لاحظت فيما نشرته الصحف العربية عن احتفال ليبيا بذكرى انطلاق ثورة الفاتح من سبتمبر قبل أربعين عاما، أن الجميع لم يستوقفهم الخبر الأهم والأكثر إثارة فى المناسبة. وهو أن العقيد معمر القذافى ظل قابضا على السلطة ومتحكما فى مصير البلد وثروته النفطية طوال تلك المدة. وكأن بقاء رئيس دولة فى منصبه لمدة أربعين عاما متواصلة فى هذا الزمن بات أمرا عاديا لا غرابة فيه ولا شذوذ. لقد تمنيت أن يجرى المثقفون على الأقل حوارا موضوعيا حول حصاد تجربة «الجماهيرية»، وسياسة الأخ العقيد بتحولاتها المثيرة. من العروبة إلى الأفريقانية، ومن العداء للغرب إلى الركض للحاق به، ومن مساندة حركات التحرر إلى هجرتها والقطيعة معها. وما قلناه عن السياسة ينطبق على أسلوب إدارة المجتمع، الذى كانت تجربة اللجان الشعبية ركيزة أساسية له. وهى التى أعادت إلى الأذهان صورة الثورة الثقافية فى الصين، التى هزت المجتمع وزلزلت أركانه، يسرى ذلك أيضا بحق السياسات الاقتصادية والتعليمية، التى أحدثت انقلابا فى منظومة القيم السائدة. فى الوقت ذاته فإن مثل ذلك الحوار يمكن أن يكون ثريا ومفيدا إذا ما تعرض لموقف الجماهيرية من قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان، واللغط كثير حولها. لا شىء من كل ذلك تم، وإنما عولج الحدث وكأنه حاصل فى أمريكا اللاتينية أو فى أقاصى آسيا. فى تجاهل تام لكونه حاصلا فى داخل البيت العربى، والطرف الأساسى فيه، الشعب الليبى، هو جزء من الشعب العربى. رغم أننا لا نسمع له صوتا يذكر فى المحافل العربية أو الدولية. صمت الإعلام العربى فى هذه المناسبة لا يمكن أن يفسر بكون المنابر الإعلامية والسياسية لا تعرف شيئا عما يجرى فى ليبيا. لأنه رغم التعتيم السائد فمعلومات الداخل متوافرة على العديد من مواقع شبكة الإنترنت على الأقل. قد يقول قائل إن صمت الإعلام العربى واكتفاءه بوصف فقرات الاحتفال الاستعراضى. واهتمامه بإنتاج السيارة «الصاروخ»، التى صممها بنفسه العقيد القذافى، وتكلفت 2 مليون يورو، أريد به جذب الإعلانات التى تنشرها الجماهيرية فى هذه المناسبة. وهو احتمال أقلل من أهميته وأزعم أن السبب الأساسى لغياب التقييم الموضوعى يرجع إلى أن ما يفعله العقيد فى ليبيا هو صورة مشوهة ربما للحاصل فى بقية العالم العربى. فاحتكار السلطة أصبح قاعدة عامة، وتوريثها فى الطريق إلى «التقعيد» بدوره، والعلاقة مع الغرب، والتخلى عن حركات التحرر بما فى ذلك المقاومة الفلسطينية أو القيود المفروضة على الحريات العامة واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان. هذه كلها أمور شاعت فى العالم العربى، وتوزعت على مختلف دوله بالعدل والقسطاس. من هذه الزاوية، فإن فتح ملفات التجربة الليبية ونقد نموذجها، من شأنه أن يفتح الباب تلقائيا لمحاكمة الوضع العربى برمته، وهو ما لا يرغب فيه أحد. ذلك أن الاختلاف بين الحاصل فى ليبيا، وما يحدث فى بقية أنحاء العالم العربى هو اختلاف فى الدرجة وليس فى النوع. حين يطل المرء على المشهد من هذه الزاوية يدرك أن العالم العربى فى مجمله تم اختطافه منذ عدة عقود، لصالح فئات بذاتها تسلمت مقاليد القيادة فى ربوعه، واحتكرت السلطة فيه رافضة أى مشاركة أو تداول. وبأدوات السلطة وتطور تقنيات القمع وطدت تلك الفئات أقدامها، وراحت تعبث بمقدراته ومصيره. أما تعزيزا لمكانتها وتحقيقا لمصالحها، أو تحريا لمصالح أطراف أخرى، ليس الشعب العربى من بينها. هذا الاختطاف تدل عليه الهوة الواسعة القائمة بين مواقف الأنظمة العربية وتوجهات الشعوب العربية. الأمر الذى يشير بألف إصبع إلى حقيقة عدم تمثيل هذه الأنظمة لتلك الشعوب. ولأن الأمر كذلك فلم يكن مستغربا أن تتناقض مواقف الطرفين إزاء عديد من القضايا (الغزو الأمريكى للعراق، ودعم المقاومة الفلسطينية، ورفض حصار غزة مثلا). هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن بقاء العقيد القذافى فى السلطة لمدة أربعين عاما لم يعد أمرا شاذا فى أعرافنا المفروضة، لأنه جزء من ظاهرة يعيش فى ظلها العالم العربى ويعانى منها. ذلك أن الذين لم يستمروا فى مواقعهم لمثل هذه الفترة لم يفعلوا ذلك تعففا ولا تمنعا، وإنما فقط لأن الوقت لم يسعفهم.