سهرة فصيحة 18 ظاهرة الاستغناء في الدرس النحوي * الاستغناء لغةً : يُقال فيه : الغَنَاء ؛ مثل الاكتفاء ، وليس عنده غَنَاءٌ ؛ أي : ما يغْتنِي به يُقال : غَنيتُ بكذا عن غيره ، من باب (تَعِبَ) إذا استغنيتَ به(1) ، والاستغناء مصدر من الفعل استغنى ، وهو يدل على القصد والتعمد . * الاستغناء اصطلاحًا : لقد كان النحاة أحيانًا في درسهم يصفون الظاهرة اللغوية ويرصدونها ويدرسونها دون أن يضعوا لها تعريفًا جامعًا مانعًا أو مصطلحًا علميًّا كما نعرفه في حاضرنا ، ولقد ورد لدي كثير من النحاة مصطلح الاستغناء مِنْ لَدُنْ سيبويه إلى يومنا هذا ، ومن ذلك ما ذكره سيبويه عن العرب في هذا الشأن :" ويستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يُستعمل حتَّى يصير ساقطًا(2)". ومنه ما ذكره ابن الأنباري :" قد يُستغنى بالحرف عن الحرف في بعض الأحوال إذا كان في معناه(3)"، ويقول في موضع آخر:" قد يُستغنى ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في المذكور دلالةٌ على المحذوف"(4)، ويقول السيوطي:" قد يستغنون بالشيء عمَّا هو في معناه"(5). وبعد .. فمما سبق من أقوال النحاة السابقة وغيرها ووصفهم لهذه الظاهرة ؛ ومما سنذكره وندرسه من شواهد على هذه الظاهرة جاز لنا أن نُعرِّفَ بمصطلح "الاستغناء" على أنَّه:"هو استغناء العرب بكلمة عن كلمة أو أكثر؛ عن طريق حذف بعضها أو تغيير صورتها، أو الاستعانة بكلمة ليست من اشتقاقها؛ لوجود قرينة، وذلك استحسانًا وطلبًا للخفَّة والاختصار، ولضربٍ من البلاغة وتجويد المعنى". وهذا التعريف يشتمل على عدة أمور منها : أولا: الاستغناء عملٌ لغويٌّ مارسه العرب وكشف النقاب عنه النحاة العرب بوسائلهم المعروفة ؛ كعرضه على السماع أو القياس أو غير ذلك. ثانيًا: تتكون عملية الاستغناء اللغوي من ركنين، أولهما (المُستغنى عنه) [ وهو اللفظ الذي تم الاستغناء عنه وأهمل استعماله ]، وثانيهما (المُستغنى به) [وهو اللفظ المستعمل] ، وقد يكون كلاهما أو أحدهما حرفًا أو فعلا أو اسمًا أو جملة صغرى، ..الخ ، والمُستغنى عنه يصفه النحاة أحيانًا بالندرة أو الشذوذ ، وقد يصبح ميِّتًا لغويًّا !! * ضوابط ظاهرة الاستغناء: عرفنا منذ قليل أن الاستغناء نسبه النحاةُ للعرب, فهو من صنعهم, وجاء النحاة وفسروه, وكشفوا أسراره وسبروا أغواره, وقيدوا مسائله وشواهده وشوارده؛ بل توهموا(6) سيره وتصرف العرب خلاله، كما توهموا وأولوا الكلمة الميتة في عرفهم التي قلنا عنها "المستغنى عنه"؛ علي الرغم من غيابها عن الاستعمال اللغوي, ومن المثير للعجب أن النحاة أيضًا يضعون ضوابط ظاهرة ليست من صنعهم ؛ بل من صنع العرب على حد زعمهم. ومن المهم هنا أن نقول: إنَّ في الاستغناء كلمتين إحداهما (المُسْتَغْنَى عنها) وذلك عن طريق تحويلها بالحذف أو الإبدال أو غير ذلك إلي كلمة نسميها (المُسْتَغْنَى بها) ؛ وعن ذلك يقول ابن جني:"وذلك أنَّا نرى العرب قد غيرت شيئًا من كلامها من صورةٍ إلي صورة, فيجب حينئذٍ أن تتأتى لذلك وتلاطفه لا أن تخبطه وتتعسفه(7)"؛ أي: يُشترط في الاستغناء السهولة والملاطفة , كما يُشترط أن يتوافق اللفظ (المستغنى به) مع أمثلتهم وصورهم كما كان المحذوف (المستغنى عنه) موافقًا, وعن ذلك يقول ابن جني:"العرب إذا غيَّرت كلمة من صورة إلي أخرى, اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم, وذلك أنك تحتاج إلي أن تنيب شيئًا عن شيء ؛ فأوْلى أحوال الثاني بالصواب أن يشابه الأول؛ ومن مشابهته له أن يوافق أمثلة القوم , كما كان المُناب عنه مثالا من مُثلهم أيضًا(8)".ويشترط أن لا يكون الاستغناء دون سبب أو دافع أو دون أن يهدف إلي شيء يخدم اللغة, وإلا كان ضربًا من الإفساد اللغوي والفوضى التي لا تقبلها اللغة العربية , كما يؤكد النحاة تعمُّد العرب الاستغناء. وندلل علي ذلك بما قاله ابن جني(9):"وكان أبو الحسن يذهب إلي أن ما غُيِّر لكثرة استعماله إنَّما تصورته العرب قبل وضعه, وعلمت أنَّه لابد من كثرة استعمالها إياه؛ فابتدعوا بتغييره, علمًا بأنه لا بد من كثرته الداعية إلي تغييره, وهذا في المعنى كقول الشاعر: رأي الأمر يُفْضي إلي آخرٍ فصيَّر آخره أولا ويُشترط أن يكون الكلام بعد الاستغناء وقبله جيدًا , ولكن بعده أجود وأبلغ , وهذا ما عناه سيبويه بقوله:"لو حَسُنَ الكلام بالذي لا يستغنى عنه لحَسُنَ الذي يستغنى عنه(10)"؛ أي : إنَّ العرب قد انتقلت بالاستغناء من كلام فصيح إلي كلام أفصح وأبلغ وأجود, بل أكثر قدرةً علي إيصال المعنى وتجويده يلاحظ أن النحاة قصدوا الاستغناء والحذف وعلى هذا يمكن تلخيص أهم ضوابط الاستغناء فيما يلي: أولا: صنعه العرب الفصحاء دون غيرهم. ثانيًا: صنعوه باليسر والملاطفة دون التعقيد. ثالثًا: تصوروه في أذهانهم قبل أن يفعلوه. رابعًا: المستغنى به والمستغنى عنه من كلامهم وعلى مُثُلِهم وصِيَغِهم. خامسًا: المستغني به أجود وأبلغ , وأقدر في إبداع المعنى وتجويده. – الحواشي: (1) ينظر : المصباح المنير مادة (غنى) ، ولسان العرب المادة نفسها 1/46 . (2) الكتاب 1/25 ، 2/121 . (3) الإنصاف 2/485 ، مسألة ( 68 ) . (4) الإنصاف 1/93 ، مسألة ( 13 ) . (5) الأشباه والنظائر 1/78 . (6) ينظر : التوهم عند النحاة للمؤلف , ط مكتبة الآداب , القاهرة سنة 2001 م , ص 37 . (7) الخصائص 2/ 470 . (8) الخصائص 2 / 66 67 . (9) الخصائص 2 / 31 . (10) الكتاب 2 / 281 .