى) فحدّث ولا حرج. كل ذلك بحجّةٍ واهية هى (التبسّط) أو (التبسيط) تبسيط اللغة أو تبسّط المتكلم – ونسى هؤلاء أن المواطن العادى الذى قد لا يتمكن من كتابة اللغة الفصيحة أو التحدث بها – قادر فى الوقت نفسه – على فهمها وتذوّقها والاستمتاع بها، إنه يستمع إلى القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويستمع إلى نشرات الأخبار وسائر البيانات الفصيحة، ويَفهم كلَّ ذلك ويتفاعل معه وإن لم يكن بمقدوره كتابةُ مثله أو التحدّث به. وأسأل نفسى ما عساى أن أفعل فى مثل هذا المكان لمقاومة تيار العبث بلغتنا الذى هو فرع على الاستهانة بالذات وربما احتقارها؟ وأجيب: ليس بوسعى سوى أن أحكى لك عنها أقصد عن لغتنا وأروى لك الرائق من نصوصها ونوادر المتحدثين بها، من شعرها فى مختلف فنونه، ونثرها فى متعدد ضروبه، من كل ما حملته ألسنة القائلين وما سطرته أقلام الكاتبين. عزيزى القارئ.. أرجو أن ينتظم لقاؤنا فى هذا الموضع لأُفضى إليك بشىء مما يعتمل فى نفسى من أحوال لغتنا، وما تتعرض له من اتهامات أراها ظالمة بل باطلة، ثم لأحدّثك عن المشاكل والعقبات التى يضعها فى طريقها أبناء اللغة أنفسهم، كما أرجو أن يمتد الحديث إلى صفحات من تاريخها المشرق ونماذجها الجميلة التى حفل بها تراثها الأدبى الرائع.