النحو عِماد اللغة العالِمة والأدب والبَلاغة. بل هو عِماد الثّقافة والعلوم العربية القُحّة. فلا فِقه ولا حديث ولا علم كَلام..بدونه. فكم من فَقيه أفتى المسلمين في دينهم من كِتاب سيبوْيه. وكم من قاعدة فِقهية بُنيتْ على أساس قاعِدة نحوية. والشبه بيْنهما لا يترُك مجالا للشّك. والمكانة التي لهذا العلم جعلتْ أحد جَهابدة العربية؛ أبي سَعيد السيرافي، رَئيس مَدرسة بغداد النحوية، في مُناظرته الشَّهيرة مع "مَتَى بن يُونس"؛(جعلته) يعتبره "مَنطق العرب" الذي يُغنيهم عن "مَنطق أرسطو"؛ أيْ: أنَّه جعَله أداة لاكتساب كل أنواع المعرِفة العربية الإسلامية. ويعتبر العلماء أن علم النحو بمكانة أبي العلوم العربية والقنطرة التي نعبر بها عليه إلى التزود بالعلوم اللغوية والشرعية وغيرها، فهو واسطة عقدها(1) ،قال ياقوت الحموي ( ت 626 ه) : (( وحسُبك شرف هذا العلم ، أن كل علم على الإطلاق مفتقر إلى معرفته ، محتاج إلى استعماله في مُحاورته . وصاحبُه فغير مفتقر إلى غيره ، وغير محتاج إلى الاعتضاد والاعتماد على سواه ))(2) يقولُ الجاحظ:"وكانَ أيوبُ السِّختيانِي يقولُ: تعلَّمُوا النَّحْوَ، فإنَّهُ جَمَالٌ لَلْوَضِيْعِ، وَتَرْكُهُ هُجْنَةٌ للشَّرِيْفِ. وقالُ عُمَرُ : تعلَّموا النحو كما تعلّمون السّنن والفرائض"(3). وقال ابن خلدون – رحمه الله – في المقدمة:" الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي، أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة"(4). ووضَّح ابن خلدون أهمية علم النحو، وأبرز مميزاته التي لا نجدها في لغة أخرى، ومما قاله:"إن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم، وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها، إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني من المجرور، أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد إلا في لغة العرب"(5). ويقول ابن خلدون أيضًا في مقدمته عن أهمية تعلم النحو :"إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة"(6) ،"لأن الكاتب أو الشاعر إذا كان عارفًا بالمعاني، مختارًا لها, قادرًا على الألفاظ، مجيدًا فيها، ولم يكن عارفًا بعلم النحو، فإنه يفسد ما يصوغه من الكلام, ويختل عليه ما يقصده من المعاني(7) ، ويقول ثعلب:"تعلموا النحو فإنَّه أعلى المراتب"(8). يقول ابن الأنباري:"إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة على أنه شرْط فى رتبة الاجتهاد، وأن المجتهد لوجمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو، فيعرف به المعانى التى لا سبيل لمعرفتها بغيره. فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه، لا تتم إلا به …" (9). وإن علم النحو من العلوم المهمة التي لا غنى عنها، وهو من أسمى العلوم قدرا وأنفعها أثرا به يتثقف أود اللسان ويسلس عنان البيان، ولقد أثر عن إسحاق بن خلف البهراني أنه قال(10) : النحو يبسط من لسان الألكن والمرء تكرمه إذا لم يلحن وإذا طلبت من العلوم أجلها فأجلها منها مقيم الألسن ويقول عبد القاهر الجرجاني:" وأما زُهُدهم في النَّحو واحتقارُهم له وإصغارُهم أمرَهُ وتهاوُنهم به فصنيعُهم في ذلك أشنعُ من صَنيعهم في الذي تقدَّم وأشبهُ بأن يكونَ صّداً عن كتابِ الله وعن معرفةِ معاينه ذاك لأنَّهم لا يجدونَ بُدّاً من أنْ يَعْترِفُوا بالحاجةِ إليه فيه إذ كان قد عُلمَ أنَّ الألفاظَ مغلقةٌ على مَعانيها حتّى يكونَ الإِعرابُ هو الذي يفتحها وأنّ الأغراضَ كامنةٌ فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها وأنه المعيارُ الذي لا يُتبيَّنُ نُقصانُ كلامٍ ورُجحانهُ حتى يُعرضَ عليه . والمقياسُ الذي لا يُعرف صحيحٌ من سقيمٍ حتّى يُرجَعَ إليه . ولا يُنكِرُ ذلك إلا مَن نَكر حِسَّه وإلا مَن غالطَ في الحقائقِ نَفْسَهُ"(11). ويقول يوسف السرَّمري:"… لابدَّ لمن شرح