تظل جرائم النازية ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية وما أعقبها قضية محورية لم يجرؤ المؤرخون والسياسيون وعلماء الأنثربولوجيا على مجرد الاقتراب منها ، ولو حتى من قبيل إعادة الدراسة ، وأصبح مجرد الاقتراب مما يسمى بمحارق الهولوكوست " Holocaust بمثابة جريمة ينتفض ضدها اليهود ودوائر السياسة في كثير من دول العالم ، بينما تغافل العالم عن مأساة كبيرة لا تقل جرمًا عما ارتكبته النازية ضد اليهود إنها قضية ( الغَجر) أو ما سموا ب(الزُط). هذه قضية تناولها المؤرخون في كتابات كثيرة وقد جاء التعريف بأصول هذه الجماعة في مصدرين شهيرين من التراث الفارسي ، أولهما: كتاب " تاريخ ملوك الأرض والأنبياء" ، وهو المصدر الذي كتبه حمزة الأصفهاني ( المتوفى 950م) حينما أقدم الملك الفارسي " بهرام جور" (420- 488م) على استقدام اثني عشر ألفا من الهنود جميعهم كانوا من المغنيين والموسيقيين والراقصين ، وقد وزعهم على مملكته حيث تناسلوا وقد سُمٌوا بالزٌط ، وثانيهما: تلك الملحمة الفارسية الشهيرة " الشاه نامة" ، وقد كتبها شاعر الفارسية الأشهر "أبو القاسم منصور بن أحمد "، والتي انتهى من كتابتها عام 1010م ، وهي لا تختلف في محتواها عن المصدر الأول إلا في بعض التفاصيل فيما يتعلق بأصول هذه الجماعة حينما طلب ملك فارس " بهرام جور" من ملك الهند أن يبعث إليه بموسيقيين ومغنيين في حدود عشرة آلاف ، وما أن قدم هؤلاء حتى أعطاهم الملك الفارسي قمحًا، وماشية ، وفرقهم في أنحاء مملكته لكي يزرعوا الأرض ، ويعزفوا بموسيقاهم ويمارسون هوايتهم في الغناء لكي يحفذ الناس على العمل ، وفلاحة الأرض. وخلال عام واحد كان هؤلاء قد بددوا كل ما حصلوا عليه من قمح وماشية فضلاً عن احتراف بعضهم لعمليات السحر وقراءة الطالع وممارسة العنف ، وقد راح الناس يتجمعون من حولهم حتى وقت متأخر من الليل ، وقد انصرف الناس عن أعمالهم ، لذا غضب عليهم الملك وأمرهم أن يضربوا في الأرض ليكتسبوا قوتهم بأنفسهم ، فمنهم من بقي ، والكثير منهم قد رحل إلى أنحاء متفرقة من بلاد العالم. هذه هي البدايات الأولى لهذه الجماعة وقد أسماهم الفارسيون " زُط " ، و " لولي" وقد صاحبتهم هذه المسميات أينما ارتحلوا، وقد عُرفوا في مصر وسورية ، وفلسطين ب " النوَر" ، و " الزٌط " ، وحينما وصل المد العربي في آسيا إلى غايته شرقًا بفتح بلاد السند في أوائل القرن الثامن الميلادي تم استقدام أعداد كبيرة منهم إلى العراق ، وشمال سوريا . و بمرو الزمن استقرت أعداد كبيرة منهم في أرمينية ، ومناطق متعددة من الإمبراطورية البيزنطية ، وقد لفتوا أنظار الناس بقدرتهم الهائلة على الترحال من بلد إلى آخر ، يبيعون سلعهم الرخيصة ، ويمارسون هواياتهم في الرقص والغناء ، وقراءة الطالع ، وغالبًا ما كانوا يقيمون على مشارف المدن يباغتون الناس أحيانًا بالسرقة ثم يهربون من مكان إلى آخر بسرعة فائقة خوفًا من اللحاق بهم ، وفي كل مراحل تاريخهم كانوا يحافظون على هويتهم الاجتماعية والثقافية ، لذا توجس منهم الأوربيون وارتابوا في سلوكهم ونظروا إليهم باعتبارهم مجرمين ، وتنامى تجاههم شعور بالكراهية والاحتقار وخصوصًا وأن بعضهم قد احترف مهنة السحر وقراءة الطالع وهو ما اعتبرته الكنسية سلوكًا منافيًا لتعاليمها، لذا لم يتقبلهم الأوربيون . مع منتصف القرن السادس عشر الميلادي وحتى نهايات القرن الثامن عشر كانت هذه الجماعات قد انتشرت في كثير من دول أوربا ، وقد عاشت على هامش الحياة حيث كانت اللغة والثقافة والشعور بالخوف من الأغيار جميعها أسباب حالت دون اندماجهم في المجتمعات التي مروا بها ، وقد راحت الشرطة تلاحقهم بعد أن أصدرت الكنسية الكاثوليكية قرارات الهرطقة ضد بعضهم ، وقد استحلت دماءهم ، وغالبًا ما كانوا يتمكنون من الإفلات من القانون والملاحقة ، بسبب