حسن السّالمي/ تونس الدجّال (*) وأنت طفل في الرّابعة.. لعلّك تذكر هاتيك الأيّام.. نعلم أنّ أغلب أحداثها دخلت غياهب النّسيان.. ولكن ثمّة حدث بعينه، لا زال حيّا في ذاكرك، كأنّه نبات سحريّ في عالم الخلود.. فتحت عينيك الصّغيرتين بعد ليلة صاحبك فيها الهناء والأمان.. تسلّل إليك ضوء الضّحى عبر باب الغرفة الموارب وشبّاكها المفتوح.. شعرت برعشة تسري في أوصالك، وموجة من الهواء البارد تتسللّ إليك هي الأخرى، كأنّها تختبر فيك حرارة الحياة.. كعادتك دائما، وقبل نهوضك من الفراش طالعتك جذوع النّخيل ممدودة على عرض الغرفة، متقاطعة مع القصب وعصيّ الجريد… السّكون كان غاشما.. بيد أنّ أصواتا بعيدة قطعته على استحياء، فتبيّنت فيها صوت أمّك وأبيك ونفرا آخرين.. تخيّلتهم يتحلّقون حول كانون الشّاي كعادتهم، في ظلّ الكلبتوسة التي كانت تسمق حذاء الحوش.. استوحشت نفسك من الصّمت المطبق على الغرفة، فأردت النّهوض.. لكن وأنت تهمّ بالنّزول من سرير أبيك وأمّك الصّدئ، سمعت صوتا جهوريّا كأنّه رجع الصّدى: – عد. عدت مستسلما، وأنت تبحث بعينيك المرعوبتين عن صاحب الصّوت فلا تحيط به.. بعد حين آخر عزمت على الفرار بجلدك، غير أنّ ذلك الصّوت انفجر كرّة أخرى: – عد. شعرت كأنك تغوص إلى سابع أرض.. وخيّل إليك أنّ أيد بلا أجساد تهمّ بك.. – انزل. أطعت مستسلما، والرعب فيك كعضال مرض يوشك أن يذهب بك.. لكن قبل أن تلامس قدماك الأرض: – عد ! وهكذا ظللنا نعابثك وأنت تتلفت حولك فلا ترانا.. ضاقت نفسك وشعرت بروحك تنهك أو كأنّها تُستلّ منك.. بغتة دخلت أمك لحاجة لها فخنسنا.. وجدتك مخطوف الوجه متبدّل السّحنة، تحتك بركة من البول.. حين ضمّتك إليها، أطلقت عنان البكاء حتّى كادت أنفاسك تنقطع… ***** وأنت طفل في الخامسة.. تلك الليلة من ليالي الصّيف، لن تمحى من ذاكرتك.. السّماء صافية نقيّة كدمعة طفل.. تَزَيَّن بكواكب لامعة في جوّ من الرّهبة والخشوع.. على ضوء القمر، كانت الأرض في تلك السّاعة تتوشّح بوشاح فضيّ شفّاف، يبدي ما ظهر من زينتها.. فتحتَ عينيك من تحت لحاف أمّك الأسود، فألفيت نفسك ترقد وسط الحوش على حصير دونه التّراب..كان خاليا ممّا سواك، أو من جدّك الطّاعن في السّن، الذي كان يرقد غير بعيد عنك وغطيطه الخافت يجرح السّكون في لين.. ظللت في لبس من أمرك حينا، وعقلك الصّغير يسقط في الفراغ، فلا تدري أأنت في عالم اليقظة أم في دنيا الأحلام.. فجأة انقدحت في ذاكرتك آخر المشاهد: عرس حافل وحركة نشيطة وأهازيج ترتفع إلى عنان السّماء.. امتدّت بك عذوبة المرح واللّعب مع أترابك في العراء حتّى ساعة متأخّرة من اللّيل..فعدت تبحث عن أمّك في حشد من النّساء.. وجدت جدّتك فارتميت في حجرها، فما هي حتى استلتّك مراكب النّوم، وابتعدت بك سريعا وسط أصوات أخذت تخفت من حولك شيئا فشيئا، إلى إن غبت تماما.. سألت نفسك وأنت تفرك عينيك: "من الذي أتى بي إلى هنا.. وأين أهلي؟" صرخت بأعلى صوتك..