* الاستغناء لغةً: يُقال فيه: الغَنَاء؛ مثل الاكتفاء ، وليس عنده غَنَاءٌ ؛ أي: ما يغْتنِي به يُقال: غَنيتُ بكذا عن غيره، من باب (تَعِبَ) إذا استغنيتَ به(1)، والاستغناء مصدر من الفعل استغنى، وهو يدل على القصد والتعمد . * الاستغناء اصطلاحًا: لقد كان النحاة أحيانًا في درسهم يصفون الظاهرة اللغوية ويرصدونها ويدرسونها دون أن يضعوا لها تعريفًا جامعًا مانعًا أو مصطلحًا علميًّا كما نعرفه في حاضرنا ، ولقد ورد لدي كثير من النحاة مصطلح الاستغناء مِنْ لَدُنْ سيبويه إلى يومنا هذا ، ومن ذلك ما ذكره سيبويه عن العرب في هذا الشأن:" ويستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يُستعمل حتَّى يصير ساقطًا(2) ". ومنه ما ذكره ابن الأنباري :" قد يُستغنى بالحرف عن الحرف في بعض الأحوال إذا كان في معناه(3) " ، ويقول في موضع آخر :" قد يُستغنى ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في المذكور دلالةٌ على المحذوف"(4) ، ويقول السيوطي :" قد يستغنون بالشيء عمَّا هو في معناه "(5). وبعد .. فمما سبق من أقوال النحاة السابقة وغيرها ووصفهم لهذه الظاهرة ؛ ومما سنذكره وندرسه من شواهد على هذه الظاهرة جاز لنا أن نُعرِّفَ بمصطلح " الاستغناء " على أنَّه :" هو استغناء العرب بكلمة عن كلمة أو أكثر؛ عن طريق حذف بعضها أو تغيير صورتها ، أو الاستعانة بكلمة ليست من اشتقاقها؛ لوجود قرينة ، وذلك استحسانًا وطلبًا للخفَّة والاختصار ، ولضربٍ من البلاغة وتجويد المعنى " . وهذا التعريف يشتمل على عدة أمور منها : أولا : الاستغناء عملٌ لغويٌّ مارسه العرب وكشف النقاب عنه النحاة العرب بوسائلهم المعروفة ؛ كعرضه على السماع أو القياس أو غير ذلك . ثانيًا : تتكون عملية الاستغناء اللغوي من ركنين، أولهما ( المُستغنى عنه ) [ وهو اللفظ الذي تم الاستغناء عنه وأهمل استعماله ] ، وثانيهما ( المُستغنى به ) [وهو اللفظ المستعمل] ، وقد يكون كلاهما أو أحدهما حرفًا أو فعلا أو اسمًا أو جملة صغرى ، ..الخ ، والمُستغنى عنه يصفه النحاة أحيانًا بالندرة أو الشذوذ ، وقد يصبح ميِّتًا لغويًّا !! * الاستغناء لدى النحاة العرب : كما ذكرت مصطلح الاستغناء ورد عند كثير من النحاة العرب في ثنايا مؤلفاتهم ، ولقد أكثر سيبويه إمام النحاة من ذكره(6) وقد مرَّ بنا ذلك ، وعقد ابن جني له بابًا في الخصائص(7) ، وكذلك فعل السيوطي في الأشباه(9) ، ودرسه ابن السرَّاج في الأصول(8) ، وكذلك ابن الأنباري في الإنصاف(10).وعلى هذا النحو تصرَّف معظم النحاة العرب مع ظاهرة الاستغناء ؛ وذلك لأن الاستغناء في نظرهم " بابً واسعٌ ؛ فكثيرًا ما استغنت العرب بلفظٍ عن لفظ .. (11) " ، وما يهمنا هنا هو معرفة مُراد النحاة من هذا المصطلح ، ويبدو لي أنهم كانوا يقصدون بمصطلح الاستغناء معانٍ عدة ، منها ما يأتي: أولا : الحذف : كثيرًا ما نجد النحاة يقصدون الحذف عند حديثهم عن الاستغناء ، ومن ذلك قول سيبويه :"ولكنهم حذفوا (ذا) لكثرة استعمالهم إياه وتصرفهم حتَّى استغنوا عنه ب(هذا) (12) " ، ومنه أيضًا قوله :" لو رأيت رجلا يُحدِّثُ حديثًا فقطعه ، فقلتُ : حديثك ، أو قَدِمَ رجلٌ من سفرٍ؛ فقلت : حديثك ؛ استغنيت عن الفعل بعلمه أنَّه مستخبَرٌ ؛ أي : أكمل حديثك(13) ". ومما سبق فقد اتضح أنَّ سيبويه قد قصد بالحذف الاستغناء ، وتابع بعض النحاة إمامهم في ذلك ، ومن ذلك قول ابن الأنباري :" إنَّهم قد يستغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف ؛ لعلم المخاطب(14) "، فالمقصود بالاستغناء هو الحذف . ثانيًا : الإبدال : ولا نقصد هنا باب الإبدال في الصرف العربي ، وإنَّما هو الإبدال بالمعنى اللغوي ، ومن ذلك ما ذكره سيبويه في قوله :" وصار (يا) النداء بدلا من الفعل " ، ومن ذلك قوله معلقًا على قولهم : (أهلكَ والليل) ؛ حيث يقول :" أي: بادر أهلك قبل الليل ، فقد كثر هذا الحذف استغناءً بما