تنقلاتهم المباغتة . مع وصول الحزب النازي إلى السلطة في المانيا عام 1933م كان اليهود والغجر هما الجماعتين المرشحتين للإبادة وفقًا لأيديولوجية الحزب النازي ، وكانت ثمة مشكلة في تحديد من هم الغجر . وقد أوكل الحزب هذه المهمة لأحد علماء النفس والإنثربولوجيا وهو " روبرت ريتر" Robert Ritter ، وقد عرفهم بأنهم قوم من أصول بدائية وضيعة ، وأن تخلفهم العقلي يحول دون اندماجهم اجتماعيًا ، وثقافيًا ، وقد اقترح جمعهم في معسكرات تحول دون اتصال الرجال بالنساء، حيث ينتهي الأمر بموتهم إما بتقادم العمر أو بحقنهم لكي يموتوا موتًا بطيئًا. كان مصير الغجر قد تحدد بشكل قاطع مع بدايات الحرب العالمية الثانية باعتبارهم جواسيس وعبئًا على المجتمع وهو ما يستوجب استئصالهم تمامًا ، وهكذا تفاقمت مأساة الغجر في كل الدول التي اجتاحتها المانيا ، لذا راحت قوات النازي تجمعهم من دول أوربا الشرقية ، وخصصت لهم معسكرات في بولنده، والمانيا ،والمجر ، وقد استُخدم ضدهم غاز "ثاني أوكسيد الكربون" ، وتم التخلص من بعضهم في جمهورية البلطيق ، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا ، سواء بغاز " أوكسيد الكربون" ، أو القتل رميًا بالرصاص ، وأكثر الحالات دموية كانت في يوغوسلافيا ، ورومانيا ، والاتحاد السوفيتي، بعد أن اجتاحته القوات الألمانية 1941م . إذا كان من الصعب وفقًا لوثائق الحرب العالمية الثانية تحديد عدد الذين قتلوا على يد الألمان ، لكن كتابًا مهمًا قد كتبه المؤرخ وعالم الأنثربولوجيا " سير أنجوس فريزر" Sir Angus Fraser وترجمه ترجمة بديعة المرحوم الدكتور "عبادة كحيلة" ، ونشره المركز القومي للترجمة في القاهرة عام 2001م ، وقدر المؤلف أن ما بين ربع مليون إلى نصف مليون غجري قد تم قتلهم إما بالرصاص أو بغاز " ثاني أوكسيد الكربون" ، ومن بقي منهم على قيد الحياة قد أصيبوا بعاهات عضوية أو عقلية . المدهش في الأمر أن كل هؤلاء الضحايا لم يثبت أنهم كانوا عملاء أو جواسيس للحلفاء ، وإنما كانت تهمتهم أنه من المحتمل أن يصبحوا ذلك فيما بعد ، وقد تمكن مئات الألوف منهم من الإفلات من هذا المصير البائس بعد أن ساحوا في كل بلاد العالم ، وربما أصبح بعضهم أو بعض أبنائهم- فيما بعد- علماء ، أو فنانيين كبار بعد أن انخرطوا في المجتمعات التي استقروا بها. لم تلتفت المحاكم الألمانية ، أو غيرها من محاكم الدول الأوربية إلى القضايا التي رفعها البعض بسبب الجرائم التي حدثت لهذه الجماعات حتى عام 1959م حينما نظرت إحدى المحاكم الألمانية قضية رفعها رجل من " بقايا" الغجر يُدعى " إيريك بالاس" Erik Palasz وكان قد ألقي القبض عليه من قبل النازيين في بولندا عام 1940م عن عمر لم يتجاوز الستة عشر عامًا وحبس لخمس سنوات بعد أن قتل أبواه ، وقد بقيت القضية تتداولها المحاكم الألمانية حتى عام 1963م ، ولم يتمكن الرجل من الحصول على حقه حتى ولو بالتعويض. المثير في الأمر أن وضع الغجر خلال الحرب العالمية الثانية كان أكثر مأساوية من وضع اليهود الذين كوفئوا بوطن ليس من حقهم ، وحصلوا على مئات المليارات كتعويض عما أسماه الحلفاء ب" المحرقة" (الهولوكوست) ، بينما بقيت مأساة الغجر قضية ثانوية لم يلتفت إليها الحلفاء خلال تسويات الصلح التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ، ولم تتحرك ضمائر الغيورين على حقوق الإنسان من السياسيين والمؤرخين . إذا كانت قضايا أخرى مماثلة من قبيل قضية الأرمن والمآسي التي تعرضوا لها خلال الاحتلال العثماني قد وجدت طريقها الآن إلى المحاكم الدولية ، واهتمامات المجتمع الأوربي ، أليس من اللائق بعد أن أصبحت مثل هذه الجرائم موضع عناية العالم أن يُعاد فتح ملف الغجر على كل المستويات السياسية والقضائية والتاريخية باعتبارها قضية إنسانية لا يمكن أن تسقط أبدًا بالتقادم.