لم يجبك إلاّ حفيف جريد النّخلة التي هبّ عليها النّسيم في تلك السّاعة.. دعوت جدّك.. لكنك كنت تدعو ميتا.. مرّة أخرى تجد نفسك وحيدا لنختلي بك ! أردت النّهوض إلى جدّك تحتمي بجناحه من السّكون الذي بات يؤرّقك.. لكن ذلك الصّوت انفجر في أذنك بعد إن صام عنك عاما أو بعض عام.. – اثبت مكانك. اعتلتك رعدة وغلبتك الرّغبة في التبوّل… خرجنا إليك من ثقوب الأرض وشقوق الجدران والأبواب، ومن بين سعف جريد النخلة وأغصان الكلبتوسة التي كانت تحاذي حوشكم، تطلّ عليكم عملاقة كلّ حين.. كنت ترانا رؤية العين.. نكون على أشكال الجراد والفئران في البداية.. ثمّ نبدأ بالتشكّل فإذا نحن خلال جزء من الثّانية نصير على هيئة أقزام صغيرة كما في خرافاتكم.. لا نكلّمك.. فقط نرشق فيك أعيننا المستديرة المائلة إلى الحمرة.. أردنا أن نوادعك، ونكسر عنك حاجز الخوف الذي يجول بيننا.. لكنّك ظللت تسترق النّظر إلينا، بقلب مرتجف وأنفاس متقطّعة.. ضربنا حولك حلقة مغلقة ونحن نجعل أيدينا في أيدي بعض.. ثمّ أخذنا ندور حولك رافعين أصواتنا بالغناء فلا يسمعنا غيرك.. لاحظنا أنّ صدمتك منّا بدأت تخفت في نفسك، وإن بقي منها في قلبك بعض وجل.. انفصلنا اثنين، اثنين.. وتشكّلنا في صور إنسيّة ذُكرانا وإناثا.. على عينيك تفاسدنا وتفاحشنا كأبطال أفلام الإباحة في زمانكم هذا.. نعلم أنّنا نرجّك بما نفعل، سيما وأنت على سنّك المبكّرة.. ولكن أردنا أن نبذر فيك من بذرنا لحاجة في أنفسنا.. بعد أن أوغل اللّيل وأوشك الفجر أن يلوح، انفتح باب الحوش، فعدنا إلى سيرتنا الأولى نراك ولا ترانا.. كان أهلك قد فرغوا من العرس لتوّهم.. وجدوك في بركة بولك.. حدثّتهم بما رأيت وسمعت، فعندما وصلت إلى مشاهد فحشنا، زجروك ونهروك وأغلظوا لك القول ! ***** وأنت طفل في التّاسعة.. الوقت ربيع، وجمرة الهواء تستعدّ لتكون وهجا في قادم الأيّام.. السّهى ينحرف عن مكانه، ويدخل برجا في نادرة من نوادر الكون.. على ضوء القمر واللّيل يبلغ الهزيع، كنت وحدك تنظر إلينا من شبّاك الغرفة الصّغير، المطلّ على ساحة الحوش.. كنت قبل ذلك تغطّ غطيط السّعداء، فتسلّلنا إلى عالم أحلامك.. وثمّ زرعنا مشهدا بالغ الفحش.. خَيّلنا إليك أنّك في حديقة غنّاء، تفاحش طفلة من جيرانكم.. أفقت مسرورا منشرح النّفس، وأنت تسترجع ذلك المشهد، مستفزّ الفحولة، ممّا يعني أننّا نجحنا في إيقاظ ذلك المارد في عروقك قبل الأوان.. سمعت هسيسنا وحديثنا في ذلك الوقت، الذي يبسط فيه السّبات سلطانه على كلّ شيء.. رأيت امرأة ليس في نسائكم أجمل منها.. عليها ثياب حمراء من حرير، تتمنطق بحزام من زمرّد.. على جيدها الذّهب واللّؤلؤ، ومثلهما في معصميها.. حولها صبية صغار ينتبذون ركنا من الحوش، حيث تنّور أمّك.. أمامها جِفنة من خشب ملئت عجينا.. تأخذ منها بشمالها، فتكوّره تكويرا، وتبسطه بسطا عل شكل قرص صغيرّ ثم تضعه بيدين مدرّبتين على "طجين" الطّين.. كنت وحدك تشمّ رائحة ذلك الخبز.. فقرقرت بطنك ونفسك تمتلئ شهوة منه.. دخل عليك أحد صبياننا وكان جميلا كأمّه.. أخذك من يدك وهو يبتسم في وجهك.. ومازال يقودك حتّى وصل بك إلى إخوته فوجدتهم على أحسن صورة.. لعبت ومرحت معهم كما لم تفعل من قبل.. ذلك أنّك وجدت في صحبتهم عذوبة وحلاوة ما كنت تجدها في خلاّنك.. عندما نضج الخبز..