يرون من الحال وبما جرى من الذكر، وصار المفعول بدلا من اللفظ بالفعل ، ومما جُعِلَ بدلا من اللفظ قولهم : الحذرَ الحذرَ، النجاءَ النجاءَ؛ أي : الزم الحذرَ , عليكَ النجاء(15) ". ومن الملاحظ هنا أنَّ سيبويه إنْ حالفني التوفيق يعني بالاستغناء البدل أو التبديل ، وهو أن يحلَّ لفظٌ محل لفظ آخر في سياقٍ بعينه ؛ فالمُستغنى عنه قد يظهر في سياق آخر أو تركيب آخر ، وهو لا يعني الاستغناء بالمفهوم الاصطلاحي السابق . ثالثًا : الإهمال والترك : نجد في أقوال كثير من النحاة وفي مقدمتهم سيبويه أنهم يقصدون بالاستغناء الإهمال أو الترك لعدم الفائدة من الذكر ، ومن ذلك تعليق سيبويه عندما تحدَّث عن قول ذي الإصبع العدواني : عذيرَ الحيِّ من عدوا ن كانوا حيَّةَ الأرض حيث يقول سيبويه :" فلم يجز إظهار الفعل وقبح ، كما لو كان مُحالا(16) "، ومن ذلك ما نقله سيبويه عن يونس بن حبيب ؛ حيث يقول :" ومن ذلك قول العرب : مَنْ أنت زيدًا ؛ فزعم يونس أنَّه على قوله: مَنْ أنت تذكر زيدًا ، ولكنَّه كَثُرَ في كلامهم واستعمل واستغنوا عن إظهاره(17) ؛ أي: تركوه وأهملوه، وفي هذا الشأن يقول السيوطي :" قد يستغنون بالشيء عمَّا هو في معناه(18) ". رابعًا: الاكتفاء (تمام المعنى): وهذا المعني كان من أكثر استخدامات النحاة لمصطلح الاستغناء, وفي ذلك يقول سيبويه:" ومثل ذلك قول العرب : مَنْ كذب كان شرًا له , يريد : كان الكذب شرًا له أنه استغنى بأن المخاطب قد علم أنه الكذب "(19) , ومن ذلك أيضًا قوله : أمَّا قول الناس: كان البر قفيزين؛ فإنما استغنوا ها هنا عن ذكر الدرهم لما في صدورهم من علمه , ولأن الدرهم هو الذي يُسعر عليه, ومما يؤكد ذلك ربط سيبويه بين الاستغناء والاكتفاء ما ذكره سيبويه عند تعليقه على قول ابن عبيد الأشجعي : وعَدْتَ وكان الخُلْفُ منك سَجِيَّةً مَوَاعيدَ عُرْقُوبَ أخاه بِيثربِ كأنه قال: واعدتني مواعيد عرقوب أخاه ؛ ولكنه ترك (واعدتني) استغناءً بما هو فيه من ذكر الخُلف, واكتفاء بعلم من يعني بما كان بينهما قبل ذلك(20). ونجد كثيرًا من النحاة أيضا يقصدون بالاستغناء الاكتفاء ؛ ومن ذلك علي سبيل الأمثلة قول ابن السراج:" الاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو والفعل جملة إن يستغني بالسكوت تمت بها الفائدة للمخاطب(21)" , ومن ذلك ما ذكره ابن يعيش بقوله : " الفاعل كالجزء من الفعل , وإنما كان كذلك لأن الفعل لا يستغني عنه ، وقد يستغنى عن المفعول(22)" ، ومنه قوله أيضًا : " وقد يكون الراجع معلومًا فيستغنى عن ذكره وذلك في قولهم : البرُّ الكرَّ بستين والسَّمْنُ مَنوان بدرهم(23)". وسيطول بنا المقام لو رحنا نتتبع مفهوم النحاة عن الاستغناء بكل معانيه , ولكن قصدنا التمثيل لا الحصر , وركزنا بطبيعة الحال علي كلام سيبويه في كتابه ؛ لأنه أقدم كتاب نحوي , وصاحبه إمام النحاة بلا منازع , ومن خلال ذلك تعرفنا علي مفهوم النحاة لمصطلح الاستغناء أو بعض هذا المفهوم , والآن لنتعرف علي علاقة العرب بالاستغناء . الحواشي: (1) ينظر : المصباح المنير مادة (غنى) ، ولسان العرب المادة نفسها 1/46 . (2) الكتاب 1/25 ، 2/121 . (3) الإنصاف 2/485 ، مسألة ( 68 ) . (4) الإنصاف 1/93 ، مسألة ( 13 ) . (5) الأشباه والنظائر 1/78 . (6) ينظر : الكتاب 1/25 ، 2/121 ، وغيرها. (7) الخصائص 1/266 وما بعدها . (8) الأشباه والنظائر 1/76 وما بعدها . (9) الأصول 1/57 ، 75 ، 77 ، وغيرها . (10) الإنصاف 1/93 ، 2/ 485 وغيرها . (11) الأشباه 1/76 . (12) الكتاب 1/295 . (13) الكتاب 2/309 . (14) الإنصاف 1/95 . (15) الكتاب 1/291 . (16) الكتاب 1/275 . (17) الكتاب 1/277 , وينظر : الخزانة 2/408 ، ولسان العرب ن مادة ( حيا ) . (18) الكتاب 1/292 . (19) الكتاب 2 / 391 . (20) الكتاب 1 / 392 . (21) الأصول 1 / 75 , 77 . (22) شرح المفصل 1 / 14 . (23) شرح المفصل 1 / 91 , 2 / 93 .