شموس نيوز – خاص أول مرة يدخل فيها “أحمد فؤاد نجم” السجن كانت عام 1959، بسبب التزوير في مستندات هيئة السكك الحديدية التي كان يعمل موظفا بها، من أجل اختلاس بعض الجنيهات، كان يذهب إلى محلات الأقمشة، ويصرف استمارة بسبعين جنيها، يستلم بها أقمشة، يبيعها ويقتسم ثمنها مع ساع في المصلحة، وكانت هذه الاستمارات مزورة، وتكرر الأمر، حتى قبض عليه هو ورفيقه الساعي، كان في أوائل الثلاثينيات من عمره، وكان عليه أن يقضي ثلاث سنوات في سجن قرة ميدان، وهي الفترة التي تفتحت فيها موهبته الشعرية، فابتدأ في كتابة الشعر، وقراءته على رفاق السجن، وعلم ضابط السجن بأمر هذه الأشعار، فاستدعاه، واستمع منه إلى قصائده، ووقع في غرامها، هو من ناحيته لم يجعل هذه الحادثة تفوت دون استثمار، فعكف على كتابة قصائد يمتدح فيها مأمور السجن، ويعدد الخصال الحميدة لضابط العنبر، ويصف طيبة الجلاد الرقيق، وذاع أمر هذا الشاعر المزور المختلس في عنابر السجن كلها، حتى أن اللواء “إبراهيم عزت”، مدير سجن أرميدان، والرائد “سمير قلادة” مأمور السجن، اهتما به اهتماما فنيا خاصا، وكانا يقيمان له الندوات الشعرية على مسرح السجن، وينشران له قصائده في جريدة الحائط، ومن خلال هذه المجلة فاز “أحمد فؤاد نجم” بجائزة الشعر الأولى عن قصيدته “بحر الحنان” التي كتبها عن أمه بمناسبة عيد الأم، وكانت الجائزة عبارة عن جنيه كامل، مائة قرش، الأمر الذي جعل الرائد “سمير قلادة” مأمور السجن، يشجعه على الاشتراك في مسابقة وزارة الثقافة التي يقيمها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، بعنوان الكتاب الأول، وتكفل هذا الرائد بإحضار الأوراق والأقلام للشاعر المزور، وقام الشاعر بنسخ كل قصائده، التي كانت تدور حول السجن وتجلياته المختلفة، لذا كان من الطبيعي أن يكون اسم الديوان (صور من الحياة والسجن). كان “أحمد فؤاد نجم” ممتنا جدا لهذا الرائد، لذا قرر أن يهديه هذا الديوان، فكتب في الصفحة الأولى هذا الإهداء: فنان وتعطف ع الفنان ولك أيادي ومآثر ولك حكاية ف كل مكان يا صورة من عبد الناصر. وتكفل هذا الرائد بكتابة قصائد الديوان على حسابه الشخصي على الآلة الكاتبة، وإرسالها بمعرفته إلى لجنة المسابقة. بانقضاء ثلاثة أرباع السنوات الثلاث التي حكم عليه بها، وبحكم حسن سيره وسلوكه في هذه الفترة، تقرر في يوم الجمعة الموافق 21 مايو من عام 1962، الإفراج عن الشاعر “أحمد فؤاد نجم”، كان جالسا بفكر في مصيره بعد الإفراج عنه، فهو بلا سكن، وبلا عمل، وبلا أهل، في هذه الأثناء، فتح باب الزنزانة، وإذا باللواء “إبراهيم عزت” مدير السجن، والرائد “سمير قلادة” مأمور السجن، يدخلان عليه، ويباركان له، هو كان يظن أنهما يباركان له على الإفراج، لكن اللواء “إبراهيم عزت” فرد أمامه ملحق أهرام الجمعة، وقرأ بصوت عال الخبر المنشور فيه: (قررت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، نشر ديوان “صور من الحياة والسجن” للشاعر الشاب “أحمد فؤاد نجم”، بعد فوزه في مسابقة مشروع الكتاب الأول). بعد أن تسلم الشاعر السجين من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عشر نسخ من ديوانه، كان مثل المجنون، يركب التروللي باص ويهبط منه، يدخل في هذا الشارع ويخرج منه، يجلس على ذلك المقهى، ويتركه، كان شديد الفرح بمنجزه الكبير، وكانت النسخ العشر تحت إبطه، ولا يعرف أحدا يقاسمه فرحه، وفي أحد الأتوبيسات الكثيرة التي كان يركبها دون هدف بعينه، نظر لجاره الذي يقتسم معه الكرسي، كان أفنديا طيبا، فسحب نسخة من ديوانه، وقدمه له وهو يقول: هذا هو ديواني الأول، وقد استلمته اليوم من المطبعة، ولا أعرف أحدا في هذه المدينة الكبيرة، فهل يمكنني أن أهديك نسخة منه؟ الرجل بكل طيبة قبل منه النسخة، بل ووضع يده في جيبه لينقده ثمنها، لكن الشاعر رفض قائلا له: إنها نسخة هدية لك، وأتمنى أن تعجبك الأشعار التي يضمها. ابتسم الرجل وقال له: يسعدني أن أكون أول قاريء لك، وتأكد أنني سأبحث عن اسمك في الصحف وعن كتبك القادمة لدى الباعة، لكي أقرأ كل ما تكتبه. …………………………………. كانت هذه هي ظروف نشر الديوان الأول للشاعر “أحمد فؤاد نجم”، هذا الشاعر الذي سيكون مع مرور الوقت، إحدى أبرز الحلقات الباذخة لشعر العامية المصرية، هذا الديوان الذي قدمته للقراء الناقدة الدكتورة سهير القلماوي، هذه المقدمة التي لم تعد تنشر في الطبعات التالية لأعمال “أحمد فؤاد نجم”، ذلك أن “أحمد فؤاد نجم” أسقط هذا الديوان تماما من قائمة دواوينه، حتى نسي المتابعون المقدمة على أهميتها، والديوان على دلالاته التبشيرية. الدكتورة “سهير القلماوي” لم ينته دورها عند هذا الحد، بل طلبت أن تقابل هذا الشاعر السجين الفائز، واستقبلته في بيتها، ولما عرفت ظروفه، كتبت خطابا للأستاذ “يوسف السباعي”، سكرتير عام المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، لكي يشمله برعايته، فعينه في منظمة التضامن براتب شهري قدره اثنا عشر جنيها.