الله صدره لتناول العلم من آلة يستعين بها في موارده ومصادره ، وراحلة تصلح لقطع بدوه وحاضره، وذلك معرفة الإعراب الذي يبين به الخطأ من الصواب، ويفهم به كلام الله، وأحكام سنن رسوله"(12). إنَّ "جريان الكلام على أحكام النحو يجعله صحيحًا، وبُعده عنه يجعله فاسدًا، وليس بين هاتين واسطة، فالكلام إما صحيح لجريانه على عرف اللغة في الترتيب الخاص الذي يتبعه الإعراب، وإمَّا فاسد لعدم اتِّباعه أحكام النحو وقيمه.." (13). ويذكر ابن حزم أن الهدف من نشأة علم النحو – في الأصل – كان رفع الإشكال في فهم العلوم المختلفة؛ وهو ما يوضح علاقة علم النحو بالعلوم الأخرى، خاصة علوم الشريعة؛ حيث يقول: «لما فشا جهل الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية؛ وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالاً عظيماً، وكان ذلك معيناً على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه، وكان مَن جَهِل ذلك ناقص الفهم عن ربه تعالى؛ فكان هذا من فعل العلماء حسناً وموجباً لهم أجراً»(14) ومما سبق فإنَّ للنحو فوائد عدّة، أهمّها: 1- صون اللّسان من الغلط واللّحن: قال ابن جنّي "هو انتحاء سمْتِ كلام العرب ليلحق مَنْ ليس مِنْ أهل العربية بأهلها في الفصاحة "(15). لذلك سمّي هذا العلم نحوا؛ لأنّه الجهة الّتي يقصدها المتكلّم ليصل إلى كلام العرب الفصيح الصّحيح. 2- غايته الاستعانة على فهم كلام الله تعالى وسنّة رسوله . قال ابن فضّال في "شرح عيون الإعراب":"فإنّ النّحو علم يُعرف به حقائق المعاني، ويوقف به على معرفة الأصول والمباني، ويحتاج إليه في معرفة الأحكام، ويستدلّ به على الفرق بين الحلال والحرام، ويُتوصّل بمعرفته إلى معاني الكتاب، وما فيه من الحكمة وفصل الخطاب"(16). 3- معرفة صواب الكلام من خطئه ليحترز به عن الخطأ في اللسان. وقد عقد الجاحظ بابًا في "الرسائل الأدبية" سمَّاهُ "تعليمُ النَّحْوِ والرِّيَاضَةِ"يقول فيه:" وأمّا النّحو فلا تشغل قلبه منه إلّا بقدر ما يؤدّيه إلى السَّلامةِ من فاحشِ اللّحنِ، ومِنْ مِقْدارِ جَهْلِ العَوامِّ فِي كتابٍ إِنْ كَتَبَهُ، وَشِعْرٍ إِنْ أَنْشَدَهُ، وشَيءٍ إِنْ وَصَفَهُ. ومَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مَشْغَلَةٌ عَمَّا هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَمُذْهِلٌ عَمَّا هُوَ أَرَدُّ عَلَيْهِ مِنْهُ مِنْ رُوَايَةِ اَلْمَثَلِ والشَّاهِدِ، واَلْخَبَرِ الصَّادِقِ، والتَّعبيرِ البَارِعِ.وإنّما يرغب في بلوغ غايته ومجاوزة الاقتصار فيه، من لا يحتاجُ الى تعرُّفِ جَسيماتِ الأُمُورٍ، والاستنباطِ لِغَوامِضِ التَّدبُّرِ، ولمصالحِ العِبَادِ والبِلادِ، والعلمِ بالأركانِ والقطب الذي تدور عليه الرّحى؛ ومن ليس له حظٌّ غيره، ولا معاشٌ سِوَاهُ. وعويصُ النَّحو لا يجري في المُعاملاتِ، ولا يُضطرُّ إليه شيءٌ"(17). (1) للاستزادة ينظر: كتابي (صلة النحو العربي بعلوم الشريعة الإسلامية واللغة)، منشورات نادي جازان الأدبي، المملكة العربية السعودية، 1424ه. (2) معجم الأدباء (1/54). (3) ينظر: البيان والتبيين (1:232). (4) ينظر: المقدمة (ص545). (5) ينظر: مقدمة ابن خلدون (ص558). (6) ينظر: المقدمة (ص545). (7) ينظر: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ت الحوفي (1/44) (8) ينظر: مجالس ثعلب (1/310). (9) ينظر: الفصل الحادي عشر – باختصار – من كتاب: "لمع الأدلة، في أصول النحو" لأبي البركات كمال الدين بن محمد الأنباري، المتوفي سنة 577 ه. (10) ينظر: الكامل في اللغة، للمبرد (2/19)، وصبح الأعشى (1/206). (11) ينظر: دلائل الإعجاز (ص: 42) (12) ينظر: اللؤلؤة في علم العربية، (ص15). (13) ينظر: الإيضاح في علل النحو (ص41). (14) ينظر: رسائل ابن حزم: 4/94، 95). (15) الخصائص (1/35). (16) شرح عيون الإعراب (ص123). (17) الرسائل الأدبية، (ص:250).