العلاقات السوية والمنتجة بين الأشخاص وبعضهم مرهونة بتحقق أطرافها، فضلا عن شرط المعرفة، وهو ما يمكن وصفه إجمالا بالندية؛ إذ لابد لهؤلاء الأطراف أن يعرف كل منهم نفسه، والآخرين، ودوافع العلاقة وطبيعتها، ليتبين أي المسارات سوف تسلك هذه العلاقة، وأي القواعد سوق تحتكم لها لتحقق غايتها. كذلك الأمر تماما ما بين الأشخاص والأشياء، إذ هي – الأشياء – في حقيقتها تجليا لقيمة جمالية أو استعمالية، أو جامعة لهما. نحن المتعاطين مع التراث العربي مشتبكون معه في علاقة شديدة الاضطراب؛ لا نحن علمنا عن ذواتنا ما يكفي، ولا اطمأنينا إلى تعريف غير مضطرب للتراث نفسه، ولا نحن استقرينا على غاية من هذه العلاقة التي يمكن – بضمير مستقر – وصفها بالمريبة؛ كثيرون يرون هذه العلاقة سببا وحيدا في مشكلاتنا المعاصرة كلها، مقابل آخرين يرونها الصراط الوحيد للخلاص، وتعاملوا مع التراث كما يتعامل الطفيلي مع الكائنات الحية، معتبرين أنه الرافد الأوحد للحياة، فانكبوا يمتصون منه من غير تميز لما يمكن استهلاكه وما لا يمكن، وقسم ثالث ينادي بالقطيعة المعرفية المنتجة مع التراث وهو الذي ننتصر له، إذ لا بد – كما جرت العادة – أن ننتصر لفريق. ورغم التنامي الظاهر في دراسات مبحث التراث، إلا أن معظم الدراسات مازالت تسعى للبرهنة على إحدى وجهات النظر الحاكمة للعلاقة بين التراث وآلية تشكله من جهة وبين الراهن العربي المتردي، لتأتي النتائج سابقة على الدراسة بكون الاتصال به هو السبب أو الانفصال عنه هو السبب، إلا قليلا من الدراسات الموضوعية التي عمدت إلى تحليل المنتج التراثي بعد تنقيحه، دون إغفال تباين السياق والقيم والمعايير الحاكمة للمجتمع المنتج لما وصلنا من تراث، ومجتمعنا الراهن. كذلك حال المنتج الإبداعي المعاصر، والذي تقاطع مع التراث العربي وفق زاوية من زوايا الرؤية الجاهزة، فأبدع ضمن شكل من أشكال العلاقة التي تحكم الإبداع عموما والسردي تحديدا بالتراث، والتي لخصها سعيد يقطين في كتابه "التراث السردي والرواية" قائلا "كثيرة هي النصوص السردية العربية الحديثة التي تشكلت على قاعدة إحدى العلاقات التي تقيمها مع التراث السردي العربي القديم، ويمكننا ضبط مختلف أوجه هذه العلاقات الكائنة والممكنة من خلال الشكلين التاليين: الانطلاق من نوع سردي قديم كشكل، واعتماده منطلقا لإنجاز مادة روائية، وتتدخل بعض قواعد النوع القديم في الخطاب، فتبرز من خلال أشكال السرد أو أنماطه أو لغاته أو طرائقه. الانطلاق من نص سردي قديم محدد الكاتب والهوية، وعبر الحوار أو التفاعل النصي معه، يتم تقديم نص سردي جديد (الرواية)، وإنتاج دلالة جديدة لها صلة بالزمن الجديد الذي ظهر فيه". يقطين يتحدث عن التراث بوصفه المنتج الأدبي التراثي، أو "النص التراثي"، الذي يشمل عنده النصوص المكتوبة والسير أو الحكايات الشعبية والمرويات التي اعتبرها معظم النقد الأدبي "لا نص"، وفي الحقيقة قد يكون الأدب – بصورة ما – معبرا عن طبيعة المجتمع الذي أنتج فيه، وقد لا يكون إلا معبرا عن بعض شرائحه دون غيرها، وقد واجهت الدراسات الأدبية – وما زالت – معضلة في تحديد مفهوم التراث، وبالطبع يمكن الاستفادة من الدراسات المختلفة التي عنيت بالبحث أو المقاربة بين التراثي والمعاصر لدى الباحثين المعاصرين، وليست مصادفة أن كلها تقريبا دراسات معنية بالفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، سواء منظور أركون