صحيح أن الولاياتالمتحدة خلال وجودها فى الخليج العربي، أزاحت بريطانيا العظمى واستمرت على مدى قرنين تمارس قولبة المنطقة وفقًا لمتخيلها، وأيضًا راحت تستهدف تعجيز الفرد العربى فى ذاته، وفقًا لشروط توليدية تقوض بالأساس الانتماءات وقيم التضامن استيعابًا لكل آخر تحت سلطانها، وصحيح أيضًا أنه منذ أن دب تشغيل هذا الانفصام، بدأت الولاياتالمتحدة على التوازى استقطاباتها المخادعة لتفتيت المنطقة من خلال صراعات ذاتية، دفعًا للتمرد على أوهام مصطنعة، وأيضًا ليست خيارات أصحابها، لكنها ممارسات الأمركة المهيمنة فرضًا وقسرًا، سعيًا إلى تنفيذ متخيلها وفق خارطة التغيير التى حددتها على أرض الواقع، استتباعًا لسلطتها. لا شك أن إغراءات تلك الأوهام الأمريكية تسمح بالتحليق فوق معطيات الطبيعة والانفكاك منها؛ بتغييبها فكرة العالم كمعنى بثوابته التى ترتكز عليها العلاقات الإنسانية فى جوهرها، وأيضًا تغييبها حقيقة أن الأوطان انتماء تكويني، لكن الأمركة راحت تستولد بديلاً لهما تبدى فى أن الإنسان كائن احتيازي، أى إنه مدفوع بطبيعته إلى الحوزة؛ فإذا ما ضم شيئًا إلى نفسه فقد حازه؛ إذ يروق الأمركة أن تبتكر نظريات خيالية تقوم على أن الأنانية هى المركز فى الطبيعة البشرية- وذلك ما يتضاد مع الثوابت الحضارية- استهدافًا لأن يستعر الصراع بين أطرافه منتجًا امتدادات العداء التى تصل إلى درجة الاستعصاء، فى ظل الترويج بأن اتساع حيازات الإنسان امتلاكًا يعنى امتداد سلطة وجوده فى العالم، وذلك ما ينفى أن ثمة مصالح مشتركة للبشرية عامة، وتجاهلت الأمركة أن الحرية أرقى قيمة تمتلكها المجتمعات حين يمارسها أفرادها، فيصوغون من خلالها حياتهم، ويمسكون بزمام أمورهم، إذ إن أى انتقاص فى الاعتدال والتوافق يعد شرًا يسعى إلى تأبيد التخلف واستلاب الحقوق، وإن العالم لا بد أن يتخلى عن التسلط والإقصاء بتصعيدهما إلى تنمية الذات إنسانيًا، بدلاً من تشويه الوجود الإنسانى بإلغاء الإدراك لدى البشر، وهو ما يعنى قطع علاقاتهم بالعالم، وقمع نزوعهم الحيوي؛ تحقيقًا للهيمنة. إن تشويه الوجود الإنسانى تبدى فى دعم الولاياتالمتحدة للإرهاب، حيث تناول الكاتب الأمريكى «ريموند ويليامز بيكر»، رئيس برنامج دراسات الشرق الأوسط، فى دراسته الرصينة بعنوان «لماذا تفقد الولاياتالمتحدة العلاقة مع التيار الإسلامي؟»، مسيرة ممارسات الجماعات والإرهابية ونتائجها قائلاً: «لقد لجأت الولاياتالمتحدة إلى الإسلام السياسى للتعجيل بهزيمة الاتحاد السوفيتي، ودبرت المخابرات الأمريكية مع نظرائها فى المنطقة بكفاءة، استقدام المسلحين الإسلاميين من كل أرجاء العالم الإسلامي، بمن فيهم أسامة بن لادن للاستفادة من ضعف وضع الاتحاد السوفيتى فى أفغانستانالمحتلة. ولم تكن تلك المرة الأخيرة ولا الأهم التى تدعم فيها شبكات العنف الإسلامية الهيمنة الأمريكية المطلقة التى مولتها ودربتها على العمل فى أفغانستان. ونتيجة للانتصار فى حرب العصابات المدعومة من أمريكا ضد الاتحاد السوفيتى تضاعفت أعداد المجموعات الجهادية فى العالم كله ناشرة الخراب فى كل مكان». ترى ما الشكل الذى ينبغى أن يتخذه الاندماج الدولي؟ لا شك أن إجابة الأمركة تتحدد فى هيمنتها على العالم؛ لذا فإنها تواصل دعم الإرهاب واستخدامه لفرض هيمنتها، تخطيًا لحدود الكيانات الأخرى، فإما الاستتباع لسطوتها وإما الزوال، ويتجلى جموح الأمركة فى استمرار استخدامها الإرهاب بكل شروره وفظائعه دون استدراكه؛ بل بتواصل تكراره بسلطان التكاذب، إذ إن تصاعد تنظيم داعش تبدى فى تعدد جرائمه الوحشية التى تتسم بالعنف الجماعى ذبحًا، وتعذيبًا، واغتصابًا، وحرقًا، عصفًا مطلقًا متخطيًا الحدود كافة، وامتلاكه المفاجئ لتقنيات مدروسة، واستيعابه التمكن من ممارساته التى تعكس تمايزه بسلطة فوقية حاكمة تشكل منه لغزًا يثير التساؤل، وقد صدرت داخل الولاياتالمتحدة مجموعة من الدراسات والكتب، التى أبدى كتابها دهشتهم من إنجازات داعش تنظيمًا وتقنية، واكتمال قدراته المالية والإعلامية الضخمة، وتعامله مع مواقع التواصل الاجتماعى وامتلاكه القدرة على محاكاة الطريقة التى يعمل بها الإعلام الغربي. صحيح أن ثمة تحالفات بين طوائف الكاذبين والمتلاعبين، وبين مؤسسات اختطاف الحقائق والوقائع وإقصائها لتدفعها فى غير اتجاهها، لكن الصحيح أن الحقيقة تواجه كل هذا الخزي، إذ تمكنت المنظمة الحقوقية الأمريكية «جوديشيال واتش»، فى 18 مايو 2015، من الكشف عن مجموعة من الوثائق السرية التى تخص وزارتى الخارجية والدفاع فى الولاياتالمتحدة، وبموجب دعوى أقامها مايكل فلين، مدير المخابرات السابق، تدحض كل ألاعيب المحرفين، كاشفة عن الدور الخفى للرئيس أوباما فى تأسيس تنظيم داعش، وتصاعد نفوذه فى المنطقة العربية؛ بل عبر تصريحات، ولقاءات تلفزيونية راح مايكل فلين يوضح السياسات التى أدت إلى نشأة «داعش» وظهوره، وأن هذه السياسات كانت وليدة قرارات تم حسمها بوعى وتصميم، وأن الإدارة الأمريكية قد تعمدت اتخاذ ذلك القرار تحديدًا، وأن ادعاءها المفاجأة عند ظهور «داعش» بشكل مفاجئ ليس له أساس من الصحة، وأن ما يحدث الآن هو النتيجة الطبيعية للدعم الذى قدمته الإدارة الأمريكية للمتطرفين «بل يقر مايكل فلين أيضًا،» أنه فى عام 2012، كانت الولاياتالمتحدة تساعد فى نقل السلاح وإيصاله إلى الجماعات (السلفية المتطرفة) و (الاخوان المسلمين) و(القاعدة) فى العراق«، ثم يستطرد ليؤكد أنه «لم يستطع أن يمنع ظهور هذه الحركات المتطرفة وبروزها لأن ذلك لم يكن من شأنه». تمارس الولاياتالمتحدة استخدام الحروب الخفية التى تشنها على بلدان لتسقطها تدميرًا، فى حين أنها قد عدلت استراتيجية أمنها القومي، حيث ينص التعديل على أنه «لقد قصرت الولاياتالمتحدة لفترة طويلة خيار الضربات الاستباقية على مواجهة التهديد الواضح لأمننا القومي، وكلما زاد هذا التهديد زادت مخاطر التراخى وأصبح القيام بأعمال استباقية أكثر ضرورة للدفاع عن أنفسنا. ولإحباط أو منع خصومنا من القيام بمثل هذه الأعمال العدائية، ستتصرف الولاياتالمتحدة- إذا لزم الأمر- على نحو استباقي». لا شك أن أبرز ما يستوقف الانتباه أنها قد غيبت فى هذا التعديل، أمر حروبها الخفية، وراحت تضخم من تخوفاتها من المعتدين عليها؛ لكى تبرر توجهها الأحادى الذى يتعارض مع مفهوم الحرب العادلة، وقد شنت الولاياتالمتحدة حربًا استباقية فى عام 1998 على العراق، بدعوى عرقلة مساعى صدام حسين لبناء قدراته فى مجال أسلحة الدمار الشامل، وهو ما ألحق ضررًا بالبنية التحتية العراقية، وسقط عدد كبير من الضحايا. يقول الكاتب الأمريكى «روبرت كيكن»، فى كتابه الذى يحمل عنوان «الفردوس والقوة «ما نصه» إن الهيمنة التى فرضتها أمريكا داخل النصف الغربى من الكرة الأرضية فى القرن التاسع عشر، ظلت سمة دائمة من سمات السياسة الدولية منذ ذلك الوقت، ومن الواضح أنها عازمة على أن تبقى القوة الاستراتيجية المهيمنة«. وترفض انتصار العقل على القوة، تشويهًا لحقيقة الوجود الإنساني.