استباحت الولاياتالمتحدةالأمريكية لنفسها استلاب أوروبا والعالم بأمركتهما معًا؛ بل أمركة التاريخ؛ إذ هى ترى أن كل ما دونها يعد ماضيًا غابرًا، بوصفها تمثل حتمية نهاية التاريخ؛ لذا راحت تسوق نفسها بالإغواء والاستقواء، حيث وفقًا لمرآتها الذاتية تبدى خطاب زأنطونى لاكس معاون الرئيس «كلينتون» لشئون الأمن القومي، عام 1993، أشبه بفرض حكم قيمة مباشر للأمركة كمبدأ مفعم بالتفوق العام والتسيد، إذ يقول: زمن واجبنا تطوير الديمقراطية، واقتصاد السوق فى العالم؛ لأن ذلك يحمى مصالحنا وأمننا، ولأن الأمر يتعلق بانعكاس القيم، وهى فى آن واحد قيم أمريكية وعالميةس وذلك ما يعنى أن الأمركة لا تخضع للمفاضلة، إذ ليس لها بدائل تتمايز عنها؛ لذا لا بد أن تسود الولاياتالمتحدة فى كل مجتمعات الإنسانية، وفى عام 1997 أصدر المؤلف الفرنسي ميشال بوجنون موردان كتابه بعنوان زأمريكا الشمولية… الولاياتالمتحدة والعالم: إلى أين؟ حيث أراد المؤلف أن يكون كتابه ممانعة ثقافية فى اتجاه مناوئ للأمركة إسهامًا فى رحلة تحصين الوعي، استنكارًا للمتداول والمطروح بأهدافه الواقعة والمتنامية، التى تستهدف هيمنة الأمركة تحقيقًا لأحادية السيطرة وشمولية الخضوع، إذ تناولها المؤلف تفصيلاً بتحليل سياساتها القائمة المرتبطة بمركز قيادة الأمركة، من خلال سرده وقائع وأحداثًا بجهد تحليلى جاد لعدد من البلدان التى وقعت تحت ضغط عنيف للأمركة، مستهدفًا برهنة الاعتراض على تلك السياسات المهيمنة، ومكاشفة انحسار مفهوم السيادة الوطنية عن تلك البلدان؛ حيث طرح أوضاع عشرين بلدًا فى العالم داهمتها الأمركة، بتجاوز وجودها المدرك والمعلوم، وأفقدتها سيادتها الوطنية؛ لذلك راح الكاتب يستنهض مواطنيه، وأيضًا أجهزة التواصل المباشر بين الأفراد، ومراكز السلطة وإداراتها، مؤكدًا أهمية دور التربية والمدرسة، وخصوصية اللغة والهوية لمواجهة ومقاومة ذلك التحدى الذى يفرض الأمركة بوصفها قدرًا حتميًا، ثم راح يستحضر صوت الفيلسوف «جان مارى بنوا» الذى يؤكد أن الحتمية تتناغم مع العبودية، ونحن نشهد اليوم تعزيزًا لهذه المبايعة المصورة كأنها من طبيعة الأمور. وفى عام 1992 أصدر الباحث الأمريكى مايكل أ. بالمس كتابه بعنوان -حراس الخليج- تاريخ توسع الدور الأمريكى فى الخليج 1833 – 1992 كشف فيه كيف مضت الولاياتالمتحدة مبكرًا إلى تحقيق صيغة لسيادة شمولية بالخليج العربي، وقد استمرت بدأب متواصل على مدى قرنين تؤسس لاستمرار وجودها بوعى خاف يمارس متابعة الفهم لامتدادات كل ما يتحرك فى المجال العام للخليج، سواء أكان حاضرًا ماثلاً أم آتيًا منتظرًا، بالتوازى مع تراكم إنجازاتها المعلنة، التى تجلت فى النهوض بالعامل الاقتصادى دون استعصاء، حتى أزاحت الأمركة بريطانيا العظمى وحلت محلها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكرًيا، وفقًا لمصادر وعيها فى سياق التخطيط الأساسى لإحكام الهيمنة. صحيح أن الأمركة محض هيمنة عن فيض قوة، تولد تطلعات ذاتية مطلقة تواجهها فى الواقع عقبات متعددة، وخاصة فى مجالات الحقوق والحريات، وصحيح كذلك أنه يجرى التحايل على ذلك الاختلال بالإخفاء أو طرح تبريرات خادعة لتلك الخروقات، سياسية واقتصادية ومجتمعية، وصحيح أيضًا أن التدخل الفعلى للولايات المتحدة غير المعلن، فى زحرب الناقلاتس عام 1987 ذ 1988 بين إيران والعراق قد أثبت مدى أهمية حيوية الشرق