لتركيبة الخطاب التراثي، إلى جانب آلية الدراسة التي وضعها الجابري للتراث بوصفه ذات، وكذلك ما قدمه حسن حنفي، وحتى أدونيس، وقد يكون تعريف نصر حامد أبو زيد "التراث دعامة من دعامات وجودنا، وأثر فاعل في مكونات وعينا الراهن، وأثر قد لا يبدو للوهلة الأولى بينا واضحا ولكنه يعمل فينا في خفاء، ويؤثر في تصوراتنا شئنا أم أبينا" هو الأقرب لحقيقة الدور الذي يقوم به التراث، ولكنه في الوقت نفسه تعريف يؤكد معضلة الدارس المعني بالقياس والتحديد والإبانة. لهذا، قد يكون من المفيد أن نتعامل مع التراث بوصفه ثقافة، أو نمطا للإنتاج، له معايره الجمالية، وقيمه الاستعمالية، وآلياته الخاصة لإنتاج الدلالة وتلبية الحاجة، بين تاريخين. ربما تساعد هذه النظرة في التخلص من حيرة الوقوف أمام صور متعددة من التراث وطرائق كثيرة لدراسته "مادية – روحانية – عقلانية...الخ" وتجمعها باعتبارها دعائم نمط الإنتاج، ومعيار القيمة. إن اعتمدنا هذا التعريف وعدنا إلى السرد العربي الحديث، لن نستطيع الاطمئنان إلى أن تقلص أنواع السرد العربي الحديث وانحصارها في الرواية والقصة القصيرة هو تطور بمعناه الإيجابي؛ إذ لا يستطيع عقلي تصور أن فعل التخلي أو فقد أدوات وإمكانات هو تطور. بالنظرة السريعة على التراث – ودون الخوض في نظريات تطور الأجناس الأدبية – يبهرنا تعدد أشكال السرد القديم، ما بين المقامة والسيرة الشعبية والخطبة والخبر وغيرها من الأشكال التي أنتج من خلالها المجتمع دلالاته ومعانيه، وعبر من خلالها عن أفكاره وقيمه، فضلا عن الشعر الذي حمله العربي أهمية جعلت النقد الحديث ينظر له باعتباره التعبير الأقرب عن روح الثقافة العربية، بل ذهب بعض النقاد للبحث فيه عن بذور السردية في محاولاته لتصوير حياة الناس واقعا. وهو ما أكد عليه تعاطي الشعراء المعاصرين مع التراث؛ إذ تتنوع أشكل تقاطع الشعر الحديث مع الموروث بشكل فاق ما فعله السرد بأشواط، سواء كان هذا الموروث شعرا أو قرآنا أو سيرة أو حتى أسطورة. الآن قد يبدو الوقت المناسب للتعرض لنماذج شهيرة من الكتابات السردية المعاصرة التي تقاطعت مع التراث، مثل "الزيني بركات" و"وقائع أبى النحس المتشائل" و"رب الحكايات" و"حسن السماع وطيب المقام"… وغيرها، لنجد أنها لم تبدع علاقة جديدة معه خلاف النمطين الذين حددهما يقطين سلفا، حيث حققت الاستفادة إما على مستوى استعارة البنية أو اللغة أو حتى من خلال التفاعل والتحاور مع نص موروث، إلا أنها ظلت أعمالا تحصر التراث داخل "نصوصه المكتوب"، دون العلاقات المعقدة والكامنة بين مكونات هذه النصوص. لكن – ولأن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو عليه – المسألة لا تنحصر في رؤية سطحية استهلاكية أو عميقة متفاعلة من ناحية المتعاطين مع التراث ضمن كتّاب السرد، ولا حتى في حصرهم لعلاقتهم بالتراث في التناص مع نصوصه، إنه نمط كامل من الإنتاج يهمل أدواته وإمكاناته من غير مبرر واضح. يقول إبراهيم صحراوي إن السرد بأنواعه المتعددة هو "أحد طرائق نقل الأفكار والقيم، ووسيلة من وسائل دورانها بين أفراد المجموعة الثقافية واللغوية الواحدة فيما بينهم وبين غيرهم، وأداة من أدوات صنع الوعي العام". في حال أدركنا تقاطع هذا التعريف مع تعدد أشكال السرد العربي القديم مقابل محدوديتها حاليا، مع اعتمادنا للحضارة بأنها الانتقال من المعقد إلى الأكثر تعقيدا، ندرك أننا نسير في الاتجاه العكسي للحضارة.