أطعمتك منه المرأة بعد أن غمسته في سائل غريب.. ما كان الخبز كخبزكم.. ولا كان السّائل عسلا كما خَيّلناه إليك.. بل كان طعاما من شجرة حرّمت عليكم أبناء آدم، غمسناه لك من دم قتيل جئنا به من أقصى الأرض.. عندما تنفّس الصّبح، وجدك أهلك والدّم على فمك.. وفي يدك بقيّة باقية من ذلك الخبز الغريب.. صرخوا جميعهم وقلوبهم تهوي: " أنّى لك هذا ؟" والشّمس قرص أحمر، كنت معهم في حضرة عرّاف حاذق.. بصَّر ونَجَّم كثيرا… توصّف له أحدنا طائرا غريبا بسبعين ألف جناح.. ما بين الجناح والجناح مسيرة شهر ! قال بوجه متجهّم ورجفة تسري في أوصاله: " أمهلوني حتى المساء.." وأقبل المساء.. لكن حينها كان قد قبض.. أنزلنا عليه قارعة.. وكذلك نُبيح دماء من يبوح بسرّنا ! ***** إنّا أنشأناك إنشاء.. وتتبعناك في أصلاب آبائك، من آدم حتّى أبيك.. صنعناك على أعيننا، حتّى إذا توالت السّنون وصرت رجلا يافعا، رفعنا عنك حجبنا فأصبحت ترى ما لا يراه غيرك.. نجري على يديك ما لا نجريه إلاّ على من كان من خاصّتنا.. وضعنا يدك على خزائن الدّنيا، فإذا هي لك مطيعة ذليلة، تتصرف فيها كما تشاء.. أنت من صنيعتنا فلا تنسى.. ادّخرناك إلى هذه اللّحظة الحاسمة من قبل أن تولد.. بل من قبل أن يبدأ تاريخكم برمّته.. أنت جنديّ من جنودنا، وإنّ مثلك لكثيرون.. صنعناهم على أعيننا مثلما صنعناك.. لا يعصون أمرنا وينجزون ما نأمرهم به.. ارفع رأسك.. أنت خادم المليك الأعظم، فطوبى لخدّامه، والمحق المحق لأعدائه.. هذا أوان زمانه.. فما هي حتّى يملك الأرض فيتبعه خلق كثير.. يحي الموتى ويبرئ الأكمه .. يأمر المطر أن تنزل، والزّلازل أن تضرب فلا يسعهما إلاّ الطّاعة.. بيمينه النّار.. وبشماله الماء.. تجري الرّياح بأمره.. وما من شيء إلاّ من جنده.. من غضب عليه نشره بالمناشير، ثمّ يحييه تارة أخرى فيقول هل آمنت؟ ما أعظمه.. لا يدحره داحر.. له الغلبة أبدا.. فوطّن نفسك على الطّاعة.. إنّا نلقي عليك قولا ثقيلا.. فاخشع واسمع، فإنّه لا يفلح عندنا إلاّ الخاشعون الطّائعون.. عندما يذهب من شطر هذه اللّيلة ما يذهب، يَمِّم وجهك شطر واد اليهود.. تعرف هذا الوادي.. جئنا بك إليه صغيرا، في غفلة من أهلك، فشققنا على صدرك، وغسلنا قلبك بمائه المقدّس.. وكذلك نفعل بجنودنا.. تجده عند كتف المدينة القديمة.. يجري من تحتها بمائه الفيّاض كما أردنا.. منه تبدأ بساتين النّخيل ومنه رُواؤُها.. عند القوس الشرقيّ، ناحية جانبه الأيسر، احفر هناك وأنت تردّد: "باسم الذي خرج من جنان الخلد".. حتّى إذا بانت لك ثغرة باهرة الضّوء، ادخل يدك واسحب ما تجده بشمالك.. إنّه لوحنا المقدّس، وبشارة ظهور مليكنا الأعظم.. نحتناه بأيدينا قبل أربعة آلاف سنة في غفلة من سليمان وجنوده.. إنّه قطعة من شهاب قديم، لن تجد له مثيلا على وجه الأرض.. رُصد به أحد كبرائنا في غابر الزّمان، فآثرنا إلاّ أن نودعه أسرارنا، ونحمّله من عجائب الرّموز ما لا تحيط به سلالة البشر.. فشرف لك أن تكون أوّل من ينفض عنه الغبار.. وشرف لك أن تكون من طلائع جندنا.. امض إلى غايتك بإذننا.. إنّ موعدنا الصُّبح.. أليس الصُّبح بقريب… ————– (*) المجموعة القصصيّة " التّيه"-