الأوسط للولايات المتحدة- خاصة الخليج العربي- حيث تبدى الدفاع عنه ضرورة أمريكية أساسية، كما أن اقتران الولاياتالمتحدة بالمشاركة المعلنة فى «درع الصحراء 1990 – 1991» يؤكد أن الاقتران نوع من التفسير دون أن يطرح تفسيرًا، حيث الرهان الاستحالى الذى لا تقبله الولاياتالمتحدة هو التخلى عن الخليج بعد أن أزاحت بريطانيا منه نهائيًا. إن المؤلف ينحاز بذكاء فى نهاية الكتاب إلى هيمنة الأمركة على الخليج بوصفها حرسها الاستثنائي، فيروعهم برؤية ما لا يرى فى الواقع، حيث يورد ما نصه إن: الوصول إلى مستودعات البترول هو – فى نهاية المطاف- وسيلة إلى غاية، وسوف تكشف مجريات الأمور ما إذا كان الأمريكيون سوف يستخدمون – أم لا- نفط الخليج فى تنشيط النمو الاقتصادى الديناميكى فى القرن الحادى والعشرين، فإذا لم يحدث… فإن الأمريكيين سوف يكتشفون- فى يوم ما- ربما لن يكون بعيدًا جدًا- أن دولة أوروبية أو آسيوية، أو مجموعة من الدول، سوف تتجه رأسًا نحو تحقيق هدف أن تحل محل الولاياتالمتحدة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا فى المنطقة، لكن إلى أن يجيء هذا اليوم سوف يظل الأمريكيون حراس الخليج. إنها دعوة لاستمرار الهيمنة. فى الرابع من فبراير عام 2012، خلال مناقشة الوضع السورى فى مجلس الأمن بمقر الأممالمتحدة بنيويورك، وجه وزير خارجية قطر حمد بن جاسم حديثه إلى مندوب روسيا قائلاً: أحذرك من اتخاذ أى فيتو بخصوص الأزمة فى سوريا، فعلى روسيا أن توافق على القرار وإلا فإنها ستخسر كل الدول العربية. فرد المندوب الروسى قائلا: «إذا عدت لتتكلم معى بهذه النبرة مرة أخري، لن يكون هناك شيء اسمه قطر بعد اليوم. أنت ضيف على مجلس الأمن فاحترم نفسك وعد إلى حجمك، وأنا أساسًا لا أتحدث إليك. أنا أتحدث باسم روسيا مع الكبار فقط. لقد سعى وزير الخارجية القطرى إلى إلغاء المسافة بين حقيقة ما هو عليه، من هوية متكلسة وما يمثله واقعيًا من وهم حشو لفراغ، وبين ما هو محمول عليه استحواذًا بالاكتساب المدبر لمكانة متعملقة مفتعلة يتمايز بها؛ فإذ بالمندوب الروسى أمام الحضور الدولي، يتلقفه محطمًا مرآته الزائفة، ساحقًا ذلك التغييب المتعمد للحقيقة، كاشفًا عن معاندة الفراغ العادم لإمكانات الوجود ضد الامتلاء. كذلك فإن الباحث التونسى الدكتور سامى الجلولى فى كتابه الصادر عام 2013، بعنوان «وين ماشى بينا سيدي- قطر والجزيرة..أسرار وعلاقات» استعرض- فى مسح مدقق- مسار القطيعات القطرية، بحثًا عن متكأ لفكرة أو عقيدة فلم يجد سوى ذلك التنافر النفسي، الذى تبدى فى إغلاق قطر طريق التلاقى بينها وبين عالمها العربي، لأنها مسكونة بشعور بالنقص جغرافيًا واجتماعيًا، فراحت تبحث عن مرجعية مفارقة تعوضها عن ذلك النقص، الذى تبدو فى ظله رخوة ضعيفة فى داخلها؛ لذا راحت تبحث عن المرغوب والمنشود. ولأن الهيمنة تتلاعب بالحس الوطنى العام، إغواءً وخداعًا واستقواءً على من تختارهم، لتجريدهم من أهلية الاستقلال والسيادة على الذات لينفذوا تعليماتها؛ لذا أصبحت قطر فى ظل الهيمنة الأمريكية تستشعر أنها تسمو على أى واقع متحقق فى المنطقة العربية؛ لأنها قد تجاوزت عالمها العربى سيطرة وتحكمًا بولائها للأمركة، وليس تأسيس السلطة البرلمانية للمجتمع القطرى كاستحقاق قد نص عليه الدستور منذ عام 2005، ولم يتحقق واقعيًا حتى اليوم؛ إذ الأولوية لإشباع التقدير الذاتى الكامن للأمير.